جواهر الدرر في حل ألفاظ المختصر
للشيخ العلامة والإمام الفهامة أبي عبد اللَّه شمس الدين محمد بن إبراهيم بن خليل التتائي المالكي
(٠٠٠ - ٩٤٢ هـ = ٠٠٠ - ١٥٣٥ م)
حققه وخرج أحاديثه الدكتور أبو الحسن، نوري حسن حامد المسلاتي
الجزء الأول
دار ابن حزم
1 / 1
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
جميع الحقوق محفوظة
الطبعة الأولى
١٤٣٥ هـ - ٢٠١٤ م
٤ - ٤٤٦ - ٤١٦ - ٦١٤ - ٩٧٨ ISBN
الكتب والدراسات التي تصدرها الدار تعبر عن آراء واجتهادات أصحابها
دار ابن حزم
بيروت - لبنان - ص. ب: ٦٣٦٦/ ١٤
هاتف وفاكس: ٧٠١٩٧٤ - ٣٠٠٢٢٧ (٠٠٩٦١١)
البريد الألكتروني: [email protected]
الموقع الإلكتروني: www.daribnhazm.com
1 / 2
جواهر الدرر في حل ألفاظ المختصر
للشيخ العلامة والإمام الفهامة أبي عبد اللَّه شمس الدين محمد بن إبراهيم بن خليل التتائي المالكي
(٠٠٠ - ٩٤٢ هـ = ٠٠٠ - ١٥٣٥ م)
حققه وخرج أحاديثه الدكتور أبو الحسن، نوري حسن حامد المسلاتي
الجزء الأول
دار ابن حزم
1 / 3
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
جميع الحقوق محفوظة
الطبعة الأولى
١٤٣٥ هـ - ٢٠١٤ م
٤ - ٤٤٦ - ٤١٦ - ٦١٤ - ٩٧٨ ISBN
الكتب والدراسات التي تصدرها الدار تعبر عن آراء واجتهادات أصحابها
دار ابن حزم
بيروت - لبنان - ص. ب: ٦٣٦٦/ ١٤
هاتف وفاكس: ٧٠١٩٧٤ - ٣٠٠٢٢٧ (٠٠٩٦١١)
البريد الألكتروني: [email protected]
الموقع الإلكتروني: www.daribnhazm.com
1 / 4
﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢)﴾.
1 / 5
مقدمة التحقيق
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد بن عبد اللَّه صادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن استن بسنته إلى يوم الدين، وبعد:
- ١ -
فقد كان لتأليف الشيخ خليل بن إسحاق مختصره الذي بلغت شهرته الآفاق، وطار صيته كل مطار، الأثر البالغ في المذهب المالكي، فما إن وضع حتى غدا المرجع الأساس للمريدين، وسراجًا منيرًا للسالكين، ومن لم يَدْرُسْه فضلًا عن أن يتقنه فهمًا ودراية لم يُعَد ملمًا بالمذهب وأقواله، فانكب الناس على تعاطيه، بين حافظ له وناظم، ومقيد له وشارح، ومستدل له وناقد، وما ذلك إلا لأنه قد ضمنه صاحبه ما تكون به الفتوى، وما هو الأرجح والأقوى، مع رسوخ قدم مصنفه وجلالته، واستيفاء مسائله لجل المذهب، فلم يجمع أهل المذهب في مدح كتاب للمتأخرين كما أجمعوا على مدح مختصر خليل، بل إنه لم يهتم أهل المذهب بكتاب بعد الموطأ والمدونة كاهتمامهم به.
1 / 7
- ٢ -
ولا يغرنك ما يكدر به بعض من حرم النظر الصحيح صفو ما أنت عليه بقوله: "ما يزال التعليم الديني في الجانب الفقهي على حالة واحدة عندنا، منذ ألف سنة، فهو متون فقهية مذهبية مجردة من الدليل، كُتبت قبل قرون من الزمن، يحفظها الطلاب عن ظهر قلب، كـ: (زاد المستقنع) في الفقه الحنبلي، و: (مختصر خليل) في الفقه المالكي، و: (التقريب) لأبي شجاع في الفقه الشافعي، والقدوري في الفقه الحنفي، وهذه المتون كُتِبت باختصار شديد للعبارة، وإلغاز في الجمل، واختزال للمعاني، والخطأ فيها من وجهين:
الأول: تجريدها من النصوص كتابًا وسنة، لأن المقصود الاستدلال لها بدليل شرعي لا الاستدلال بها هي مجردةً من الدليل.
الثاني: فَهِم الكثير أن هذه الآراء الفقهية قاطعة راجحة وما سواها باطل، فحصل التعصب للمذهب والبعد عن الدليل، فحينما تطالع مثلًا أول زاد المستقنع تجد عبارة (وأقسام المياه ثلاثة) وهذا خطأ بل هما قسمان فقط، ثم يقول: (وإذا اشتبهت ثياب طاهرة بنجسة صلى بعددها وزاد صلاة) يعني: أن من عنده عشرين (١) ثوبًا فعند الاشتباه يصلي إحدى وعشرين صلاة وهذا خطأ، بل عليه أن يتحرى، والمشكلة أن هذه المتون تذهب بالطالب بعيدًا عن الآية والحديث ويكدُّ ذهنه في عبارات مغلقة مقفلة من دون طائل، ولماذا نشتغل بعبارات الفقهاء الملغزة الغامضة ونشرحها ونعصر الذهن في فهمها ومعنا كتاب عظيم فيه الهدى والنور مع البيان الشافي والجواب الكافي، ومعنا سنة مطهرة سهلة ميسَّرة، حتى إننا نعرف من الفقهاء من تصدَّر للإفتاء وهو لا يميز بين الحديث الصحيح والضعيف ولا يستحضر الدليل، وإنما يحفظ هذه المتون الفقهية المذهبية، فهل فينا رجل رشيد يُصلح هذا التعليم الفقهي؛ ليدرس الطلاب فقه الكتاب والسنة كما فعل أئمة الحديث وابن تيمية وابن عبد البر وابن عبد الوهاب والصنعاني والشوكاني وغيرهم".
_________
(١) كذا هو في النص، وهو لحن ظاهر، والصواب: عشرون.
1 / 8
ذلك لأنه قد شمل جملة من المغالطات، وعليه كثير من المؤاخذات، فأولى هذه المؤاخذات: أنه قال: "ما يزال التعليم الديني في الجانب الفقهي على حالة واحدة عندنا، منذ ألف سنة، فهو متون فقهية مذهبية مجردة من الدليل، كُتبت قبل قرون من الزمن، يحفظها الطلاب عن ظهر قلب، كـ: (زاد المستقنع) في الفقه الحنبلي، و: (مختصر خليل) في الفقه المالكي، و: (التقريب) لأبي شجاع في الفقه الشافعي، والقدوري في الفقه الحنفي"، وتفصيل بيانها كالآتي:
١ - أن المختصرات في المذاهب قد كانت قبل ذلك بكثير؛ ففي مذهب الإمام مالك كان مختصر ابن عبد الحكم، وهو معاصر للإمام مالك، فولادته عام خمسين ومائة، والإمام توفي عام تسعة وسبعين ومائة، وفي مذهب الشافعي كان مختصر المزني، وهو معاصر للإمام الشافعي، فولادة المزني كانت عام خمسة وسبعين ومائة، ووفاة الشافعي كانت عام أربعة ومائتين.
٢ - أن في كلامه تخطئة للأمة جمعاء على مدى عشرة قرون، ولا شك أن في هذا ضلالًا مبينًا؛ ذلك لأنه لا تجتمع الأمة مطلقًا على ما هو خطأ أو زيغ، كما ورد في الحديث (١)؛ فأهل الحق من أمة محمد قد اتفقوا
_________
(١) رواه بلفظ: "إن أمتي لا تجتمع على ضلالة؛ فإذا رأيتم اختلافًا فعليكم بالسواد الأعظم": ابن ماجه (٢/ ١٣٠٣، رقم ٣٩٥٠)، قال البوصيري (٤/ ١٦٩): هذا إسناد ضعيف.
قال المناوي (٢/ ٤٣١): قال ابن حجر: حديث تفرد به معاذ بن رفاعة عن أبي خلف، ومعاذ صدوق فيه لين، وشيخه ضعيف.
ورواه بلفظ: "إن اللَّه قد أجار أمتي أن تجتمع على ضلالة": ابن أبي عاصم (١/ ٤١، رقم ٨٣)، والضياء (٧/ ١٢٨، رقم ٢٥٥٩). وأورده الذهبي في الميزان (٦/ ٤٣٤)، والحافظ في اللسان (٦/ ٤٢) في ترجمة مصعب بن إبراهيم القيسي على أنه من مناكيره، وقالا: قال العقيلي: في حديثه نظر.
وقال ابن عدي: منكر الحديث.
ورواه بلفظ: "لن تجتمع أمتي على الضلالة أبدًا فعليكم بالجماعة فإن يد اللَّه على =
1 / 9
في الأزمنة المذكورة -كما في كلام هذا، أي: منذ القرن الخامس- على تقليد المذاهب الأربعة السنية، فكان هذا إجماعًا منهم على صواب اتباعهم على الجملة، ولا يقال: إن التقليد محظور في الشريعة؛ لأن هذا القول من أكبر الخطر عليها، فليس كل الناس يعي الدليل ويفهم وجه انتزاع الحجة منه، وقول الشافعي وغيره: "إذا صح الحديث فهو مذهبي" ليس المخاطب به العوام ولا صغار طلبة العلم من الأتباع، بل الجهابذة من العلماء وكبار طلبة العلم الذين يعرفون وجه هذا القول، فكم من حديث صحيح لا يجوز العمل به لاعتبارات عديدة، منها:
- ورود ما هو أقوى منه مخالفًا إياه.
- أو كونه منسوخًا.
- أو حمل بعض أفراد عمومه على غير ما دل عليه لورود مخصص.
_________
= الجماعة": الطبراني (١٢/ ٤٤٧، رقم ١٣٦٢٣)، قال الهيثمي (٧/ ٣٢٧): فيه حسين بن قيس وهو متروك.
ورواه بلفظ: "إن اللَّه أجاركم من ثلاث خلال أن لا يدعو عليكم نبيكم فتهلكوا جميعًا وأن لا يظهر أهل الباطل على أهل الحق وأن لا تجتمعوا على ضلالة": أبو داود (٤/ ١٥٨، رقم ٤٢٥٥)، وضعفه الألباني.
ورواه بلفظ: "إن اللَّه لا يجمع أمتي أو قال: أمة محمد ﷺ على ضلالة ويد اللَّه مع الجماعة ومن شذ شذ إلى النار": الترمذي (٤/ ٤٦٦، رقم ٢١٦٧)، وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه وسليمان المدني هو عندي سليمان بن سفيان وقد روى عنه أبو داود الطيالسي وأبو عامر العقدي وغير واحد من أهل العلم.
قال أبو عيسى: وتفسير الجماعة عند أهل العلم هم أهل الفقه والعلم والحديث.
قال: وسمعت الجارود بن معاذ يقول: سمعت علي بن الحسن يقول: سألت عبد اللَّه بن المبارك من الجماعة فقال أبو بكر وعمر. قيل له: قد مات أبو بكر وعمر. قال فلان وفلان. قيل له: قد مات فلان وفلان. فقال عبد اللَّه بن المبارك وأبو حمزة السكري جماعة.
قال أبو عيسى: وأبو حمزة هو محمد بن ميمون وكان شيخًا صالحًا وإنما قال هذا في حياته عندنا.
قال الألباني في تعليقه عليه: صحيح دون: (ومن شذ).
1 / 10
- أو كونه مؤقتًا بوقت ما.
- أو كونه خرج مخرج الغالب.
- أو كون ما دل عليه مفهومًا وخالفه غيره منطوقًا.
- أو كونه دالًا على واقعة عين.
- وغير ذلك من الاحترازات التي تمنع العمل به، هذا أولًا.
وأما ثانيًا، فإن معرفة حكم اللَّه تعالى في مسألة ما يحتاج وقتًا للعالم الملم بعلوم الاجتهاد فضلًا عن غيره، أي: إن معرفة ذلك يكون على مهل، بينما العبادة لا تكون إلا على الفور، فلو فرض أن متعبدًا ما يريد الوضوء وقد حضرت الصلاة، وكان بين يديه إناء ماء، وقد وقعت فيه نجاسة، وأراد أن يعرف يقينًا بالدليل حكم الشرع في ذلك، لخرج الوقت وما علمه؛ إذ يلزمه -ليعرف ذلك عن اجتهاد لا عن تقليد، كما يدعو هذا-: أن يجمع الأدلة التي في الباب، ويعرف طرق كل دليل، وينظر فيها من حيث الصحة والضعف رواية، ثم ينظر فيها من حيث الصحة والضعف دراية، ودون ذلك خرط القتاد، وهجران لذيذ الرقاد، وذلك من الوضوح بحيث يستغني عن ضرب له الأمثال.
وقد قال القاضي عياض في ترتيب المدارك: "اعلموا -وفقنا اللَّه تعالى وإياكم- أن حكم المتعبد بأوامر اللَّه تعالى ونواهيه المتشرع بشريعة نبيه ﵇ طلب معرفة ذلك وما يتعبد به، وما يأتيه ويذره، ويجب عليه ويحرم، ويباح له ويرغب فيه من كتاب اللَّه تعالى وسنة نبيه ﵇، فهما الأصلان اللذان لا تعرف الشريعة إلا من قبلهما، ولا يعبد اللَّه تعالى إلا بعلمهما، ثم إجماع المسلمين مرتب عليهما، ومسند إليهما، فلا يصح أن يوجد وينعقد إلا عنهما، إما من نص عرفوه ثم تركوا نقله، ومن اجتهاد مبني عليهما على القول بصحة الإجماع من طريق الاجتهاد، وهذا كله لا يتم إلا بعد تحقيق العلم بذلك الطريق والآلات الموصلة إليه من نقل ونظر وطلب قبله وجمع وحفظ وعلم وما صح من السنن واشتهر، ومعرفة كيف يتفهم وما به يتفهم من علم ظواهر الألفاظ وهو علم العربية واللغة وعلم
1 / 11
معانيها وعلم موارد الشرع ومقاصده ونص الكلام وظاهره وفحواه وسائر نواحيه وهو المعبر عنه بعلم أصول الفقه وأكثره يتعلق بعلم العربية ومقاصد الكلام والخطاب، ثم يأخذ قياس ما لم ينص عليه على ما نص بالتنبيه على علته أو شبيهًا له.
وهذا كله يحتاج إلى مهلة، والتعبد لازم لحينه، ثم إن الواصل إلى هذا الطريق وهو طريق الاجتهاد والحكم به في الشرع قليل، وأقل من القليل بعد الصدر الأول والسلف الصالح والقرون المحمودة الثلاثة، وإذا كان هذا فلا بد لمن لم يبلغ هذه المنزلة من المكلفين أن يتلقى ما تعبد به وكلف به من وظائف شريعته ممن ينقله له ويعرفه به ويثبته عليه في نقله وعلمه وحكمه، وهو: التقليد، ودرجة عوام الناس بل أكبرهم هذا" (١).
٣ - أن في قوله: (مجردة من الدليل) يحتمل أحد أمرين:
الأول: أن ما احتوته تلك المتون من مسائل لا دليل عليها من كتاب أو سنة ونحوهما، فيكون أصحاب المذاهب الأربعة أربابًا من دون اللَّه تعالى، لأنهم شرعوا في دين اللَّه ما ليس منه، وهذا الاحتمال -وإن كنا نربأ بصاحب المقالة عنه- هو المتبادر لدى كثير من الناس، ووصلت الجرأة ببعضهم أن قال: لا أدلة بالمطلق على مسائل مذهب مالك، وهذا فيه من التعسف والجور ما فيه (٢).
_________
(١) ترتيب المدارك (١/ ٥٩ - ٦٠).
(٢) وهذا ما دفعني إلى وضع كتابي (منار السبيل في بيان أدلة خليل)، وقد نهجت فيه تتبع الأدلة من الأصلين من خلال كتب الأصحاب الذين بلغت شهرتهم الآفاق، وانتشرت مؤلفاتهم في أصقاع الأرض شرقًا وغربًا قديمًا وحديثًا، وانتقيت منهم أشهر من برز بفن الحديث رواية ودراية وأقوال علماء الأمصار، وأشهر من أتقن الحجاج والعقليات وعلوم العربية، وأشهر من له اهتمام بالخلافيات، مع الرجوع إلى كتب الحديث وشروحها، ومعرفة أدلة المذاهب الأخرى، وموازنتها بأدلة المذهب، من حيث عرض الأدلة على ميزان علم الحديث الشريف، ومعرفة أقوال أهل العلم فيها من الأصحاب والمخالفين، وبيان الحكم الصحيح فيها بعون اللَّه تعالى دون تحيز أو تعصب، ثم عرضها على أصول الفقه وقواعده، واللَّه أسأل أن يعين على إخراجه للنشر قريبًا.
1 / 12
والآخر: أن المتون هي المجردة من الأدلة، لا مسائل المذهب، وهذا الذي نظنه، وإذا كان ذلك كذلك فلا يضر مريد المذهب أن لا يعرف الدليل ما دام له مقلدًا، قال في نظم المعتمد:
وكلُّ مَنْ بلا أصولٍ قاري ... ينالُه الجهلُ بلا قَرارِ
ولو حوى في ذهْنِهِ الأسْفارا ... وجاوَزَ الأمصارَ والأقطارا
فلا يجوزُ مطلقًا أنْ يجتهد ... في الدِّين أو يفتي بغير ما وُجِدْ
مِنْ قولِ شيخٍ ذي اجتهادٍ عارفِ ... وكلُّ ذا مِنْ مِنَنِ اللَّطائفِ
وقال الشوكاني في القول المفيد، ص ٣٦: "وشأن المقلد أن لا يبحث عن دليل، بل يقبل الرأي ويترك الرواية، ومن لم يكن هكذا فليس بمقلد".
فالمقلد يسلم بدليل المستدل، وإن لم يعلم وجه الاستدلال، وذلك يكون جائزًا لا حرج معه إذا كان المقلد ليس أهلًا للبحث عن وجه الاستدلال ومعرفة كيف انتزع الحكم.
قال الفلاني في إيقاظ الهمم، ص ٧٧: "وجه الإمامة يخص اللَّه تعالى بها بعض الناس، لا كل الناس؛ فليعرف لكل ذي فضل فضله وكل ذي رتبة رتبته، ولا يجوز التقليد والأخذ به إلا للجاهل؛ لقوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، فأوجب اللَّه تعالى على كل من لا يعلم بأن يسأل أهل العلم، ومفهوم الأمر وجوب اتباع أهل العلم، وكذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢)﴾، مفهومه وجوب اتباع المنذرين، وأخذ الحذر مما يحذرونهم منه، وجعل المنذرين منعوتين بنعت الفقه؛ إذ لم يبلغ هذا المقلد قول مالك الذي قاله: لا يفتي العالم حتى يراه الناس أهلًا للفتوى. قال سحنون: يعني بالناس العلماء. فأثبت له العلم، ثم منعه من الفتيا حتى يستظهر على أمره برأي العلماء".
وأما ثاني المؤاخذات فقوله: (وهذه المتون كُتِبت باختصار شديد
1 / 13
للعبارة، وإلغاز في الجمل، واختزال للمعاني)، فما من علم وإن بسط القول فيه في الكتب إلا وفيه غموض وإبهام، فلا يرفع ذلك إلا بملازمة الشيوخ، وسؤالهم عن المشكلات، واستيضاحهم المقفلات، ومن ثم قيل: من كان شيخه كتابه كان خطؤه أكثر من صوابه، وإنّا نجد في كلام العلماء الربانيين كلامًا لو أخذ بظاهره لحصل به الشرك باللَّه العظيم، رغم وضوحه ظاهرًا؛ ولذلك يجب مخالطة العلماء وسؤالهم، فمن ذلك ليتضح لك المقال قول الإمام أحمد: والطواف على قبور الصالحين مكروه.
وأما ثالثها فقوله: (والخطأ فيها من وجهين:
الأول: تجريدها من النصوص كتابًا وسنة، لأن المقصود الاستدلال لها بدليل شرعي، لا الاستدلال بها هي مجردة من الدليل.
الثاني: فَهِم الكثير أن هذه الآراء الفقهية قاطعة راجحة وما سواها باطل، فحصل التعصب للمذهب والبعد عن الدليل).
فالجواب عن وجهه الأول: أن هذه المتون موضوعة للمبتدئين، ولا شك أن المبتدئ في حكم المقلد، والمقلد لا يسأل إمامه عن الدليل؛ ولأنه حتى لو علم الدليل فإنه لا يعرف وجه الاستدلال منه، فالذي يهمه ابتداء هو معرفة الحكم من الإمام الذي اتبعه؛ ليعبد اللَّه -تعالى- على وفقه.
وأما الجواب عن وجهه الآخر، فهو: أن سبب تقليد إمام ما هو الثقة بعلمه وورعه، بما شوهد من واقع حاله، وتسليم العلماء له، والثناء عليه، وهذا يفضي بالمقلد -ولا ريب- إلى القطع بصحة ما قاله إمامه، وإلا لما جاز له تقليده، هذا أولًا.
وأما ثانيًا؛ فإن إمام المقلد نفسَه يرى أن ما رآه وذهب إليه هو الحق اليقين، وإلا لما ساغ له عبادة اللَّه تعالى به، فهذا الإمام الشافعي -رحمه اللَّه تعالى- يقول: "قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب"، وما عده أحد من العلماء متعصبًا لرأيه؛ وذلك -ولا شك- قد
1 / 14
كان منه دونما تجريح لأحد ولا اتهام له، ولا تنقص ولا ازدراء ولا تسفيه؛ إذ لا ينبغي ذلك لدى الأئمة كلهم -الذين هم مصابيح الدجى- إذا أفضى الحوار إلى تمسك كل برأيه (١).
_________
(١) وقد وقفت على كلام حسن في هذه المسألة للإمام الشاطبي، وهي مسألة صَبْرِ المتبعِ على رأي إمامه إلى حين تكشف البرهان ومأخذ الانتزاع، إذا لم يتبعه لهوى، وإنما لعلمه وورعه، فلا بأس من نقله بأكمله؛ لأهميته وغفلة أكثر الناس عنه، قال -رحمه اللَّه تعالى- في الموافقات (١/ ١٤١، وما بعدها): "وللعالم المتحقق بالعلم أمارات وعلامات تتفق على ما تقدم، وإن خالفتها في النظر، وهي ثلاث:
إحداها: العمل بما علم؛ حتى يكون قوله مطابقا لفعله، فإن كان مخالفًا له فليس بأهل لأن يؤخذ عنه، ولا أن يقتدى به في علم. . .
والثانية: أن يكون ممن رباه الشيوخ في ذلك العلم؛ لأخذه عنهم، وملازمته لهم؛ فهو الجدير بأن يتصف بما اتصفوا به من ذلك، وهكذا كان شأن السلف الصالح، فأول ذلك ملازمة الصحابة ﵃ لرسول اللَّه ﷺ وأخذهم بأقواله وأفعاله، واعتمادهم على ما يرد منه، كائنا ما كان، وعلى أي وجه صدر؛ فهم فهموا مغزى ما أراد به أولا حتى علموا وتيقنوا أنه الحق الذي لا يُعارض، والحكمة التي لا ينكسر قانونها، ولا يحوم النقص حول حمى كمالها، وإنما ذلك بكثرة الملازمة، وشدة المثابرة، وتأمل قصة عمر بن الخطاب في صلح الحديبية؛ حيث قال: يا رسول اللَّه! ألسنا على حق، وهم على باطل؟
قال: "بلى".
قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟
قال: "بلى".
قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا، ونرجع ولما يحكم اللَّه بيننا وبينهم؟
قال: "يابن الخطاب! إني رسول اللَّه، ولن يضيعني اللَّه أبدا".
فانطلق عمر ولم يصبر، متغيظا، فأتى أبا بكر؛ فقال له مثل ذلك.
فقال أبو بكر: إنه رسول اللَّه ولن يضيعه اللَّه أبدًا.
قال: فنزل القرآن على رسول اللَّه ﷺ بالفتح، فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه؛ فقال: يا رسول اللَّه! أَوَفَتح هو؟ قال: "نعم". فطابت نفسه ورجع.
فهذا من فوائد الملازمة، والانقياد للعلماء، والصبر في مواطن الإشكال؛ حتى لاح البرهان للعيان، وفيه قال سهل بن حنيف يوم صفين: "أيها الناس، اتهموا رأيكم، واللَّه؛ لقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أني أستطيع أن أرد أمر رسول اللَّه ﷺ لرددته".
وإنما قال ذلك لما عرض لهم فيه من الإشكال، وإنما نزلت سورة الفتح بعد ما =
1 / 15
وأما مصطلح التعصب فمصطلح بات هلاميًا؛ إذ كل من خالفك في الرأي ويرى أنه وحده على الحق ولم يستطع العدول بك إلى رأيه رماك به، ومهما يكن من أمر، فإن التعصب بالمعنى المتبادر إلى الذهن إذا وقع فإنه مذموم، ولا يحل لأحد أن يقع فيه، هذا أولًا.
وأما ثانيًا؛ فإن المقلد لا يجوز له تعاطي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما هو معلوم، وإن رأى منكرًا فلا يغيره إلا بقلبه؛ إذ ربما يكون يريد الخير ولا يجنيه، وكم من مريد للخير ولا يناله، فهذا باب تراعى فيه المصالح والمفاسد، ولا يقدرها إلا العلماء، ومن هنا يجب على الأمة التحلق حول علمائها الثقات الأثبات، فبهم تدرك المنى، وتتحقق الغايات.
ورابعها قوله: (فحينما تطالع مثلًا أول زاد المستقنع تجد عبارة "وأقسام المياه ثلاثة" وهذا خطأ، بل هما قسمان فقط) أقول: بل أقسامها ثلاثة، كما يدل عليه النظر؛ ذلك لأن الماء إما أن يصح استعماله في العبادات والعادات، وهو الماء المسمى: الطهور، والمطلق؛ لأنه طاهر
_________
= خالطهم الحزن والكآبة؛ لشدة الإشكال عليهم، والتباس الأمر، ولكنهم سلموا وتركوا رأيهم حتى نزل القرآن فزال الإشكال والالتباس.
وصار مثل ذلك أصلًا لمن بعدهم؛ فالتزم التابعون في الصحابة سيرتهم مع النبي ﷺ حتى فقهوا، ونالوا ذروة الكمال في العلوم الشرعية، وحسبك من صحة هذه القاعدة أنك لا تجد عالمًا اشتهر في الناس الأخذ عنه إلا وله قدوة واشتهر في قرنه بمثل ذلك، وقلما وجدت فرقة زائغة، ولا أحد مخالف للسنة إلا وهو مفارق لهذا الوصف، وبهذا الوجه وقع التشنيع على ابن حزم الظاهري، وأنه لم يلازم الأخذ عن الشيوخ، ولا تأدب بآدابهم، وبضد ذلك كان العلماء الراسخون كالأئمة الأربعة وأشباههم.
والثالثة: الاقتداء بمن أخذ عنه، والتأدب بأدبه، كما علمت من اقتداء الصحابة بالنبي ﷺ واقتداء التابعين بالصحابة، وهكذا في كل قرن، وبهذا لوصف امتاز مالك عن أضرابه -أعني: بشدة الاتصاف به- وإلا؛ فالجميع ممن يهتدى به في الدين، كذلك كانوا، ولكن مالكًا اشتهر بالمبالغة في هذا المعنى.
فلما تُركَ هذا الوصف؛ رفعت البدع رؤوسها؛ لأن ترك الاقتداء دليل على أمر حدث عند التارك، أصله اتباع الهوى. . ".
1 / 16
في نفسه، ومطهر لغيره، وإما أن يصح استعماله في العادات دون العبادات، وهو الماء الطاهر؛ لأنه طاهر في نفسه غير مطهر لغيره؛ لمخالطته طاهرًا غير أحد أوصافه الثلاثة، وإما أن لا يصح استعماله في العبادات والعادات، وذلك الماء النجس، فالقسمة على هذا ثلاثية، لا ثنائية، وإذا كان ذلك كذلك فإن قوله: (وهذا خطأ، بل هما قسمان فقط) خطأ.
ثم إن السؤال يتجه له بمعرفة رأيه في حكم القسم الثاني، أي: في الماء الذي خالطه طاهر غير أحد أوصافه: أتصح العبادة به أم لا؟ فإن قال: تصح، فقد خالف ما عليه جماهير الأمة، وسبب الاختلاف مع من يذهب إلى القول بالصحة اللغة (١)، وإن قال: لا تصح به العبادة لما ذُكر من معنى
_________
(١) الطهور بضم الطاء المصدر؛ قاله اليزيدي، والطهور بالفتح من الأسماء المتعدية وهو الذي يطهر غيره مثل الغسول الذي يغسل به وقال الحنيفة هو من الأسماء اللازمة بمعنى الطاهر سواء لأن العرب لا تفرق بين الفاعل والفعول في التعدي واللزوم فما كان فاعله لازمًا كان فعوله لازمًا بدليل قاعد وقعود ونائم ونؤوم وضارب وضروب، وهذا غير صحيح فإن اللَّه تعالى قال: ﴿لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ﴾ وروى جابر ﵁ أن النبي ﷺ قال: "أعطيت خمسًا لم يعطهن نبي قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا" متفق عليه، ولو أراد به الطاهر لم يكن فيه مزية لأنه طاهر في حق كل أحد، وسئل النبي ﷺ عن التوضؤ بماء البحر فقال: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته"، ولو لم يكن الطهور متعديًا لم يكن جوابًا للقوم حيث سألوه عن المتعدي اذ ليس كل طاهر مطهرًا وما ذكروه لا يستقيم؛ لأن العرب فرقت بين الفاعل والفعول فقالت: قاعد لمن وجد منه القعود وقعود لمن يتكرر منه ذلك فينبغي أن يفرق هاهنا وليس إلا من حيث التعدي واللزوم.
وفي معجم مقاييس اللغة لابن فارس (٣/ ٤٢٨): "والطهور: الماء. قال اللَّه تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (٤٨)﴾ [الفرقان: ٤٨]. وسمعتُ محمّد بن هارونَ الثَّقَفِي يقول: سمعتُ أحمد بن يحيى ثعلبًا يقول: الطَّهور: الطاهر، في نفسه، المُطَهِّرُ لغيرهِ".
وقالِ الأزهري في الزاهر، ص ٣٥: "ذكر الشافعي ﵀ قول اللَّه -تعالى-: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾، وفسر الطهور على مقدار فهمه، واحتاج من بعده إلى زيادة شرح من باب اللغه فيه، فالطهور جاء على مثال فعول، وفعول في كلام العرب =
1 / 17
الطهور لغة، فقد عاد إلى ما نحن عليه من جعل القسمة ثلاثية.
وأما خامسها فقوله: (والمشكلة أن هذه المتون تذهب بالطالب بعيدًا عن الآية والحديث ويكدُّ ذهنه في عبارات مغلقة مقفلة من دون طائل، ولماذا نشتغل بعبارات الفقهاء الملغزة الغامضة ونشرحها ونعصر الذهن في فهمها ومعنا كتاب عظيم فيه الهدى والنور مع البيان الشافي والجواب الكافي، ومعنا سنة مطهرة سهلة ميسَّرة، حتى إننا نعرف من الفقهاء من تصدَّر للإفتاء وهو لا يميز بين الحديث الصحيح والضعيف ولا يستحضر الدليل، وإنما يحفظ هذه المتون الفقهية المذهبية، فهل فينا رجل رشيد يُصلح هذا التعليم الفقهي؛ ليدرس الطلاب فقه الكتاب والسنة كما فعل أئمة الحديث وابن تيمية. .)، فالرد عليه كالآتي:
أ- كم من مسألة ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية، ولم يقرنها بدليلها،
_________
= يجيء بمعاني مختلفه؛ فمنها: فعول بمعنى ما يفعل به مثل طهور وغسول قرور ووضوء، فالطهور: الماء الذي يتطهر به والغسول: الماء الذي يغتسل به ويغسل به الشيء، والقرور الماء الذي يتبرد به ومن هذا الباب الفطور وهو ما يفطر عليه من الطعام والنشوق. وهو ما يستنشق به، وإذا كان الطهور من المياه ما يتطهر به أو يطهر به ثوب وغيره علم أنه طاهر في ذاته مطهر لغيره، والطاهر الذي طهر بنفسه وإن لم يطهر غير والطهور لا يكون إلا طاهرًا مطهرًا".
وقال في تاج العروس (١٢/ ٤٤٦): "الطهور: هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره. قال الأزهري: وكل ما قيل في قوله ﷿: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾ فإن الطهور في اللغة هو الطاهر المطهر لأنه لا يكون طهورًا إلا وهو يتطهر به كالوضوء: هو الماء يتوضأ به والنشوق: ما يستنشق به والفطور: ما يفطر عليه من شراب أو طعام.
وسئل رسول اللَّه ﷺ عن ماء البحر فقال: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته"، أي: المطهر أراد أنه طاهر يتطهر به.
وقال الشافعي ﵁: كل ماء خلقه اللَّه تعالى نازلًا من السماء أو نابعًا من الأرض من عين في الأرض أو بحر لا صنعة فيه لآدمي غير الاستقاء ولم يغير لونه شيء يخالطه ولم يتغير طعمه منه؛ فهو طهور كما قال اللَّه تعالى.
وما عدا ذلك من ماء ورد أو ورق شجر أو ماء يسيل من كرم؛ فإنه وإن كان طاهرًا فليس بطهور".
1 / 18
بل يكتفي بعزو الحكم فيها إلى قول أحمد الذي هو إمامه، وهذا من الكثرة بحيث يستعصي على العد.
ب- أن ابن تيمية على ما هو بَيّن للمطالع في فتاواه قد كان ينقل ما في مختصر أهل مذهبه ويعتمده، وهو المختصر المسمى بمختصر الخرقي، ولم يكن يعيب منهجه أو أسلوبه، على الرغم من أن أسلوب المختصرات يكاد يكون واحدًا، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها:
- قوله كما في المستدرك على مجموع الفتاوى (٢/ ١٦٠): ". . إذا تصرف بغير أمره كان فضوليًا، فتكون العقود موقوفة، وهذه إحدى الروايتين عن أحمد، وقول أكثر العلماء، وهي التي ذكرها الخرقي في مختصره: أن بيع الفضول وشراءه ليس باطلًا، بل موقوفًا، فإن باع أو اشترى بعين المال فهو موقوف، وإن اشترى في الذمة فهو موقوف، فأي إجارة والمشترى له، وإلا لزم المشتري".
- وقوله في المصدر السابق (٤/ ١٥٢): "ومن هذا لو زوجت بنت الملاعن ثم استلحقها الأب، فلو قلنا بالأول لكان يتعين ألا يصح النكاح، وهو بعيد؛ بل الصواب أنه يصح، وكذلك إذا علم أنه قريب، ولكن لا يعلم مكانه، وهو حسن، مع أن كلام الخرقي لا يأباه".
- وقوله في المصدر السابق (٥/ ٧٥): "وأما الصبي المميز: فيخير تخيير شهوة حيث كان كل من الأبوين نظير الآخر، ولم ينضبط في حقه حكم عام للأب أو الأم، فلا يمكن أن يقال: كل أب فهو أصلح للمميز من الأم، ولا كل أم فهي أصلح له من الأب، بل قد يكون بعض الآباء أصلح، وبعض الأمهات أصلح، وقد يكون الأب أصلح في حال، والأم أصلح في حال، فلم يمكن أن يعتبر أحدهما في هذا، بخلاف الصغير فإن الأم أصلح له من الأب، لأن النساء أرفق بالصغير، وأخبر بتغذيته وحمله وتنويمه وتنويله، وأصبر على ذلك، وأرحم به، فهي أقدر، وأخبر، وأرحم، وأصبر في هذا الموضع فتعينت الأم في حق الطفل غير المميز
1 / 19
بالشرع، ولكن بقي تنقيح المناط: هل عينهن الشارع لكون قرابة الأم مقدمة على قرابة الأب في الحضانة، أو لكون النساء أقوم بمقصود الحضانة من الرجال؟ وهذا فيه قولان للعلماء يظهر أثرهما في تقديم نساء العصبة على أقارب الأم مثل: أم الأم، وأم الأب، والأخت من الأم، والأخت من الأب، ومثل العمة والخالة ونحو ذلك، هذا فيه قولان، هما روايتان عن أحمد، وأرجح القولين في الحجة، وتقديم نساء العصبة فتقدم الأخت من الأب على الأخت من الأم، وخالة الأب على خالة الأم، وهو الذي ذكره الخرقي في مختصره، وأبو الحسن الآمدي وغيرهما من الأصحاب".
وهذا كله -على ما ترى بعيني بصيرتك- يدل كل من له قلب واع على خطأ ما ذهب إليه هذا المنكر على المتون، قد سمعت بعد أن سطرت هذه السطور وبيضت أغلب الكتاب من بعض كبار العلماء بالبلد الحرام، وهو: الشيخ صالح بن فوزان الفوزان -حفظه اللَّه تعالى ورعاه- وقد سئل إيماء عن قول هذا المنكر على المختصرات؛ لأنه مواطنه، فقال: هو أحد شخصين:
الأول: إما أنه مغرض، يرمي بكلامه هذا إلى إبعاد الناس عن العلم الصحيح ويضلهم؛ لأن حفظ الأدلة التي هي الآيات والأحاديث ليس فيه ما يفيد العمل، بخلاف كتب الفقه المختصرة؛ وذلك للاعتبارت التي سبق أن أنبأتك بها.
وأما الآخر: فإنه إن لم يكن مغرضًا، فهو جاهل مركب، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه.
فانظر -رحمك اللَّه تعالى- كم ضل من جماهير المسلمين هذا المنكر للمختصرات المتسمى -إعلاميًا- داعية إسلاميًا، فيا للَّه العجب من هذا الإعلام! .
1 / 20
- ٣ -
هذا، وممن شرح مختصر الشيخ خليل: أبو عبد اللَّه محمد بن إبراهيم التتائي، وله عليه شرحان: كبير، وأسماه "فتح الجليل في حل جواهر درر ألفاظ الشيخ خليل"، وصغير أسماه "جواهر الدرر في حل ألفاظ المختصر"، ولما كان التتائي من أهل التحرير في المذهب والإتقان كما يقول مترجموه، فقد عرض عليّ بعض الأخوة من مديري إحدى دور النشر بلبنان على هامش معرض بنغازي للكتاب في شهر نوفمبر من عام ٢٠٠٩ تحقيق شرحيه أو أحدهما فضلًا عن شرح الأجهوري الوسط، وكان قد كتب له بعض الشيوخ الشناقطة -كما علمت لاحقًا من الشيخ وزير الأوقاف والشؤون الدينية حمزة بو فارس- بعض شروح المختصر التي لم تحقق ولم تظهر إلى عالم النشر، متمنيا عليه إخراجها، وآملًا في تحقيقها، ورغبة مني في خدمة التراث المالكي أجبته إلى ذلك، لا سيما أنني كنت كثيرًا ما أغتم لعدم ظهور كنوز هذا التراث الغني في فكره ومسائله بما أودعه فيه كبار أقطابه من علم، من أمثال القاضي أبي بكر بن العربي صاحب الشخصية الفذة والعقل الوقاد، الذي ضاع من كتبه الكثير، والقاضي عياض الذي نقل عنه كثير من المشارقة لا سيما الشافعية بعزو أحيانًا، ومن دونه في أحيان أخرى، حَالُهُ في ذلك حال ابن بطال، ومنهم أيضًا أبو الوليد الباجي الأصولي الألمعي، الذي أعاد بالأندلس للمذهب المالكي هيبته، وابن عبد البر الذي هو حافظ بلاد الغرب الإسلامي على مر العصور من دون منازع، وأبي القاسم السهيلي الذي تعرض تراثه للسرقات الأدبية، لا سيما من قبل ابن القيم -رحمه اللَّه تعالى- في كتابه "بدائع الفوائد"، فرأيت في هذا العرض المقدم فرصة لنشر ما أمكن نشره.
- ٤ -
وقد شاع لدى كثير من الناس أن شرح التتائي الصغير الذي نحن بصدد إخراجه ليس من الكتب المعتمدة في المذهب، وحين تسألهم عن
1 / 21