Новые и старые: исследования, критика и обсуждения
جدد وقدماء: دراسات ونقد ومناقشات
Жанры
ليست معرفتي به على قدر إعجابي بما تفرد به من حلو الكلام ومره ، فأنا لم أره غير مرة في الحياة، التقينا عند المصور الشهير أسعد دقوني، وكان مرافقه الخاص يوم جاء لبنان الصحافي العصامي المرحوم جبران التويني، فتعارفنا على يده، وكان تسليمنا وداعا كما قال الشاعر.
رأيت فيه يومئذ رجلا أعرج قليل الظل، ذا عينين كأنهما محاجر مسك ركبت فوق زئبق، ثم كنت أقرأه بإمعان وأستقري أخلاق من خلال ما يكتب، فإذا بي أراه جبارا ولا ذا عنجهية وإن كان ذا عاهة، فهو في نظري إن صدقت تلك اللحظة العابرة، حمل كتاب عصره الوديع، لا يتنفش ولا يتفرعن، لم يغرق في السياسة لأذنيه، لم يكن أهوج الحزبية، فظل حيث هو لم يته في مجاهل السياسة، فعاش أديبا ومات أديبا.
كان «أمن» عبد القادر كما كان يسميه ذاك الناظر الأخن، مثال الأديب العربي المثقف، وإن زعم لنا أنه لم يعرف من النحو غير اسمه، لم يقطع المازني الصرة بينه وبين القديم، ولم يتنكر للجديد، فجاءت عبارته حلوة ذات ألوان طريفة حديثة، ليست بالقديمة الغريبة ولا هي بالجديدة المبتذلة، تلمع شخصيته في خلال سطوره، حتى في المواضيع الجافة التي لا تجد فيها الشخصية منفدا تبرز منه.
لم يرفض المازني الألفاظ العامية الفصيحة، ثم استكفى بروحه الفنية عن الالتجاء إلى الفصاحة والبلاغة؟ فكان له من ظرفه وخفة روحه أكبر عون على نفخ الحياة في كتابته التي تستحلى وتستملح، ناهيك بأنه الكاتب اللبق الذي لا يتعالى ولا يطرق المواضيع التي تظهره بمظهر العلماء الكبار، بل يعالج - وخصوصا حين شيخ - المواضيع المتصلة بالحياة اليومية، قلما عناه أن يناقش فيلسوفا كبيرا عالميا ليريك أنه من أقرانه أو أعظم منه، كما يهم من يخطئ بالأقلام الحسابية الأربعة أن يناقش أينشتين، وقد يخطئه ولا يستحي، إن المازني يفعل غير ذلك فاسمع كيف يحدثنا عن نفسه في مقال عنوانه «في الكتب»:
وتمنيت وأنا أدير عيني في كتبي على رفوفها، لو أن هؤلاء الألمان الذين يتفلسفون علينا بما لا نفهم، بينوا لنا أو لي أنا على الأقل، ماذا يريدون أن يقولوا: عجيب أمرهم والله! قرأت مرة لأحدهم وأظنه «هجل» كتابا في فلسفة التاريخ فخرجت منه كما دخلت، وقلت لنفسي: إما أني حمار، وإما أن هذا الرجل لا يحسن العبارة عما في رأسه، ولكنني أفهم عن غيره، فلماذا أراني لا أفهم عنه!
ودارت الأيام ووقع في يدي كتاب لرجل أميركي اسمه دريبر، يكتب كما يكتب خلق الله، لا الألمان، فإذا فيه فصل طويل عن العرب يعد تطبيقا لنظرية هجل التي لم أفهمها، فسألت نفسي: لماذا لم يكتب «هجل» كما يكتب هذا الرجل؟ ثم عدت أسألها وأتعجب: لماذا فهم «دريبر» عن «هجل» ولم أفهم أنا عنه؟
وأسأت الظن بنفسي، واعتقدت أن بي نقصا في التدريب العقلي، وراجعت هجل وكررت إلى هؤلاء الألمان المعوصين كرة المصمم المستميت، ولكن مضغ الجلاميد أعياني، فنفضت يدي منهم ومن نفسي يائسا، وقلت: يا هذا، لقد صدق القائل: كل ميسر لما خلق له، وأنت لم تخلق لتقرأ فلاسفة الألمان، فارجع عنهم وانج بنفسك منهم.
ألا ترى معي أن أستاذا غير المازني لا يعترف هذا الاعتراف، بل يعد ألف هجل حمارا.
والمازني قرض الشعر أولا كما سبق القول، ولكنه لم يصر على النظم مغالطا نفسه، بل أدرك ما في شعره من سماجة، فعدى عن النظم الذي كان يجيء فيه بالغث، ويحسب أنه صنع شيئا، ولم يكتف المازني بإرشاد نفسه، بل كثيرا ما نصح غيره ليعدي عما لا يجيد فيه، تراه مثلا في آخر عبارة من كتابه «قبض الريح» ينصح أحد رفاقه في الشوط الأدبي الأول، قائلا له: إن «الأستاذ» - أي الدكتور طه حسين - ليحسن جدا إلى نفسه إذا تحاشى الخروج من النقد العام الذي يسهل مع التحصيل، إلى النقد التطبيقي أو الدراسات الفردية.
أجل لم تطب نفس المازني بشعره فارعوى حين ضل، وانصرف إلى النثر فأحسن صنعا؛ لأنه لم يبل الأدب العربي بمنظومه بل أسكره بمنثوره، فكان نثره هذا مرقاة له فعرج إلى سماوات الفن، فهو ولا شك واحد من أعاظم كتابنا الفكهين الساخرين.
Неизвестная страница