وعاد إلى البكاء حينا، ثم قال محدثا نفسه: «آه يا سليم! هل خطر ببالك أنك تصبح ألعوبة بيد الحب وأنت أنت الذي لم تكن تعبأ بحوادث الزمان ولا بأي أمر من الأمور؟ آه يا إلهي! ماذا أعمل لأتخلص من هذا التردد؟ أأترك سلمى؟ كلا والله لا أتركها ولا أتخلى عنها؛ لأنها تحبني وقد علقت آمالها على وعدي لها بالزواج، وهي ملاكي وحبيبتي ومنتهى أملي. لا لا، لا أتخلى عنها لأني لا أدري ماذا يلم بها إذا علمت بترددي في محبتها. لا لا، يجب ألا أتردد، إنها كعبة آمالي. روحي فداك يا سلمى، لعلك الآن راقدة في فراشك وقد كحل عينيك الكرى، فنامي هنيئا ولا تزعجك الأحلام!»
وكان حبيب يسمع أقواله كلمة كلمة ويتمعن فيها لعله يستطلع من خلالها سببا لهذه التأوهات.
ثم سمعه يقول وقد أمسك نفسه عن البكاء ومسح عينيه بمنديله: «ماذا جرى لي؟ لماذا أنا خائف؟ إني خائف على سري أن يباح ولكن من يذيعه وليس هنا غير النيل شاهدا؟»
ثم سكت وأخرج ورقة من جيبه وتأملها في الظلام، ثم تنهد وعاد إلى البكاء وقال: «نعم، لا أتركك يا سلمى، ولكن ماذا أفعل بوالدتي التي زهدت في الدنيا كلها من أجلي، ربتني بدموعها وسهدها، فأدخلتني المدارس وعلمتني، وأنفقت كل شيء في سبيلي ولم تدعني أتحمل ضيما، وهي إنما فعلت ذلك آملة أن أكرس حياتي لخدمتها، وإنها أهل لأكثر من ذلك فكيف أخالف أمرها أو أعقها؟ لا لا، يجب أن أكون طوع إرادتها لأن أيامها في هذه الدنيا معدودة. يجب أن أفعل كل ما تأمرني به!»
وسكت ثم عاد فقال: «لا لا، إن والدتي تريد أن أتخلى عن سلمى حبيبتي، وأنا لا أستطيع أن أترك سلمى ولو تركتني روحي أو تركتني والدتي الحنون. إن سلمى وضعت كل آمالها في فكيف أخيب أملها وأتركها تموت حسرة وأسفا؟ سامحك الله يا والدتي! لماذا بالغت في نهيي عن الاقتران بها؟ ولماذا هددتني بأن تتركيني إذا لم أترك سلمى؟ أصحيح أنك لن تعديني ولدا لك إذا أصررت على زواجها؟ ويلاه ماذا أفعل؟ ليس لي إلا إنهاء حياتي فأتخلص من هذا التردد وألقي نفسي في هذا النيل.»
فلما سمع حبيب كلامه، تحفز للحاق به وإمساكه عن الانتحار غرقا، لكنه ما لبث أن سمعه يقول: «لا لا، إذا قتلت نفسي فإني أكون قد قتلت والدتي وحبيبتي أيضا، فهما ولا شك ستموتان حسرة بعدي.»
ثم رآه ينهض ويتحول عائدا إلى العربة، فتقهقر حبيب مختبئا خلف النخلة حتى لا يراه سليم فيكدره ذلك لحرصه على إخفاء ما به عن الناس كافة، وكانت العربة في انتظار سليم عند أول الشارع فركبها وأمر السائق فحول الأعنة وعاد به إلى المدينة.
وهنا رجع حبيب من حيث أتى، وهو يعجب لذلك الاتفاق الذي كشف له عن سر صديقه، وقد رثى لحاله وشعر بمقدار القلق الذي يعانيه، ولم يكن يعلم أن مشكلته معقدة إلى هذا الحد.
ونظر إلى الساعة فإذا بالليل كاد أن ينتصف، فهرول مسرعا إلى المحطة خوفا من أن يفوته القطار، فأدركه قبل إقلاعه بقليل.
وفي طريق القطار به إلى حلوان، عاد فأخرج الخطاب الذي تسلمه من مكتب البريد وأخذ يتأمله ويكرر تلاوته محاولا حل رموزه وكشف معمياته، لكن محاولاته لم تزده إلا ارتباكا، ولم يستطع أن يعرف صاحبة الخطاب لأنه كان يتردد على بيوت كثيرة في القاهرة ويشاهد فتيات كثيرات، ولم يكن يخطر له أمر الحب مطلقا؛ ولذلك لم يكن ينتبه لحركات إحداهن لخلو ذهنه من ذلك. على أنه مع هذا ظل يستعرض في ذاكرته من كان يزورهن كثيرا من أولئك الفتيات، وتذكر واحدة منهن كان يسر لمشاهدتها للطفها ورقة جانبها وتواضعها، وكانت من أكثر الفتيات رقة وتهذيبا، ولم يلحظ منها مطلقا أنها ممن يملن إلى المغازلة بل كان يراها بعكس ذلك لا تتكلم إلا بحساب، ولا تأتي ما يشتم منه رائحة الطيش، فاستبعد أن تكون صاحبة الخطاب.
Неизвестная страница