الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر
تأليف
شمس الدين محمد بن عبد الرحمن بن محمد السخاوي المتوفى سنة ٩٠٢ هـ
تحقيق
إبراهيم باجس عبد المجيد
دار ابن حزم
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ جميع الحقوق محفوظة الطبعة الأولى ١٤١٩ هـ - ١٩٩٩ م الكتب والدراسات التي تصدرها الدار تعبر عن آراء واجتهادات أصحابها دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع بيروت - لبنان - ص ب: ٦٣٦٦/ ١٤ - تليفون: ٧٠١٩٧٤
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ جميع الحقوق محفوظة الطبعة الأولى ١٤١٩ هـ - ١٩٩٩ م الكتب والدراسات التي تصدرها الدار تعبر عن آراء واجتهادات أصحابها دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع بيروت - لبنان - ص ب: ٦٣٦٦/ ١٤ - تليفون: ٧٠١٩٧٤
Неизвестная страница
مقدمة التحقيق
إن الحمد للَّه، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهده اللَّه فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٢].
﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: ١].
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (٧١)﴾ [الأحزاب: ٧٠، ٧١].
اللهم لك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، لك الحمد ربنا على أن هدايتنا للإيمان، ولك الحمد على أن علمتنا، ولك الحمد على آن ألهمتنا الحمد، فلك الحمد في الأولى، ولك الحمد في الأخرى، ولك الحمد في كل حين.
﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾.
والصلاة والسلام على خير الحامدين وخير الشاكرين، وخير الأنبياء والمرسلين، محمد بن عبد اللَّه، وعلى آله وصحبه، خير آل وخير صحب، ﵃ أجمعين، وحشَرَنَا في زمرتهم يوم الدين.
مقدمة / 5
وبعد، فهذه ترجمة لأحد أعلام الإسلام العاملين، الذين أثرَوا العلوم الإسلامية بالعديد من المؤلفات النافعة، ألا وهو حافظ عصره أبو الفضل شهاب الدين أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، المتوفى سنة ٨٥٢ هـ، كتبها تلميذه العالم الفذ أبو الخير شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي، المتوفى سنة ٩١١ هـ.
ولا أعلم أحدًا قبل السخاوي أفرد ترجمة ابن حجر بكتاب مستقل، وهذا ما قاله المؤلف أيضًا عند إيراده قول ابن الشحنة في ابن حجر (١): "وترجمته لا يسعها هذا المكان، وقد أُفرِدت بالتأليف، لكني لم أقف عليه"، فقال السخاوي: وكأنه ﵁ عنى تصنيفي هذا، فما علمتُ أحدًا غيري أفردها.
أما نسبة الكتاب للسخاوي، فأمر لا يختلف عليه اثنان، حيث ذكره هو نفسه في كتبه الأخرى، مثل الضوء اللامع، فذكره في عشرات المواضع،
منها: ١/ ٢١، ٥٦، ١٧٧، ٢٣٤، و٢/ ١١، ٤٠، ٥١، ٦٥، ١١٥، ١٢٨، ١٥٠، ١٩٠، ٢٠٨، و٣/ ٣٤، ٩٣، ١٥٦، ١٦١، ١٩١، ١٩٦، ٢٢٨، ٣٠٢، و٤/ ١٨، ٥٦، ٥٧، ٨٥، ٩٤، ١١٦، ١٩٦، ٢٠٢، ٣٣٧، و٥/ ١١١، ٢٢٣، ٢٩٥ و٦/ ١٢٩، ١٥٣، ٣٢٩، و٧/ ١٣، ١٩، ٣٨، ٨٦، ٨٨، ٩١، ١٦٠، ١٦٢، ١٧٨، ١٨٧، ١٨٨، ١٩٥، ٢١١، ٢٣٢، ٢٣٦، ٢٤٦، ٢٨٩، و٨/ ١٧، ٥١، ١٠٣، ١٢٤، ١٦٤، ١٧٧، ٢٢١، ٢٣٢ و٩/ ١٨، ١٠٧، ٢٥٩ و١٠/ ١٦٣، ٢٣٣، ٢٦١، ٢٦٣، ٣١٤ و١١/ ٥٥، و١٢/ ١١، ٣٤. وفي وجيز الكلام في الذيل على دول الإسلام ٢/ ٥٣٢، وفي التبر المسبوك ص ٣٢، ١٣٤، ٢٠٧، ٢٣٨، ٢٤٧، ٢٨٥، وفي التحفة اللطيفة ١/ ٩٩ - ١٠٠، وفي الذيل على رفع الإصر ص ٣٢، ٣٣، ٨٥، ٨٧، ٢٤٠، ٣٥٣، ٤٨٩، وفي الإعلان بالتوبيخ ص ٢٢٩.
وكذا ذكره من ترجم للسخاوي، مثل الشوكاني في البدر الطالع ٢/ ١٨٥، والنجم الغزي في الكواكب السائرة ١/ ٥٣ وغيرهم. منهم من ذكره بعنوانه الصريح، ومنهم من ذكر باسم ترجمة شيخه أو ترجمة ابن حجر، وخالف الجميع
_________
(١) ١/ ٣٢٩.
مقدمة / 6
في ذكر العنوان البصروي في مختصره "جمان الدرر"؛ حيث سماه "تناسق الدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر"، ولا أعرف مستنده في هذه التسمية.
وقد كتب اللَّه القبول لهذا الكتاب بين طلبة العلم، فتداولوه كتابة وقراءة ودرسًا على مؤلفه، وانتشرت نسَخُه في حياته في شتى الأمصار، حيث نجد النسخ المعتمدة في التحقيق كتبت كلُّها في حياة المؤلف، وأكثر من نسخة منها قُرِئت عليه، ودوَّن عليها الكثير من الزيادات والإضافات التي اجتمعت لديه في فترات لاحقة. وقد قال المصنف في ترجمة شيخه من كتاب "التبر المسبوك" ص ٢٣١: قد أفردت له ترجمة حافلة في مجلد ضخم، لا تفي ببعض أحواله وما له عليَّ من الحقوق، كتبها عنِّي الأكابر وتهادوها بينهم.
والكتاب وإن كان موضوعًا في ترجمة الحافظ ابن حجر، إلا أن فيه الكثير الكثير من الفوائد التي لا نجدها مجتمعة في كتاب مفرد (١)، والمؤلف ﵀ يستطرد كثيرًا في ذكر هذه الفوائد، حتى إنه في كثير من الأحيان يبتعد عن الموضوع الذي يبحثه، ثم يقول: "وكل هذا استطراد"، أو: "وذكرت هذا هنا استطرادًا"، أو: "وكل هذه استطرادات، لكنها نافعة" أو: "وإن خرجت عن المقصود". وشبه هذه العبارات.
وكانت فكرة جمع هذه الترجمة عند السخاوي تراوده في حياة شيخه الحافظ ابن حجر، حيث قال: "وكان وقع في خاطري جمع ترجمة شيخنا في حياته، والتمستُ منه أن يملي عليَّ منها ما لا أطَّلع عليه إلا من قِبَله".
إلا أن هذه الفكرة لم تولد إلا بعد وفاة الحافظ ابن حجر، وتحديدًا سنة ٨٧١ هـ، حيث فرغ السخاوي من كتابة هذه الترجمة في مكة المكرمة كما ذكر في نهاية الكتاب. لكن هذا التاريخ لم يكن نهاية المطاف بالنسبة للكتاب، إذ زاد مؤلفه فيه زيادات كثيرة في سنوات لاحقة، فكان كلما تجدَّد له شيء ألحقه في مكانه، فنجده عند حديثه عن مجالس الإملاء التي كان يتولاها شيخه، والتي انقطعت بموته وجددها هو، يقول: وزادت عدة ما
_________
(١) وضعت فهرسًا مستقلًّا لبعض الفوائد الواردة في الكتاب.
مقدمة / 7
أمليته منه إلى حين كتابتي هذه الأحرف في أثناء سنة سبع وسبعين على المائتين، ثم انتهت إلى أزيد من ثلاثمائة في أواخر سنة تسع وسبعين. ويقول في أثناء ثناء الأئمة على شيخه الحافظ: ومنهم جماعة بقيد الحياة في هذا الحين، وهو سنة ست وثمانين (١)، كما يذكر إنشاد أحد المادحين لابن حجر بقصيدة سنة ثلاث وسبعين (٢).
ويلاحظ أن بعض هذه العبارات لم يرد في نسخة ما، وورد في غيرها في أثناء النص، بينما ورد في نسخة ثالثة في الهامش بخط المصنف، ومرد ذلك إلى أن النسخة الأولى كتبت من نسخة لم ترد فيها هذه الزيادات، بينما الثانية كتبت عن الأصل المعدل، وسيأتي بيان ذلك عند وصف النسخ المعتمدة في التحقيق.
واختلاف التاريخ بين تأليف الكتاب وإعادة النظر فيه من قبل المؤلف، أدى إلى الاختلاف في بعض العبارات، فضلًا عن الزيادات الكثيرة الملحقة؛ فنجد في نسخة تتكرر عبارة "نفع اللَّه به" عند ذكره أحد الأشخاص، بينما استبدلت في النسخ الأخرى بعبارة "﵀"، أو "كان اللَّه له"، فهو عند كتابة النسخة الأولى كان ذلك الشخص على قيد الحياة، وقد توفي حال كتابة النسخة الثانية أو إلحاق الزيادات بها.
ومن الطريف أن اختلاف النسخ هذا يرشدنا إلى تاريخ سوء العلاقة بين المصنف وقرينه برهان الدين البقاعي، المتوفى سنة ٨٨٥ هـ، ومعلوم ما بينهما من ملاسنات ظهرت مسطورة على صفحات كتبهم، فالمصنف ﵀ كان أولًا عندما يرد ذكر البقاعي يقول: الشيخ أبو الحسن إبراهيم بن عمر البقاعي، أو الشيخ برهان الدين البقاعي، بينما نجد أن لقب الشيخ قد حذف من النسخ الأخرى المعدلة، ويزيد في هذه أشياء لم تكن موجودة في النسخة الأولى، بل هو فيها يشن الغارة على البقاعي، ويؤرخ ذلك في سنة سبع وسبعين وثمانمائة.
_________
(١) ١/ ٣٢٩.
(٢) ١/ ٤٩٣.
مقدمة / 8
ترجمة المؤلف
أفرد المؤلف ترجمة موسعة لنفسه في كتاب كبير سماه "إرشاد الغاوي بل إسعاد الطالب والراوي بترجمة السخاوي" (١). كما ترجم لنفسه ترجمة مختصرة أيضًا في كتابه "التحفة اللطيفة".
وكذلك ترجم لنفسه ترجمة مطولة في كتابه ذئاع الصيت "الضوء اللامع لأهل القرن التاسع"، حيث استغرقت الترجمة الصفحات ٢ - ٣٢ من الجزء الثامن من الكتاب، فرأيت من الخير إيراد هذه الترجمة مع شيء من الاختصار وحذف بعض العبارات والفقرات، ولعل اللَّه يفسح في الأجل، فييسر تحقيق كتابه "إرشاد الغاوي"، ففيه فوائد جليلة ولا شك، لا توجد في "الضوء اللامع" أو "التحفة اللطيفة". فأقول وباللَّه التوفيق:
[اسمه ونسبه:]
محمدُ بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر بن عثمان بن محمد، الملقب شمس الدِّين أبو الخير وأبو عبد اللَّه، ابن الزّين أو الجلال أبي الفضل وأبي محمد، السخاوي الأصل القاهريُّ الشافعيُّ، ويعرف
_________
(١) منه نسخة مكتبة لايدن بهولندا رقمها ١١٠٦ (٢٣٦٦. Or)، ونسخة ثانية في مكتبة أيا صوفيا بتركيا رقمها ٢٩٥٠. وقد زودني بمصورتهما مشكورًا أخونا الفاضل محمد ابن ناصر العجمي الكويتي، وفي النية القيم على تحقيق هذا الكتاب بعون اللَّه وتوفيقه.
مقدمة / 9
بالسَّخاوي، وربما يقال له: ابنُ الباردِ، شهرةً لجدّهِ بين أناس مخصوصين، ولذا لم يشتهر بها أبوه بين الجمهور ولا هو، بل يكرهها كابن عُلَيْبَة وابن الملقِّن في الكراهة، ولا يذكره بها إلا من يحتقره.
[مولده:]
ولد في ربيع الأول سنة إحدى وثلاثين وثمانمئة بحارة بهاء الدِّين، علو الدَّرب المجاور لمدرسة شيخ الإسلام البُلقينيّ محلّ أبيه وجدِّه، ثم تحوَّل منه حين دخل في الرابعة مع أبويه لمُلْكٍ اشتراه أبوه مجاورٍ لسكن شيخه ابن حَجَر.
[نشأته العلمية:]
أدخله أبوه المكتب بالقرب من المَيْدان عند المؤدِّب الشَّرف عيسى بن أحمد المقسيّ الناسخ، فأقام عنده يسيرًا جدًّا، ثم نقله لزوج أخته الفقيه الصَّالح البدر حسين بن أحمد الأزهري أحد أصحاب العارف باللَّه يوسف الصَّفِّي، فقرأ عنده القرآن، وصلَّى به للناس التراويح في رمضان بزاويةٍ لأبي أُمِّه الشيخ شمس الدِّين العدويّ المالكيّ، ثم توجَّه به أبوه لفقيهه المُجاور لسَكَنِهِ، الشَّيخِ المفيدِ النفَّاع القُدوة الشمسِ محمد بن أحمد النحريريّ الضَّرير -مؤدِّب البرهان بن خضر والجلالِ بن المُلقِّن وابن أسد وغيرهم من الأئمة، وأحد من علّق شيخه في "تذكرته" من نوادره، وسمع منه الطَّلبَةُ والفُضلاءُ، ويعرف بالسُّعوديّ، وذلك حين انقطاعه بمنزله لضعفه، فجوَّده عليه وانتفع به في آداب التجويد وغيرها، وعلّق عنه فوائد ونوادر، وقرأ عليه حديثًا والتحق في قراءته عليه بشيوخه، وتلاهُ في غُضُون ذلك مرارًا على مؤدّبه بعد زوج عمَّته الفقيه الشمس محمد بن عمر الطَّباخ أبوه، أحد قُرَّاء السَّبع هو، وحفظ عندهُ بعض "عمدة الأحكام"، ثم انتقل بإشارة السُّعودي المذكور للعلَّامة الشِّهاب بن أسد، فأكمل عنده حفظها مع حفظ "التَّنبيه" كتاب عمه، و"المنهاج الأصلي"، و"ألفية ابن مالك" و"النُّخبة"، وتلا عليه لأبي عمرو، ثمَّ لابن كثير، وسمع عليه غيرهما من الرِّوايات إفرادًا
مقدمة / 10
وجمعًا، وتدرَّب به في المطالعة والقراءة، وصار يشارك غالب من يتردَّد إليه للتَّفهُّم في الفقه والعربية والقراءات وغيرها.
وكلَّما انتهى حفظُه لكتاب عرضه على شيوخ عصره، فكان من جملة من عَرَضَ عليه ممَّن لم يأخذ عنه بعدُ: المحبُّ ابن نصر اللَّه البغدادي الحنبليّ، والشَّمسُ بن عمَّار المالكي، والنُّورُ التِّلْوانيّ، والجمال عبد اللَّه الزَّيتُوني، وكذا الزَّينِ عُبادة ظنًّا، فقد اجتمع به وبالشَّمس البِسَاطيّ مع جدّه، ثم حفظ بعدُ "ألفية العراقي"، و"شرح النخبة"، وغالب "الشاطبيَّة"، وبعض "جامع المختصرات"، و"مقدمة السَّاوي في العروض"، وغير ذلك مما لم يكمله.
وقرأ بعض القرآن على النُّور البِلْبِيسيّ إمام الأزهر، والزَّين عبد الغني الهيثمي "ابن كثيرٍ" ظنًّا، وسمع الكثير من الجمع للسَّبع وللعَشْر على الزين رضوان العُقْبِيّ، البعض من ذلك على الشِّهاب السّكندري وغيره، بل سمع (الفاتحة) وإلى (المفلحون) للسَّبع على شيخه بقراءة ابن أسد وجعفر السّنهوري وغيرهما من أئمة القُرّاء.
ولزم الأستاذ الفريد البرهان بن خضر أحد أصحاب عمّه ووالده، حتَّى أمْلى عليه عدَّة كراريس من مقدّمة في العربية مفيدةٍ، وقرأ عليه غالب "شرح الألفية" لابن عقيل، وسمع الكثير من "توضيحها" لابن هشام وغيره من كتب الفنِّ وغيره. وكذا قرأ على أوحد النُّحاة الشهاب أبي العباس الحنَّاوي مقدمته المسماة "بالدُّرة المضيَّة"، وكتبها له بخطه إكرامًا لجدّه، وتدرَّب بهما في الإعراب؛ حيث أعرب على الأول من (الأعلى) إلى (الناس)، وعلى الثاني مواضع من "صحيح البخاري"، وأخذ العربية أيضًا عن الشهاب الأُبَّذي المغربي والجمال بن هشام الحنبلي حفيد سيبويه وقته الشهير وغيرهما.
وقرأ "التَّنبيه" تقسيمًا على ابن خضر، والسّيِّد البدر النَّسَّابة، وبعضه على الشَّمس الشَّنْشي. وحضر تقسيمه مرارًا عند غير هؤلاء، بل حضر عند الشمس الونائيّ تلك الدّروس الطنَّانة التي أقرأها في "الروضة"، ولم يسمع الفقه عن أفصح منه، ولا أجمع. واليسير جدًّا عند القاياتي، وكذا أخذ
مقدمة / 11
الكثير من الفقه عن العلم صالح البُلْقينيّ، ومن جملة ذلك في "الروضة"، و"المنهاج"، وبعض "التدريب" لوالده، و"التكملة" التي له، وسمع دروسًا من "شرح الحاوي" لابن الملقن على شيخه، وكذا من التفسير والعروض.
وحضر تقسيم "البَهْجَة" بتمامه عند الشرف المُناوي، وتقسيم "المهذَّب" أو غالبه عند الزين البُوتَيْجيّ، وتردّد إليه في الفرائض وغيرها. بل أخذ طرفًا من الفرائض والحساب والميقات وغيرها عن الشهاب بن المجدي، وقرأ الأصول على الكمال ابن إمام الكامليّة، قرأ عليه غالب "شرحه الصغير على البيضاويّ"، وسمع غير ذلك من فقه وغيره، وقرأ على غيره في "متن البيضاوي"، وحضر كثيرًا من دروس التقي الشُّمُنِّي في الأصلين والمعاني والبيان والتفسير، وعليه قرأ شرحه نظم والده لـ "النُّخْبة" مع شرح أبيه لها، بل أخذ عن العز عبد السَّلام البغدادي في العربية والصَّرف والمنطق وغيرها، وكذا أخذ دروسًا كثيرة عن الأمين الأقصرائي وكثيرًا من التَّفسير وغيره عن السعد بن الديري، ومن "شرح ألفيَّة العراقي" عن الزَّين السّندبيسيّ، بل قرأ الشّرح بتمامه على الزَّين قاسم الحنفي، وأخذ قطعة من "القاموس في اللُّغة" تحريرًا وإتقانًا مع المحبّ بن الشّحنة. وكتب يسيرًا على شيخ الكتاب الزين عبد الرحمن بن الصَّائغ، ثم ترك لِمَا رأى عنده من كثرة اللَّغط، ولزم الشَّمس الطَّنتَدائيّ الحنفي أمام مجلس البيبرسيَّة فيها أيامًا.
وقبل ذلك كلِّه سمع مع والده ليلًا الكثيرَ من الحديث على شيخه إمام الأئمة الشِّهاب ابن حَجَر، فكان أوَّل ما وقف عليه من ذلك في سنة ثمانٍ وثلاثين، وأوقع اللَّه في قلبه صحبته، فلازم مجلسه، وعادت عليه بركتُه في هذا الشّأن الذي باد جمالُه، وحادَ عن السَّنن المعتبر عمَّالُه، فأقبل عليه بكلِّيته إقبالًا يزيد على الوصف، بحيث تقلَّل ممَّا عداه، لقول الحافظ الخطيب: "إنَّه علمٌ لا يعلق إلا بمن قَصَر نفسَه عليه، ولم يضمّ غيرَه من الفنون إليه". وقول إمامنا الشّافعي لبعض أصحابه: "أتريد أن تجمعَ بين الفقه والحديث؟ هيهات"!
مقدمة / 12
وتوجيه شيخنا تقديم شيخه له فيه على ولده وغيره بعدم التوغُّل فيما عداه، كتوجيهه لكثير ممَّن وصف من أئمة المحدّثين وحفّاظهم وغيرهم باللَّحن، بأن ذلك بالنسبة للخليل وسيبويه ونحوهما دون خلوّهم أصلًا منه حسبما بسط ذلك معنى وأدلة في عدة من تصانيفه؛ ولذا توهم الغبيُّ الغمْرُ ممَّن لم يخالطْهُ أنه لا يحسُنها، وقال العارف المخالط: إنَّ من قصرَهُ على هذا العلم ظلمَهُ.
وداوم الملازمة لشيخه حتى حَمَلَ عنه علمًا جمًّا، واختص به كثيرًا، بحيث كان من أكثر الآخذين عنه، وأعانه على ذلك قربُ منزله منه، فكان لا يفوته مما يقرأ علبه إلَّا النَّادر، إمّا لكونه حمله أو لأن غيره أهم منه، وينفرد عن سائر الجماعة بأشياء. وعلم شدَّةَ حرصه على ذلك، فكان يرسل خلفه أحيانًا بعض خدمه لمنزله يأمره بالمجيء للقراءة.
وقرأ عليه "الاصطلاح" بتمامه، وسمع عليه جلّ كتبه؛ "كالألفية" وشرحها مرارًا، و"علوم الحديث" لابن الصلاح إلَّا اليسير من أوائله، وأكثر تصانيفه في الرجال وغيرها "كالتقريب" وثلاثة أرباع أصله، ومعظم "تعجيل المنفعة"، و"اللِّسان" بتمامه، و"مشتبه النّسبة"، و"تخريج الرَّافعي"، و"تلخيص مسند الفردوس"، و"المقدّمة" و"بَذْل الماعون" و"مناقب كل من الشافعي واللّيث"، و"أماليه الحلبية"، و"الدمشقية"، وغالب "فتح الباري"، و"تخريج المصابيح" و"ابن الحاجب الأصلي"، وبعض "إتحاف المهرة"، و"تغليق التعليق"، و"مقدمة الإصابة" وجملة، وفي بعضه ما سمعه أكثر من مرة، وقرأ بنفسه منها "النخبة" و"شرحها"، و"الأربعين المتباينة"، و"الخصال المكفِّرة"، و"القول المسدّد"، و"بلوغ المرام"، و"العشرات العشاريات"، و"المائة"، والملحق بها لشيخه التَّنُوخي، و"الكلام على حديث أم رافع"، و"ملخص ما يقال في الصَّباح والمَسَاء"، و"ديان خُطَبِهِ" و"ديوان شعره" وأشياء يطول إيرادها.
وسمع بسؤاله له من لفظه أشياء؛ كـ "العشرة العشريات"، و"مسلسلات الإبراهيمي" خارجًا عمّا كتبه عنه في الإملاء مع الجماعة من سنة ستٍّ وأربعين وإلى أن مات.
مقدمة / 13
وأذن له في الإقراء والإفادة والتَّصنيف، وصلَّى به إمامًا التَّروايح في بعض ليالي رمضان. وتدرَّب به في طريق القوم، ومعرفة العالي والنازل والكَشْف عن التراجم والمُتُون وسائر الاصطلاح وغير ذلك.
وكذا تدرَّب في الطَّلبة بمستمليه مفيد القاهرة الزين رِضوان العُقْبِيّ، وأكثر من ملازمته قراءة وسماعًا، وبصاحبه النَّجم عمر بن فهد الهاشمي، وانتفع بإرشاد كلٍّ منهم وأجزائه وإفادته، بل كتب شيخُه من أجله إلى دمياط لمن عنده "المعجم الصغير" للطبراني بإرساله إليه، حتى قرأه عليه، لكون نسخته قد انمحى الكثيرُ منها، وما علم أنَّه في أوقات سعيد السُّعداء إلَّا بعدُ.
ولم ينفكَّ عن ملازمته ولا عدل عنه بملازمة غيره من علماء الفنون خوفًا على فقده، ولا ارتحل إلى الأماكن النائية، بل ولا حجَّ إلَّا بعد وفاته، لكنَّه حمل عن شيوخ مصر والواردين إليها كثيرًا من دواوين الحديث وأجزائه، بقراءته وقراءة غيره في الأوقات التي لا تعارض أوقاته عليه غالبًا، ولا سيما حين اشتغاله بالقضاء وتوابعه، حتَّى صار أكثرَ أهل العصر مسموعًا، وأكثرَهم رواية، ومن محاسن من أخذ عنه من عنده: الصَّلاح بن أبي عُمَرَ، وابن أمية، وابن النَّجم، وابن الهبل، والشمس بن المحب، والفخر بن بشارة، وابن الجُوخي، والمنيجي، والزيتاوي، والبياني، والسُّوقي، والطبقة، ثم من عنده القاضي العزّ بن جماعة، والتَّاج السُّبكي، وأخوه البهاء، والجمال الإسنائي، والشهاب الأذرعيّ، والكرْماني، والصَّلاح الصَّفدي، والقيراطي، والحراوي، ثم الحسين التكريتي، والأميوطي، والباجي، وأبو البقاء السُّبكي، والنَّشَاوريّ، وابن الذّهبي، وابن العلائي، والآمدي، والنَّجم بن الكشك، وأبو اليمن بن الكويك، وابن الخشاب، وابن حاتم، والمليجي وابن رزين، والبدر بن الصَّاحب، ثم السّراج الهندي، والبُلْقيني، وابن المُلَقِّن، والغَرَاقي الهيثمي، والإبناسيّ، والبرهان بن فرحون، وهكذا حتى سمع من أصحاب أبي الطَّاهر بن الكويك، والعزّ بن جماعة، وابن خير، ثم من أصحاب الولي العراقي، والفُوّيّ، وابن الجَزَري، ثم من يليهم.
مقدمة / 14
وقمش وأخذ عمَّن دبَّ ودَرَج وكتب العاليَ والنازلَ، حتى بلغت عدَّةُ من أخذ عنه بمصر والقاهرة وضواحيها كإنبابة، والجِيْزة، وعُلوِّ الأهرام، والجامع العمريّ وسَرْيَاقُوس، والخانقاه، وبلبيس، وسفط الحناء، ومُنْية الرّديني، وغيرها زيادةً على أربعمائة نفس؛ كل ذلك وشيخُه يمدُّه بالأجزاء والكتب والفوائد التي لا تنحصر، وربما نبَّهه على عوالٍ لبعض شيوخ العصر، ويحضُّه على قراءتها. وشكا إليه ضيقَ عَطَن بعضهم، فكاتبه يستعطفه عليه، ويرغِّبُهُ في الجلوس معه، ليقرأ ما أحبَّه.
[رحلاته:]
بعد وفاة شيخه سافر لدِمْيَاطَ، فسمع بها من بعض المُسندِين، وكتب عن نفر من المتأدّبين.
ثم توجَّه في البحر لقضاء فريضة الحج، وصحب والدته معه، فلقي بالطُّور واليَنْبُوع وجُدّة غير واحدٍ أخذ عنهم، ووصل لمكّة أوائل شعبان، فأقام بها إلى أن حجَّ.
وقرأ بها من الكتب الكبار والأجزاء القصار ما لم يتهيَّأ لغيره من الغُرَباء، حتى قرأ داخل البيت المعظَّم، وبالحِجْر، وعلو غار ثَوْر، وجبل حراء، وبكثير من المشاهد المأثورة بمكّة، وظاهرها، كالجِعْرَانَةِ، ومِنًى، ومسجد الخِيْف على خَلْق، كأبي الفتح المراغيّ، والبرهان الزَّمزمي، والتَّقي بن فهد، والزَّين الأميوطيّ، والشّهاب الشّوائطي، وأبي السَّعادات بن ظهيرة، وأبي حامد بن الضّياء، وزيادة على ثلاثين نفسًا، فمنهم من يروي عن البهاء بن خليل، والكَرْماني، والأذرعي، والنَّشاوري، والجمال الأمْيوطي، وابن أبي المجد، والتَّنُوخي، وابن صديق، والعراقي، والهَيْثَمي، والأبناسي، والمجدين اللُّغوي وإسماعيل الحنفي، ومن لا أحصره سوى من أجاز له فيها، وهم أضعاف ذلك، وأعانه عليه صاحبُه النَّجم بن فهد بكتبه وفوائده ونفسه ودلالته على الشيوخ، وكذا بكتب والده، ثمَّ انفصَلَ عنها، وهو متعلِّق الأمل بها.
مقدمة / 15
وقرأ في رجوعة بالمدينة الشَّريفة تجاه الحُجْرة النبويَّة على البدر عبد اللَّه بن فرحون، وبغيره من أماكنها على الشّهاب أحمد بن النُّور المحلّي، وأبي الفرج المرَاغي في آخرين.
ثم يَنْبُوع أيضًا وعقبة أيْلَة، وقبل ذلك برابغ وخُلَيص.
ورجع للقاهرة، فأقام بها ملازمًا السَّماع والقراءة والتَّخريجَ والاستفادة من الشُّيوخِ والأقران غيرَ مشتغل بما يعطِّله عن مزيد الاستفادة، إلى أن توجه لَمنُوفٍ العُلْيا، فسمع بها قليلًا، وأخذ بفيشا الصغرى عن بعض أهلها ثم عاد لوطنه، فارتحل إلى الثغر السكندري، وأخذ عن جمع من المُسنِدين والشُّعراء بها وبأمّ دينار، ودسوق، وفُوَّة، ورشيد، والمحلَّة، وسَمَنُّود، ومُنْية عسّاس، ومُنية نابت، والمنصورة، وفارَسْكُور، ودُنْجية، والطويلة، ومسجد الخَضِر. ودخل دِمْياط، فسمع بها.
وحصَّل في هذه الرحلة أشياء جليلة من الكتب والأجزاء والفوائد عن نحو خمسين نفسًا، فيهم من يروي عن ابن الشيخة، والتَّنوخي، والصَّلاح الزِّفتاوي، والمطرِّز، وعبد اللَّه بن أبي بكر الدَّماميني، والبُلْقيني، وابن الملقّن، والعراقي، والهيثمي، والكمال الدَّميري، والحَلَاوي، والسّويداوي، والجمال الرّشيدي، وأبي بكر بن إبراهيم بن العزّ، وابن صديق، وابن أَقْبرس، وناصر الدّين بن الفرات، والنَّجم البالسي، والتاج بن موسى السّكندري، والزين الفيشي المرجاني، وناصر الدين بن الموفق، وابن الخرّاط، والهزبر، والشوف بن الكُوَيْك.
ثم ارتحل إلى حلب، وسمع في توجّهه إليها بَسَرْيَاقُوس، والخانقاه، وبَلْبيس، وقَطْيَا، وغزّة، والمجدل، والرّملة، وبيت المقدس، والخليل، ونابلس، ودمشق، وصالحيتهيا، والزَّبداني، وبعلبك، وحمص، وحماة، وسِرْمين، وحلب، وجِبْرين، ثُمَّ بالمعرَّة، وطَرَابُلس، وبرزة، وكفربَطْنا، والمِزَّة، وصالحيَّة مصر، والخطَّارة وغيرها شيئًا كثيرًا، من قريب مائة نفس؛ وفيهم من أصحاب الصَّلاح بن أبي عُمر، وابن أميلة، وابن الهبل، والزين عبد الرحمن بن الأستاذ، وأبي عبد اللَّه محمد بن عمر بن قاضي شُهْبة،
مقدمة / 16
ويحيى بن يُوسف الرّحبي، والحافظ أبي بكر بن المحب، وناصر الدين بن داود، وأبي الهَوْل الجزري، وأبي العباس أحمد بن العماد بن العز المقدسي، وابن عوض، والشهاب المَرْدَاوي، وأبي الفرج بن ناظر الصاحبة، والكمال بن النحاس، ومحمد بن الرشيد عبد الرحمن بن أبي عمر، والشرف أبي بكر الحرّاني، والشِّهاب أبي العباس بن المرحّل، وفرج الشرفي فمن بعدهم.
واستمدَّ في بيت المقدس من أجزاء التقّي أبي بكر القَلْقشَنْدِيّ، وكتبه وإرشاده، فقد كان ذا أُنْسَةٍ بالفنِّ.
وفي الشام من أجزاء الضيائيَّة وغيرها بمعاونة الإمام التقي بن قُنْدس، والبُرْهان القادري، وآخرين.
ثمّ في حلب بمحدِّثها وابن حافظها أبي ذرٍّ الحلبي، فأعاره، وأرشده، وطافَ معه على من بقي عندهم، وساعده غيرُه بتجهيز ساعٍ بإحضار "سنن الدَّارقُطْني" من دمشق حتى أخذها عن بعض من يرويها بحلب.
وأجر له خلقٌ باستدعائه واستدعاء غيره من جهات شتَّى ممَّن لم يتيسَّر له لقيُّهم أو لقيَهُم، ولكن لم يسمع منهم، بل كان وهو صغير قبلَ أن يتميَّز ألهمَ اللَّه سبحانه بفضله بعض أهل الحديث استِجازةَ جماعةٍ من محاسن الشُّيوخ له تبعًا لأبيه، فيهم من يروي عن الميدومي، وابن الخبّاز، والخلاطي، وابن القيّم، وابن الملوك، والعز محمد بن إسماعيل الحَمَوي، وأبي الحرم القَلَانسي، وابن نُباتة، وناصر الدّين الفارقي، والكمال بن حبيب، والظَّهير بن العجمي، والتَّقي السُّبكي، والصَّلاح العلائي، وابن رافع، ومُغْلَطَاي، والنَّشَّائي، وابن هشام، وأبي عبد اللَّه بن جابر، ورفيقه أبي جعفر الرُّعيني، المعروفين بالأعمى والبصير وشبههم، بل من يروي بالسماع عمّن حدَّث عنه بالإجازة كالزِّيتاوي، وابن أميلة، والصلاح بن أبي عمر، والعماد محمد بن موسى الشيرجي، والعز محمد بن أبي بكر السوقي، وأبي عبد اللَّه البياني، والشهاب بن النّجم، وأبي علي بن الهبل، وزينب ابنة قاسم وغيرهم، وكذا دخل في استدعاء صاحبه النَّجم بن فهد الهاشمي، بل وكثير من استدعاءات شيخه الزين رضوان، وغيره؛ إما لكونه من أبناء صوفية
مقدمة / 17
الخانقاه البيبرسية، أو نحو ذلك ممَّا هو أخصُّ من العامة، بل تكاد أن تكون خاصة. كما ألهم اللَّه المحب بن نصر اللَّه حين عرضِهِ عليه كتابة الإجازة، مع كونه إنما كتب له بالهامش، وكونه لم يكتب بها لكل من أبيه وعمّه مع كتابته لهما نحو ورقة؛ ولهذا كلِّه زاد عددُ من أخذ عنه من الأعلى والدُّون والمُساوي حتى الشُّعراء ونحوهم على ألفٍ ومائتين، والأماكن التي تحمّل فيها من البلاد والقرى على الثمانين.
[مروياته:]
واجتمع له من المرويات بالسّماع والقراءة ما يفوق الوصف، وهي تتنوع أنواعًا:
أحدها: ما رُتب على الأبواب الفقهية ونحوها، وهي كثيرة جدًّا، منها ما تقيَّد فيه بالصَّحيح؛ كـ "الصحيحين" للبخاري ولمسلم، ولابن خزيمة -ولم يوجد بتمامه- ولأبي عُوانة الإسفرايني، وهو وإن كان مستخرجًا على ثاني الصَّحيحين، فقد أتى فيه بزيادات طرق، بل وأحاديث كثيرة.
وعنده من المستخرجات بالسماع "المستخرج على صحيح مسلم" لأبي نُعيم، كما أنَّ في مروياته -لكن بالإجازة- من الكتب الي تقيد فيها بالصّحة كتاب "المستدرك على الصَّحيحين" أو أحدهما للحاكم، وهو كثير التَّساهل، بحيث أدرج في كتابه هذا الضَّعيف، بل والموضوع المنافيين لموضوع كتابه.
ومن الكتب الصَّحيحة "الموطَّأ" لمالك، ووقع له بالسَّماع عن دون عشرة من أصحابه، وإدراجُه في الصّحاح إنما هو بالنسبة للتَّصانيف قبله، وإلَّا فلا يتمشَّى الأمر في جميعه على ما استقرَّ الأمرُ عليه في تعريف الصَّحيح.
ومنها ما لم يتقيَّد فيه بالصِّحة، بل اشتمل على الصَّحيح وغيره، كـ "السُّنن لأبي داود" رواية أبي علي اللُّؤلؤي وأبي بكر بن داسة عنه، وقيل: إنه يكفي المجتهد، ولأبي عبد الرحمن النَّسائي رواية ابن السني وابن الأحمر وغيرهما عنه، ولأبي عبد اللَّه بن ماجه القزويني، ولأبي الحسن الدَّارقُطني،
مقدمة / 18
ولأبي بكر البَيْهَقيّ، و"السُّنن" التي له أجمع كتاب سمعه في معناه. ولمحمد بن الصباح، وكـ "الجامع" لأبي عيسى الترمذي، ولأبي محمد الدارمي. ويقال له أيضًا "المُسْنَد"؛ بحيث اغترَّ بعضهم بتسميته، وأدرجه في النوع بعده، وقد أطلق بعضُهم عليه الصحَّة، وكان بعض الحفَّاظ ممَّن روى عن بعض الآخذين عنه يقول: إنه لو جُعل بَدَل ابن ماجه بحيث يكون سادسًا للكتب الشَّهيرة أصول الإسلام لكان أولى؛ وكـ "المُسْنَد" للإمام الشَّافعي، وليس هو من جمعه، وإنَّما التقطه بعضُ النَّيسابوريّين من "الأم" له و"السُّنن" له رواية المُزَنيّ، ورواية ابن عبد الحكم، و"شرح معاني الآثار" لأبي جعفر الطحاوي.
ثم إنّ في بعض هذه ما يميّز فيه مصنفه المقبول من غيره "كالجامع" للترمذي، ونحوه "السُّنن" لأبي داود، ومما يلتحق بهذا النوع ما يقتصر فيه على ما فرد من أفراده أو غيره "كالشَّمائل النبويَّة" للتِّرمذي، و"دلائل النبوة" للبَيْهَقي، و"الشِّفا" لعياض، و"المغازي" لموسى بن عقبة، و"السيرة النبوية" لابن هشام، ولابن سيد الناس، و"بشرى اللَّبيب" له، و"فضل الصَّلاة على النَّبي ﷺ" لإسماعيل القاضي ولابن أبي عاصم، ولابن فارس وللنُّمَيريّ، و"حياة الأنبياء في قبورهم" و"فضائل الأوقات" و"الأدب المفرد" ثلاثتها للبيهقي، وكذ للبخاري "الأدب المفرد"، وفي معناهما "مكارم الأخلاق"، للطبراني، وكذا للخرائطي مع "مساويها" له. وكـ "التَّوكُّل" و"ذم الغيبة" و"الشُّكر" و"الصَّمت" و"الفرج" و"اليقين"، وغيرها من تصانيف أبي بكر بن أبي الدنيا. وكـ "برِّ الوالدين" و"القراءة خلف الإمام" و"رفع اليدين في الصَّلاة" للبخاري، و"البسملة" لأبي عمر بن عبد البر، و"العلم" للمرهبي ولأبي خيثمة زهير بن حرب، و"الطهارة" و"فضائل القرآن" و"الأمْوال" ثلاثتها لأبي عبيد، و"الإيمان" لابن مَنْدَة ولأبي بكر بن أبي شيبة. و"ذم الكلام" للهروي و"الأشربة الصَّغير" و"البيوع" و"الورع" ثلاثتها لأحمد، وكـ "الجامع لأخلاق الرّاوي والسَّامع" للخطيب. و"المحدِّث الفاصل بين الرَّاوي والواعي" للرَّامَهُرْمُزي، و"علوم الحديث" لابن الصَّلاح، ومن قبله للحاكم "شرف أصحاب الحديث"، و"رواية الآباء عن الأبناء"، و"اقتضاء العلم
مقدمة / 19
العمل"، و"الزُّهد" و"الطفيليين" خمستُها للخطيب.
وفي مسموعاته أيضًا: "الزُّهد" لابن المبارك، وكـ "الدّعوات" للمحاملي وللطبراني وهو أجمعُ كتاب فيها، و"عمل اليوم والليلة" لابن السّني، و"فضل عشر ذي الحجّة" للطّبراني، ولأبي إسحاق الغازي، وكذا في مسموعاته من التَّصانيف في "فضل رجبٍ وشعبانَ ورمضان" جملة، و"اختلاف الحديث" و"الرسالة" كلاهما للشافعي، و"عوارف المعارف" للسَّهْرَوَرْدي، و"بداية الهداية" للغزالي، و"صفة التصوُّف" لابن طاهر.
ثانيها: ما رُتِّب على المسانيد كـ "مسند أحمد" وهو أجمع مسند سمعه، وأبي داود الطيالسي، وأبي محمد عبد بن حميد، وأبي عبد اللَّه العدني، وأبي بكر الحميدي ومسدَّد، وأبي يَعْلى الموصلي. وليس في واحد منها ما هو مرتبا على حروف المعجم؛ نعم ممَّا رُتِّب فيه على الحروف من المسانيد مع تقييده بالمحتج به "المختارة" للضياء المقدسي، ولكن لم يكمل تصنيفًا ولا استوفى الموجود سماعًا و"المعجم الكبير" الطبراني، وهو مع كونه يلي "مسند أحمد" في الكبر أكثرها فوائد. و"المعجم" لابن قانع، والأحاديثُ فيه قليلة، ونحوه "الاستيعاب" لابن عبد البرّ، إذ ليس القصد فيه إلَّا تراجم الصحابة وأخبارهم، وقريب منه في كون موضوعه التَّراجم، ولكن لم يقتصر فيه على الصحابة، مع الاستكثار فيه من الحديث. ونحوه "حلية الأولياء" لأبي نُعَيْم، وكذا ممَّا يذكر فيه أحوال الصُّوفية الأعلام "الرِّسالة القُشَيْريّة".
وقد يقتصر على صحابيّ واحد كـ "مسند عمر" للنجاد، و"سعد" للدَّورقي.
كما أنّه قد يقتصر على الفضائل خاصة كـ "فضائل الصحابة" لطراد ووكيع. ونحوه "الذرية الطَّاهريَّة" للدُّولابيّ.
وقد يكون في مطلق التَّراجم لكن لأهل بلدٍ مخصوص كأصبهان لأبي نُعَيْم وبغداد للخطيب، وعنده بالسماع منهما جملة.
وقد يكون في فضائل البلدان كـ "فتوح مصر" لابن عبد الحكم و"فضائل الشام" للربعي.
مقدمة / 20
ثالثها: ما هو على الأوامر والنَّواهي وهو صحيح أبي حاتم بن حبَّان، المسمَّى بـ "التَّقاسيم والأنواع"، والكشف منه عسرٌ على من لم يتقن مُراده.
رابعها: ما هو على الحروف في أول كلمات الأحاديث، وهو "مسند الشِّهَاب" للقُضاعي.
خامسها: ما هو في الأحاديث الطوال خاصة، وهو "الطِّوالات" للطبراني، ولابن عساكر منها: "كتابُ الأربعين".
سادسها: ما يقتصر فيه على أربعين حديثًا فقط، ويتنوَّع أنواعًا كـ "الأربعين الإلهية" لابن المفضّل، وكـ "الأربعين المسلسلات" له، وكـ "الأربعين في التصوُّف" لأبي عبد الرحمن السلمي، إلى غيرها، كالأحكام وقضاء الحوائج وما لا تقيد فيه كـ "أربعين الآجريّ" والحاكم وهي شيء كثير، وقد لا يقتصر على الأربعين كـ "الثمانين" للآجري و"المئة" لغيره.
سابعها: ما هو على الشُّيوخ للمصنف كـ "المعجم الأوسط" و"الصغير" كلاهما للطبراني، و"معجم الإسماعيلي" و"ابن جميع"، ونحوها كالمشيخات التي منها "مشيخة ابن شاذان الكبرى" و"الصُّغرى" و"مشيخة الفَسوي". وبعضها مرتب على حروف المعجم؛ ومنه ما لم يرتّب، ونحو هذا جمع ما عند الحافظ أبي بكر بن المقرىء وكذا الحارثي وغيرهما ممّا هو مسموعٌ عنده ممَّا عندهم من حديث الإمام أبي حنيفة وترتيبه على شيوخه، ويسمى كل واحد منهما "مسند أبي حنيفة".
ثامنها: ما هو على الرُّواة عن إمام كبير ممن يجمع حديثه كـ "الرُّواة عن مالك" للخطيب، و"من روى عن مالك من شيوخه" لابن مَخْلَد.
تاسعها: ما يقتصر فيه على الأفراد والغرائب كـ "الأفراد" لابن شاهين وللدَّارقُطني، وهي في فئة جزء سمع منها الكثير، ومنه "الغرائب عن مالك" وغيره من المكثرين.
عاشرها: ما لا تقيُّد فيه بشيء ممَّا ذُكر، بل يشتمل على أحايث نثرية من العوالي، وهو على قسمين:
مقدمة / 21
أولهما ما كل تخريج منه في مجلد ونحوه كـ "الثقفيات" و"الجعديات" و"الحنائيات" و"الخلْعيَّات" و"السَّمعونيات" و"الغيلانيات" و"القطيعيات" و"المحامليات" و"المخلصيات" و"فوائد تمام" و"فوائد سَمَوَيْه" وجملة؛ ونحوها "المجالسة" للدّينوري.
وما هو دون ذلك؛ كـ "جزء" أبي الجهم، والأنصاري؛ وابن عرفة، وسفيان وما يزيد على ألف جزء.
حادي عشرها: ما لا إسناد فيه، بل اقتصر فيه على المتون مع الحكم عليها وبيان جملةٍ من أحكامها كـ "الأذكار" و"التبيان" و"الرِّياض" وغيرها من تصانيف النَّوويّ وغيره، إلى غيرها من المسموعات التي لا تقيُّدَ فيها بالحديث؛ كـ "الشَّاطبية" و"الرَّائية" في علمي القراءة والرَّسم، و"الألفية" في علمي النَّحو والصَّرف، و"جمع الجوامع" في الأصلين والتَّصَوُّف، و"التَّنبيه" و"المنهاج" و"بهجة الحاوي" في الفقه و"تلخيص المفتاح" في المعاني والبيان، و"قصيدة بانت سُعاد" و"البُردة" و"الهمزيَّة".
وليس ما ذكر بآخر التنبيه؛ كما أنه ليس المراد بما ذُكر في الأنواع الحصر، إذ لو سرد كل نوع منه لطال ذكرُه، وعَسُرَ الآن حصرُه، بل لو سرد مسموعه ومقروءه على شيخه فقط لكان شيئًا عجبًا.
وأعلى ما عنده من المرويِّ ما بينه وبين الرسول ﷺ بالسَّنَد المتماسك فيه عشرة أنفس، وليس ما عنده من ذلك بالكثير، وأكثر منه وأصح ما بين شيوخه وبين النبي ﷺ العدد المذكور.
واتَّصَلَتْ له الكتب الستَّة وكذا حديث كلّ من الشَّافعي وأحمد والدَّرامي وعبدٍ بثمانية وسائط، بل وفي بعض الكتب الستَّة كأبي داود من طريق ابن داسة، وأبواب من النَّسائي ما هو بسبعة -بتقديم المهملة- واتصل له حديث مالك وأبي حنيفة بتسعة، بتقديم المثناة.
ولما وُلِدَ ولدُه أحمد، جدّد العزمَ لأجله؛ حيث قرأ له على بقايا المُسْندِين شيئًا كثيرًا جدًّا في أسرع وقت، وانتفع بذلك الخاصُّ والعامُّ والكبير والصغير، وانتشرت الأسانيدُ المحرَّرة والأسمعة الصَّحيحة والمرويات
مقدمة / 22
المُعتبرة، وتنبَّه النَّاسُ لإحياء هذه السُّنَّة بعد أن كادت تنقطع، فلزموه أشدَّ ملازمة، وصار من يأنف الاستفادة منه من المهملين يتسوَّر على خطِّه، فيستفيد منه، وما يدري أنَّ الاعتماد على الصُّحف فقط في ذلك فيه خلل كبير، ولعَمري إنَّ المرء لا ينبُل حتى يأخذ عمَّن فوقه ومثله ودونه، على أنَّ الأساطين من علماء المذاهب ومحقّقيهم من الشيوخ وأماثل الأقران البعيد غرضهم عن المقاصد الفاسدة غير متوقفين عن مسألته فيما يَعْرضُ لهم من الحديث ومُتَعلقاته، مرةً بالكتابة التي ضبطها بخطوطهم عنده، ومرَّة باللَّفظ، ومرَّة بإرسال السائل لهم نفسه وبغير هذا ممَّا يستهجن إيراد مثله، مع كونه أفرد أسماءهم في محل آخر، وطالما كان التَّقيُّ الشُّمُنِّي يحضُّ أماثَل جماعته كالنَّجمي بن حجي على ملازمته، ويقول: متى يسمح الزمان بقراءته، بل حضَّه على عقد مجلس الإملاء غيرَ مرَّةٍ، ولذا لما صارت مجالس الحديث آنسة عامرة منضبطة، ورأى إقبالهم على هذا الشأن وللَّه الحمد، امتثل إشارته بالإملاء فأملى بمنزله يسيرًا، ثم تحوَّل لسعيد السعداء وغيرها، متقيدًا بالحوادث والأوقات، حتى أكمل تسعةً وخمسين مجلسًا.
ثُمَّ توجه وعيالُه وأكبرُ إخوته ووالده للحجّ في سنة سبعين، فحجُّوا وجاوَرُوا، وحدَّث هناك بأشياء من تصانيفه وغيرها، وأقرأ "ألفية الحديث" تقسيمًا، وغالب شرحها لناظمها، و"النُّخْبة" وشرحها وأملى مجالس كل ذلك بالمسجد الحرام، وتوجَّه لزيارة ابن عباس ﵄ بالطَّائف رفيقًا لصاحبه النَّجم بن فهد، فسمع منه هناك بعض الأجزاء.
ولمَّا رجع إلى القاهرة شرعَ في إملاء تكملة تخريج شيخه لـ "الأذْكَار" إلى أنْ تمَّ، ثم أملى تخريج "أربعين النووي" ثم غيرها مما يقيَّد فيه، بحيث بلغت مجالس الإملاء ستمئة مجلس فأكثر، وممّن حضر إملاءه ممّن شهد إملاء شيخه: النَّجمُ بن فهد والشَّمس الأمْشَاطيّ، والجمال بن السَّابق. وممَّن حضر إملاء شيخه والولي العراقي: البهاءُ العلقميُّ، وممن حضر إملاءهما والزَّين العراقي: الشِّهابُ الحجازي، والجلال القمصي، والشهاب الشّاوي.
مقدمة / 23