أصابعها رمادية تعلوها رعشة منذ انفتحت البوابة ورأتها تدخل وهي تحس الضربات تحت ضلوعها. كانت جالسة في غرفة المدير حين لمحتها تدخل من البوابة، وغامت عيناها تحت سحابة. امتلأت السماء بشبورة رمادية. بدا وجه المدير من وراء الزجاج أبيض بلون الطباشير، وشعر رأسه يتساقط، والجير فوق الجدران يتساقط، وأوراق الشجر تسقط والريح تصفر من بعيد. - يا هووووه ...
يسري الصفير في أذنيها كملايين الأصوات تهتف. يذوب الصوت في لحن خافت يشبه حفيف الهواء. يحرك رءوس الأشجار. يهز الأسلاك فوق السور العالي. يتردد الصدى في أنحاء السراي الضخمة. بين الجدران المشققة، يجتاز الممرات والسراديب البعيدة. تلتقطه الآذان المرهفة خلف الأبواب المغلقة، والعيون المفتوحة طوال الليل وراء النوافذ. لها قضبان على شكل مربعات من الحديد. من وراء كل مربع تطل عين كالنجم. مملوءة بالوهج. كالضوء يملأ العين لحظة اكتشاف الموت. كالعقل يتوهج بالإدراك قبل الانطفاء. - يا هوووووه ...
يتردد الصوت كآلاف الأنفاس الغائبة في النوم. يجتاز السور العالي ويسري إلى المدينة. كانوا يسمونها القاهرة، من الفعل الماضي قهر، والمضارع يقهر. يقهر قهرا فهي مقهورة وليست قاهرة. يسير أهلها فوق الأرصفة بوجوه طويلة شاحبة. عيونهم نصف مغمضة وأفواههم نصف مفتوحة. يتطلعون إلى السراي من بعيد، يرسمون فوق صدورهم علامة الصليب، أو علامة الهلال. يستعيذون بالله من الشيطان، فالسراي لها هيبة الشياطين، ورهبة الآلهة في الزمن القديم منذ سيدنا نوح. في النهار صفراء بلون الرمال ورياح الخماسين، وفي الليل تصبح كتلة من السواد تتحرك داخلها أشباح بيضاء، يطلون من وراء مربعات سوداء، أو يسيرون كالأرواح الهائمة في أرض جرداء حول السراي يسمونها الحديقة. تنبت فيها بعض الأشواك حشائش شيطانية، وأعمدة حجرية تعلوها نقوش فرعونية. الإله رع وعجل أبيس، وأشجار عتيقة عمرها ألف عام أو أكثر. لا أحد يمكن أن يحدد عمر أية شجرة. الجذع يمتد عاليا في السماء، أو قصيرا مقطوعا بلا رأس، القشرة سوداء تعلوها تجاعيد غائرة في الساق حتى النخاع.
الزمن من شدة القدم، يبدو ساكنا بلا حركة، بلا وجود، والصمت مكتمل إلا همس خافت. حفيف هواء. صفير طويل ممدود بامتداد الأفق. ملايين الأصوات التي تصنع صمت الليل. - يا هووووووو ...
أذناها مرهفتان وهي واقفة في نافذتها العلوية، بغير قضبان، فهي الرئيسة. يأتيها الهواء من الشرفة البحرية. ستارة شفافة تهتز، مشغولة بالإبرة الكروشيه. سرير له أعمدة نحاسية من فوقه لحاف من القطن له غطاء من الساتان الأحمر. فوق الجدار صورتها داخل إطار مذهب وهي تتسلم الوسام، واقفة فوق درجة السلم، منحنية بنصفها الأعلى للأمام. ذراعها اليمنى ممدودة وأصابعها مفرودة. تمدها عن آخرها وتنحني بجذعها. رأسها يكاد يصطدم بالمنصة العالية. ذراعها الطويلة مهما امتدت لا تجتاز المسافة. مسافة عريضة من الخشب مرصوص فوقها الأوسمة. بحركة أخيرة تشرئب بعنقها مائلة بجسمها إلى الأمام. يصطدم رأسها بحافة المنصة. تقبض بيدها اليمنى على الوسام. تمد يدها اليسرى للمصافحة. تتذكر فجأة أن المصافحة لا يجوز أن تكون باليد اليسرى. في يوم القيامة يصافح الناس ربهم باليد اليمنى . هكذا قال لها جدها، والجنة تكون عن يمين السراط المستقيم، ونار جهنم على اليسار، وإبليس يقف دائما على اليسار.
أصابت يدها رعدة. تصورت أنهم سيسحبون منها الوسام لأنها مدت يدها اليسرى للمصافحة. قبل أن تلحظها العيون نقلت الوسام من يد إلى يد، ومدت ذراعها اليمنى طويلة نحو المنصة.
في الحلم كانت تعود إليها المصافحة، وهي ليست مصافحة بالكامل. لأن «اليد» فوق المنصة لم يكن لها خمس أصابع. أو لأن الأصابع الخمس كانت ملتصقة بعضها ببعض. متقلصة داخل قفاز مشدود كالجلد. منكمشة داخل الذراع الملاصقة للصدر، والصدر عريض صلب داخل درع من الحديد. تعلوه أوسمة ونياشين تلمع، وعنق يلتوي إلى أعلى كعنق الديك الرومي ومن فوقه الوجه المربع. رمادي بلون حجر المقطم. ثابت في الهواء كرأس أبي الهول.
لم تكن ذراعه تمتد لتجتاز المنصة. لا يجوز أبدا أن تمتد لأكثر من مسافة صغيرة محسوبة بالمليمتر، ولا بد لليد الأخرى أن تمتد المسافة كلها، ومعها الذراع أيضا، ومع الذراع العنق، ومع العنق ينحني الجسم كله إلى الأمام بزاوية حادة. حينئذ فقط يحدث التلامس. أطراف أصابعها تلامس طرف يده أو إصبعه، في حركة خاطفة كالبرق، صاعقة كالكهرباء. ففي هذه اللحظة تسقط عليها كشافات الضوء، وتظهر الصورة في الصحف. يبدو وجهها أبيض بلون الماغنسيوم المحروق في الفلاش. أسنانها بيضاء عارية في ابتسامة أو انفراجة واسعة في الفم، على شكل اعوجاجة.
منذ الإله رع يقف الوالي فوق هذه المنصة، وينظر بطرف عين إلى شيء ما، فتحل به الروح، وقد تصبح العصا الخشبية مثلا ثعبانا يسعى أو سحلية، وفي عهود الملك أو الرئيس كان يكفي لطرف الإصبع أن يلامس اليد من عامة الناس فتصبح المرأة رئيسة، ويصبح الرجل مديرا أو وزيرا، ويسجل اسمه في اللوح المحفوظ. يحفرون الاسم الثلاثي بإزميل فوق قرص من المعدن. ذهب أو فضة أو برونز أو نحاس، حسب الدرجة واللقب واسم الجد، ويشبك فوق الصدر بدبوس.
هيبة عريقة ممتدة في التاريخ. منذ العجل أبيس، والمنصة هي المنصة من خشب الشجر المقطوع الرأس ، والرءوس هي الرءوس. لها شكل بني آدم وبنات حواء، والانحناءة هي الانحناءة بزاوية حادة، ولا بد للركبة اليمنى أن تنثني مع العنق، وهو واقف داخل بدلة صاحب الجلالة. أو صاحب المعالي. أو صاحب السيادة، والرأس هو الرأس مربع بلون الجرانيت. له قمة مدببة كالهرم، تعلوها ريشة، أو ذؤابة شعر يطيرها الهواء، والهواء يصفر بصوت كالريح من بعيد. - يا هوووووو ...
Неизвестная страница