وعادت إحداهن تقول بعد أن فرغت من ضحكها: ولكننا نسكن في الزمالك يا تيسير. - وهل نشتري نحن حاجاتنا من مصر؟
وضحك الجميع مرة أخرى، ونظر إلي تيسير بك: ما رأيك في هذا الكلام يا أيمن؟
لم أكن أتوقع السؤال، ولم أعد له، ونوع الحديث غريب علي في هذا المكان ومن هؤلاء الناس، فوجدت نفسي حائرا، ولكنني مع ذلك قلت دون وعي: معقول.
وجعلت همي في هذه الجلسة مطالعة وجوه الجالسين من سيدات ورجال، واختطفت عيني بعض ابتسامات رمت بها إلي نسوة منهن، لا أدري إن كن زوجات أم أخوات أم بنات، ولكن الذي أدريه وأؤكده أنني أكملت الجلسة تائها، وما إن وصلت إلى بيتي حتى أمسكت بالصفحات الثمانين التي كنت كتبتها في رواياتي ومزقتها جميعا، وألقيت بها إلى النار حتى لا أحاول بعدها أن أعود إليها.
لقد كانت الرواية عن المجتمع المصري الجديد، وقد تبين لي في لحظة أنني لا أعرف أي شيء عن المجتمع المصري الجديد.
تبين لي أن العضوية لا بد منها؛ فقد صرت بعد ذلك أذهب منفردا إلى النادي وأنتظر تحية به، أو تذهب هي وتنتظرني هناك، بل إنني مع الأيام وانشغال تحية أحيانا بأشياء أخرى غير النادي كنت أذهب وحدي؛ فأنا أعد غريبا عن الشلة. واتضح لي أنني من النوع الذي تحب النساء أن تلقي إليه بأسرارهن، وقد توطدت صلتي بثلاث من السيدات اللواتي كن معنا في الجلسة الأولى، هن: إلهام عبد المولى، فقد اتضح أنها زوجة تيسير بك، وقد عرفت أنها من أسرة غنية أصابها الغنى في الفترة الأخيرة، ويتاجر أبوها في الغزل الذي يبيعه لأصحاب الأنوال الخاصة، وقد بنى من هذه الخيوط الواهية ثلاث عمارات، كما اشترى مائة فدان تزرع بالعنب في المحلة، وليس له من أولاد إلا ابنته إلهام وابنه شريف، وقد تعرف زوجها تيسير بك بأبيها في ساحة شركة الغزل، وعين له ابنه وتزوج ابنته. وإلهام فتاة تدرك فارق السن بينها وبين زوجها، وتدرك تماما رغبة أبيها في الانتساب إلى صاحب لقب، ورغبة زوجها في الانتساب إلى صاحب غنى. وتحب إلهام أن تنتفع من لقب زوجها ومن غنى أبيها، وعن هذين الطريقين المفروشين بالورد والياسمين تحب إلهام أن تكون سيدة مجتمع، تنشر الجرائد صورها، وتتابع بالكاميرا خطواتها وحركاتها. - هل توزع كثيرا جريدة الأيام؟ - أعتقد أنها في القمة. - أعرف ذلك، فأنا من الذين يهتمون بتوزيع الجرائد. - إذن، فأنت تمتحنين معلوماتي. - الحقيقة أنني أعجب بمقالاتك. - أتظنين أن لمقالاتي صلة بالتوزيع؟ - كل ما يكتب في الجريدة يعمل على حسن التوزيع. - أخجلتم تواضعنا. - ولكن الإعلانات عندكم أقل من بعض الجرائد الأخرى. - أرى أنك خبيرة في الصحافة. - هل تعمل في الإعلانات؟ - أنا! أبدا، أنا أكتب في الأدب فقط. - مغفل. - نعم؟ - ألم تسمع؟ - المصيبة أني سمعت. - فما هذه الدهشة ؟! - لم أتوقع أن تشتميني بهذه السرعة. - إذا أحببت شتمت. - يا بخت زوجك. - أنا لا أشتمه. - يعني؟ - هل يعقل أن أشتم رئيس مجلس الإدارة؟ - هل هو في البيت رئيس مجلس الإدارة؟ - في كل مكان. - أراه ظريفا. - في مثل سنه لا بد أن يكون ظريفا. - هل يرتبط الظرف بالسن؟ - عند رؤساء مجالس الإدارة. - آه! - أليس نصر بك ظريفا؟ - كنت أظن أنني وحدي الذي وصلت إلى هذه النظرية. - أي نظرية؟ - كل رئيس مجلس إدارة رجل ناجح، كل رجل ناجح ظريف. - كل رئيس مجلس إدارة ظريف. - فلماذا يقولون عنك مغفل؟ - لا يقولها إلا من يحبني. - ومن يحبك ينصحك أن تعمل في الإعلانات. - وأترك الأدب؟ - لماذا تتركه؟ - تقصدين؟ - أنت محرر في جريدة كبيرة، واستطعت عن طريق حماك الظريف أيضا أن تتعرف على رؤساء مجالس إدارة ظرفاء. - والله فكرة. - غدا سأقدم إليك أمرا بنشر إعلان على نصف صفحة. - عظيم. - وأنا، أليس لي عمولة؟ - أنت تريدين عمولة؟ - من نوع خاص. - مثل ماذا؟ - أن تنشر صورتي في باب المجتمع، ثم تنشر عني خبرين على فترات تقررها أنت. - بسيطة.
الواقع أن الغنى يغري بالغنى. قد يظن البعض أن قبولي العمل بالإعلانات طفاسة، فأنا أعيش في بيت لا أدفع له أجرا، وأركب سيارة لم أدفع ثمنها.
وكل ما أتكلفه بضعة جنيهات أتظاهر بها أنني أواجه مصاريف البيت، ولكن هذه التكاليف على ضآلتها لم تكن تترك لي من المال ما أستطيع أن أتصرف فيه بمحض إرادتي، ولم يكن قد مر على زواجي فترة تسمح لي بأن آخذ من زوجتي مصروف جيبي، فإذا لم أعتمد على مواهبي في الحصول على المال، فلن يجد هذا المال سبيلا إلى جيبي، ووجودي إلى جانب زوجتي وأبيها وأمها يرغمني على أن يكون لي جيب فيه مال، وإلا أصبح لوني غير لائق بقماشهم.
أما السيدة الثانية فهي نيمت وهبي، وحقيقة اسمها نعمات، حذفت الألف، ثم انقلبت العين ياء، فكانوا ينادونها نيمت. وهذا المجتمع الذي انضمت إليه يجب أن يجهل الأسماء ويدلل أصحابها، ولكن هذا لا يمنعه أن يعرف كل خافية من تاريخ عناصره، ثم يلذ له أن يلوك هذا التاريخ لكل جديد وافد عليه. وقد عرفت تاريخ نيمت من إلهام عبد المولى، وعرفت تاريخ إلهام من نيمت، وعرفت من كلتيهما تاريخ عزيزة راشد.
نيمت، حين كانت نعمات، كان أبوها يعمل في السكرتارية في وظيفة تمكنه من معرفة أسرار رئيسه، وقد كان ينقل هذه الأسرار في أمانة إلى كبير آخر يكيد لهذا الرئيس، وحين تم للكبير ما يريد وأقصى الرئيس عن سلطانه نظر إلى وهبي عبد العال وأراد أن يبعده عن منصبه؛ فالذي يخون رئيسه في أمانة يستطيع أن يخون رئيسا آخر بنفس الأمانة، وكان وهبي ذكيا، وكان يدرك أنه لا بد مبعد عن وظيفته، ولم تكن وظيفته تعنيه كثيرا؛ فقد كان يضمر أن يطلب لنفسه مكانا قصيا. وتم له ما أراد، فعين في وظيفة تمكنه أن يتصل بالبلاد العربية ودول الخليج، وما لبث أن أنشأ تجارة مع هذه البلاد في الخردة، وما هي إلا لفة صامولة حتى صار غنيا باذخ الغنى، وصارت ابنته نيمت لا نعمات، وتكاثر خطاب نيمت، ولكنه بعين راصدة خبيرة كان يختار الأحسن دائما، فتزوجت من نجم لامع في الاتحاد الاشتراكي، ما لبث أن صار أمينا لإحدى الأمانات الكثيرة التي لا أستطيع أن أتذكرها ولا يهم أن أتذكرها.
Неизвестная страница