وجلسا خلف الحائط ينعمان بمقدم الدفء ولم يكن حولهما سكون ولا صمت، فعلى شجر الكافور وقفت مئات العصافير تتقافز وتغني وتزاول الحب وتثير باحتفالها الكبير الحياة في قلب الجبانة.
وبعد قليل ضاق حمزة «بجاكتة بيجامته» فخلعها ووضعها فوق رأسه، وراح يحدث فوزية عن اللجنة التي قرر تكوينها منه ومنها ومن سيد وسعد، وعن مشاريعه لإحالة المدافن إلى ترسانة تستطيع بواسطتها اللجنة أن تقود كفاحا لا يلين لتعبئ الرأي العام وتستأنف المعركة.
وأبدت فوزية امتعاضها لتكوين اللجنة على تلك الصورة، متشككة فيما يمكن أن تقوم به عناصرها الضعيفة، ولكنه راح يحدثها في هدوء واتزان عن نقط البدء، وعن الأحلام والواقعية، وعن أن الثوار الممتازين لا يستوردون من الخارج ولا يهبطون من السماء، وأن عليهم البدء من حيث هم ومن العناصر التي في متناول أيديهم، وكلفها بالذهاب إلى سعد وإحضاره .
وحدثته فوزية هي الأخرى عن خطتها حيال لجنة المدرسات، وكانت تبالغ في تلك الخطط حتى أنها أبدت استعدادها لتكوين جيش منظم من النساء في ظرف شهور.
وكان حمزة يحس أن مبالغتها صادرة عن حماس حقيقي، وتطرق الحديث إلى أبيها وكلامها معه عن الزواج وموافقته بشرطين: أن يرى حمزة، وأن يسكنا معا في نفس البيت، وكان أمل فوزية كبيرا في إمكان تنازله عن الشرط الثاني، واتفق معها على أن يذهب لطلب يدها من أبيها رسميا في نفس الليلة، وكان الميعاد الذي اتفقا عليه أغرب ميعاد لخطوبة، الحادية عشرة مساء، على ألا يعلم أحد غير الوالد وألا يخبر بعلمه أحدا.
وأصرت فوزية على أن لا بد من موافقة عائلته، وأن مجرد إرساله خطابا لا يكفي، ولم يكن هناك حل سوى أن تسافر وحدها إليهم لتراهم ويروها ثم تعود برأيهم.
وسألها حمزة إن كانت قد أخبرت إياها عن عائلته، وكانت قد فعلت، فقال لها أبوها: ما دام انتي عاوزاه اجوزيه، إن شا الله يكون أبوه عطشجي. وضحك حمزة كثيرا متسائلا عما يكون رأيه لو عرف أن العطشجي وظيفة كبيرة جدا بالنسبة لعامل دريسة.
وكان حمزة في هذه الأثناء قد توسد فخذها اللينة الناعمة، والحديث كان يدور في نغمات هادئة مستحبة تغري بالإبطاء والاستمتاع بكل كلمة، وأجبرتهما كثرة الدفء على العودة إلى الحجرة، وأخبرها حمزة وهما يدخلان من الباب أنه يرشح أم محمود لعضوية اللجنة، ولم تصدق فوزية وأثارت جدلا طويلا انتهى باقتناعها كالعادة، وبابتسامة تسليم، ولمعت شفتاها وهي تبتسم في الحجرة نصف المظلمة، وأحب لمعة شفتيها تلك حين استحالت حمرتها من لون إلى نور، وأحب وجهها القريب منه وكأنه يراها لأول مرة، بل خيل إليه أن ملامحها قد تغيرت وأصبح لها نكهة كالقهوة حين تحلى بالعنبر، وأحس لرؤيتها الجديدة برغبة جامحة في تذوقها واعتصار كل ما في ملامحها وشفتيها من نار ونور ونكهة ليروي تيارا من القلق اللاسع كان يجتاحه في تلك اللحظة.
ولم يقاوم رغبته تلك، ولم تقاوم فوزية ، واقشعر جسده بفرحة حب وهو يحس بها، بحبيبته، بفوزية تعتصر شفتيه هي الأخرى في ثورة عارمة مكبوتة، وظمؤها إليه يكاد يطغى على ظمئه إليها.
وولد فيه ذلك إحساسا غامرا بالاطمئنان، وبأن ما بينهما من حب قد أصبح لا يختلط بالخوف والرهبة والتشكك والخجل، وكلاهما قد وثق وأدرك أن ما يكنه الآخر له حقيقة واقعة يلمسها في كل خلجة من خلجات رفيقه وفي كل كلمة ونظرة وضحكة.
Неизвестная страница