هتف الجنود من ورائه في نفس واحد وهم يطلقون النار: كيل زا ديفيل!
لم يخرجوا ألسنتهم بحرف الذال. التصقت الألسنة بسقف الفم وجفت الحلوق. من فوق العيون طبقة من الماء كالدموع. الوجوه سمراء شاحبة، والجفون أكلها الذباب فوق الجسر. عظام الظهر بارزة عند لوحتي الكتف. تحت البدلة العسكرية علامات حمراء تتلوى فوق اللحم كذيول السحالي. صوت الكرابيج تلسع الهواء. الأنفاس تتلاحق في لهاث سريع. آلاف الأنفاس تلهث بصوت كالهتاف: يسقط! يسقط!
الهتاف يدوي في أذنيها كهدير الشلالات، وهي تجري في الظلمة فوق أربع عجلات. فمها مفتوح وأنفاسها تلهث: يسقط! يسقط!
الصوت يهز السرير من تحتها، والأعمدة النحاسية تصطك. الهتاف يذوب في صوت واحد كالصفارة الطويلة. تشد جفونها لتفتح عينيها لكنها نائمة نوما عميقا. تمد ذراعها عن آخرها حتى الجدار، كان مكانه فوق السرير خاليا، كان هنا منذ لحظة. كان هنا منذ ثلاثين عاما وكان يمكن أن يبقى لحظة أخرى، لكنها لم تستبقه. تركته يمضي خارج حياتها. لم تفتح عينيها لتستبقيه. لم تفتح فمها وتناديه. ثلاثون عاما وهي تقول زكريا. كان يمكن أن ينتظرها لتفتح فمها وتقول: يسقط النظام!
سمعت صوتها بأذنها ففتحت عينيها عن شق صغير، تخشى أن تفتحهما أكثر فينقلب الحلم حقيقة. فوق رأسها السقف الأجرب، سقط الطلاء عن أجزاء منه. صورة الإله «رع» له جسد إنسان ورأس عجل. لمبة كهربية تتدلى من سلك يلتصق به ذباب ميت . باب الغرفة مفتوح. ضوء خافت يتسرب من الممر. تراه يدخل بقامته الطويلة ورأسه المرفوع. شعر رأسه غزير أسود. خصلة واحدة تسقط فوق جبهته. يرفعها بأصابع نحيلة. تلتقي عيناه بعينيها. - جنات؟
يحوطها بذراعيه كأنما هي أمه الميتة. بشرتها سمراء بغير تجاعيد. تلمع تحت الشمس كالنحاس الأحمر، شعرها طويل أسود. يتطاير حولها مع الهواء. تقذفه وراء ظهرها بحركة واحدة. كالفرس الحرة لا يملكها أحد.
نهضت من السرير بحركة خفيفة. جرت فوق قدميها الحافيتين إلى المطبخ. عادت بزجاجة من البيرة المثلجة، وخيار أخضر قطعته على شكل أصابع رفيعة وضعته في كوب طويل به ماء، وصحن من الجبنة البيضاء، قطعتهما بالسكين على شكل مكعبات مستطيلة، وضعت السكين فوق المنضدة إلى جوار الزهرية. زهرة واحدة تتدلى من فوق الحافة. أوراقها منكمشة شاحبة البياض خالية من الدم.
عادت إلى المطبخ على أطراف أصابعها. جاءت بوعاء من الماء. روت الزهرة قطرة قطرة. فوق النافذة تهتز الستارة الشفافة. نسمة هواء طرية قبل الفجر. نجمة الصباح تتألق في الأفق، كعين الأم تلمع من بعيد. تطل من النافذة عليها وهي تمشي إلى المدرسة. تستدير وتلوح لها بيدها. بريق يطفو فوق العين كالدموع. معلقة في السماء لا تجف ولا تسقط، وتمتلئ الزهرية بالماء. الأوراق الميتة تتحرك مع لمسات الهواء. تتفتح الزهرة مع ضوء الفجر. يسري الشفق الأحمر في البياض الشاحب. - جنات؟
وسمعها تضحك، ضحكتها ترن في سكون الليل برنين الفضة. تلقي بشعرها إلى الوراء وتضحك. تحلق الضحكة فوق رأسها كدوائر من الضوء، ثم تصمت فجأة. تطفو فوق عينيها سحابة، في قمة الفرح يتسلل الحزن الراسب في القاع.
تشد عينيها من الأفق وتنظر إليه. عيناه مملوءتان بالضوء. تحوطه بذراعيها كابنها الميت، يرتدي قميصا أبيض من القطن مفتوحا حتى الصدر. تحت إبطه شعر أسود له رائحة الأطفال، وجرح قديم في الظهر، تحت لوحة الكتف. - أحبك.
Неизвестная страница