رمضان
كان فتحي - وهو صبي في العاشرة من عمره - ثائرا جدا على الرجال الكبار وعلى أبيه بنوع خاص، فمن حوالي ثلاثة أعوام على ما يذكر، طلب من أبيه أن يصوم رمضان، فقال له أبوه: لا يصح قبل أن تبلغ الثامنة، وكظم فتحي صبره وانتظر عاما طويلا على مضض، وحين حلت مقدمات رمضان من العام التالي وبدأ يرى «الفطرة» و«النقل» و«عين الجمل» تملأ الأجولة أمام الدكاكين، لم ينتظر حتى يفاجأ بالأمر الواقع، وإنما قبلها بكثير انتهز لحظة انسجام من لحظات أبيه، وفتحي يعرف أن لحظات الانسجام تلك تأتي في أول الشهر، انتهز الفرصة وذكره بما قاله في العام الماضي، وأردف هذا بقوله إنه خلاص قرر أن يصوم، وادعى أبوه النسيان التام في أول الأمر، ثم لما أخذ يذكره ويضيق عليه الخناق قال له: لا صيام لمن لا يصلي.
وكانت إجابة فتحي حاسمة صريحة إنه حتما سيصلي.
وحسب أن الأمر لن يكلفه أكثر من الوضوء والصلاة، ثم يتاح له بعد ذلك أن يصوم.
وكان في هذا متفائلا جدا إذ لم يتح له أبدا أن يصلي كما أراد.
فقد توضأ كما تعلم في المدرسة، وفرد «سجادة» أبيه ليصلي عليها، فإذا بأبيه يسبقه ويطويها، ولما سأله فتحي عن السبب أجابه بأنه يشك في وضوئه وطهوره، ويخاف على السجادة أن تلحقها النجاسة، فترك السجادة وصنع لنفسه مصلى من جلبابه القديم النظيف، ولم يعترف أبوه أبدا بطهارة الجلباب، وبالتالي لم يعترف بصلاته، وقرر فتحي حينئذ أن يجبر أباه على الاعتراف فيذهب ويصلي في الجامع.
وملأه الجامع روعة وأحاسيس رنانة فيها دمدمات موسيقية ضخمة، يكح المصلي من هؤلاء فيكح فراغ الجامع الهائل كله، وإذا قيلت: بسم الله الرحمن الرحيم، فسرعان ما تتضخم وتتضخم، وترن وترن، وتكبر وتكبر، وتموج وتلد بسملات أخريات تتصادم وتتكسر عند الجدران العالية الملساء.
ويكون الجو في الخارج نارا وقيظا والجامع وحده هو الذي يحفل بطراوة ممدودة حاوة ترد الروح، ويكون الضوء في الخارج فظيعا في كثرته وقوته ولكنه يتهادى في النهار إلى الجامع من البرج الذي في أعلاه المصنوع من زجاج ملون ويسقط منه على المصلين فيلونهم تلوينا جميلا، وجه يبدو أحمر والرقبة التي بجواره زرقاء، وعمامة صفراء، وعين بنفسجية، وفي الليل تضيء الثريات، يا سلام على نورها الكثير وبلورها الذي يشع وينور ويزغلل.
أما المصلون أنفسهم فكان فتحي لا يحبهم إلا إذا صلوا جماعة واصطفوا صفوفا وراءها صفوف في نظام وخطوط مستقيمة، ويقول الإمام: الله أكبر، فيردد المصلون جميعا وراءه: الله أكبر، وكلهم في نفس واحد، وكأنهم رجل واحد، كبير جدا أكبر من سيدنا الحسين، وصوته ليس مرتفعا يخيف، إنما صوته يرن رنينا حلوا يحس معه فتحي أنه لا يصدر عنه وإنما يصدر عن ملائكة كثيرين يملئون صدر ذلك الرجل الكبير.
ثم الأروع من هذا حين يسجد المصلون ويراهم فتحي باركين على الأرض، باركين، مئات الظهور المنحنية كلها متشابهة وإن اختلفت في ألوان ملابسها، صانعة بهذا سجادة عالية محببة مزخرفة بكل الألوان تفرش المسجد من الحائط للحائط.
Неизвестная страница