وعبثا حاول النوم ليريح جسمه وأعصابه، فبقي حينا يتقلب في سريره وكله قلق وحيرة واضطراب، ثم لاح له أن يكتب إلى سلمى خطابا ينبئها فيه بما كشفه من غدرها ونفاقها، فنهض وجلس إلى المنضدة التي إلى جوار السرير بعد أن أغلق باب الغرفة، وأخذ يكتب إليها ذلك الخطاب قائلا فيه:
إلى الآنسة سلمى
أكتب إليك هذا الخطاب ولست أدري هل أستطيع الاستمرار في الكتابة حتى أتمه، أم أنتقل من الدنيا إلى الآخرة قبل ذلك. فأنا أكتب الآن ونار الحمى تتقد في رأسي وبدني، ورعشتها تهز القلم في يدي. ولكن هذا كله ليس شيئا يستحق الذكر بجانب ما يعتمل في صدري وقلبي.
وقد حاولت أن أمسك عن الكتابة إليك، بعدما تحققته من أمرك، ولكني خشيت أن أقضي نحبي قبل أن أطلعك على معرفتي بخبيئة نفسك، وبكل ما حسبت أنه سيخفى علي.
آه يا سلمى! وا أسفاه على الأيام التي قطعتها معتقدا طهر حبك وإخلاصك، حريصا على أن أكذب ما أسمعه عنك برغم وضوح صحته، وقيام الأدلة والقرائن كلها ضدك.
حتى والدتي يا سلمى، عققتها لأجلك، ولم أستمع لما كررته من النصح لي بالابتعاد عنك، رغم إنذارها إياي بأنها لن ترضى عني أبدا ما دمت على صلة بك، وبأنها ستموت حسرة وغما إن أبيت إلا التعلق بحبائل هواك.
وقد ساقت إلي الأقدار رجلا لم أعرفه ولم يعرفني من قبل، فسمعت منه اتفاقا قصة علاقته السابقة بك، وكيف انخدع بما أظهرت له من الوفاء والإخلاص، ولم يدخر في سبيل رضاك جهدا ولا مالا، ثم إذا به يستكشف مصادفة أنك عالقة القلب بسواه. وشد ما أسفت وتحسرت حين كشف لي الرجل عن اسم غريمه ومنافسه فيك، فإذا هو صديق لي طالما اعتقدت وفاءه وإخلاصه، وأنزلته من قلبي منزلة الأخ الشقيق، غير عالم بأنه مثلك داهية في المكر والخداع والنفاق!
وأخيرا، وقعت في يدي بعد خطابك الأخير ورقة بخط يدك، تبثين فيها ذلك الصديق، بل ذلك العدو، ما تكنين له من شدة الحنين والاشتياق. فكان أن انكشف الغطاء عن عيني، وأدركت أن ما طالما سمعته منك، وما قرأته في خطابك الأخير، عن المحبة الطاهرة، وتضحيتك في سبيلها، لم يكن سوى خداع وتضليل!
وا أسفاه على خيبة الرجاء فيك يا سلمى! إني مرسل إليك مع هذا بالورقة المشئومة التي هي صك خيانتك ودليل خداعك ومكرك. تاركا لك أن تندبي المحبة الطاهرة التي طالما استحلفتني بها، وأن تذكري العبرات التي ذرفتها عند الأهرام، والعبارات التي نمقتها في خطابك الأخير لتظهري أمامي بمظهر الطهر والنبل والعفاف، ولتوهميني بأنك ما زلت الوفية الحافظة للعهود والمواثيق.
وا أسفاه على شدة إخلاصي وصدق محبتي لك يا سلمى! لقد أسلمت زمام قلبي لمن لا ترعى عهدا ولا ذماما!
Неизвестная страница