ثم يمتاز هذا الفن بعد هاتين الخصلتين، أو قل إن شئت قبل هاتين الخصلتين، بخصلة ثالثة تتصل بالمعنى، وهي أن يكون هذا المعنى أثرا من آثار العقل والإرادة والقلب جميعا، فليس هو شعرا عاطفيا يصدر عن القلب أو يفيض به الطبع، وليس هو شعرا يصنعه العقل وحده، وإنما هو مزاج من ذلك يسيطر الذوق عليه قبل كل شيء. أثر العقل فيه أنه نقد لاذع، أو هجاء ممض، أو تصوير دقيق لشيء يكره أو يحب؛ وهذا كله يحتاج إلى بحث وتفكر وإلى روية وتأمل، ولا يأتي مستجيبا لعاطفة من العواطف أو هوى من الأهواء. وأثر الإرادة فيه أنه لا يأتي عفو الخاطر ولا فيض القريحة، وإنما يقصد الشاعر إلى عمله وإنشائه، ويستعد لتجويده والتأنق فيه. وأثر القلب فيه أنه يفيض عليه شيئا من حرارته وحياته، ويجري فيه روحا من قوته التي يجدها عندما يقبل على الخير أو عندما ينفر من الشر، عندما يرضى، وعندما يسخط؛ فالمعنى في هذا الشعر يجب أن يكون قويا حتى حين يظهر فيه الابتذال، وكل هذا لا يأتي إلا إذا صح التعاون بين القلب والإرادة والعقل والذوق على هذا الإنشاء.
ثم يمتاز هذا الفن بخصلة أخرى لا أدري كيف أصورها، ولكن سأحاول ذلك كما أستطيع، وهي أن تكون المقطوعة منه أشبه شيء بالنصل المرهف الرقيق ذي الطرف الضئيل الحاد، قد ركب في سهم رشيق خفيف لا يكاد ينزع عن القوس حتى يبلغ الرمية، ثم ينفذ منها في خفة وسرعة ورشاقة لا تكاد تحس. ومن هنا امتاز هذا الفن بالبيت الأخير أو البيتين الأخيرين من المقطوعة؛ فهما يقومان منها مقام الطرف الضئيل النحيل الرقيق الرشيق من نصل السهم، فإذا كانت المقطوعة بطيئة الحركة ثقيلة الوزن، فليست من هذا الفن في شيء. وإذا أردت أن تلتمس لهذا الفن صورا شعرية تحقق هذه الخصال كلها في أدبنا العربي فاعمد إلى شعر بشار وحماد ومطيع وأصحابهم في البصرة والكوفة وبغداد؛ فستجد من ذلك أكثر مما تريد وأكثر مما تحب.
وهنا أصل إلى الخصلة الأخيرة التي شاعت في هذا الفن عند القدماء من اليونانيين واللاتينيين والعرب، وإن لم تكن شاملة ولم تبلغ أن تصير قانونا من قوانين الفن، وهي هذه الحرية المطلقة التي يتجاوز بها أصحابها حدود المألوف من السنن والعادات والتقاليد، والتي تدفع أصحابها إلى الإفحاش في اللفظ، وإلى الإفحاش في المعنى، وإلى التحرر مما يفرضه الذوق النقي على الرجل الكريم حين يتحدث إلى الناس أو حين يتحدث عن الناس. وأنت واجد من هذا شيئا كثيرا عند بشار وأصحابه في البصرة والكوفة وبغداد، كما أنك واجد منه شيئا كثيرا عند «كليماك» و«مارسيال» وأصحابهما من شعراء الإسكندرية وروما، ولعلك تجد شيئا من هذا عند بعض الشعراء المحدثين قبل الثورة الفرنسية في إيطاليا وفرنسا، ولكنه قليل بالقياس إلى ما تجده عند القدماء.
من هذا كله تتبين حقيقة هذا الفن وخصائصه، وتتبين بنوع خاص أنه لون من ألوان الشعر الهجائي، يقصد به إلى القصر والخفة والحدة ليكون سريع الانتقال، يسير الحفظ، كثير الدوران على ألسنة الناس، يسير الاستجابة إذا دعاه المتحدث في بعض الحديث، أو الكاتب في بعض ما يكتب، أو المحاضر في بعض ما يحاضر، ثم ليكون مضحكا للسامعين والقارئين بما فيه من عناصر الخفة والحدة والمفاجأة، ثم ليكون بالغ الأثر آخر الأمر في نفوس الأفراد والجماعات، يدفعهم إلى ما يريد أن يدفعهم إليه من الخير، ويردهم عما يريد أن يردهم عنه من الشر، في غير مشقة ظاهرة أو جهد عنيف.
وليس من شك في أنك قد ارتعت حين بلغت هذا الموضع من هذا الحديث؛ قد ارتعت من جهة، وثار في نفسك حب الاستطلاع من جهة أخرى، فأنا أصور لك فنا من فنون النقد اللاذع والهجاء الممض، الذي هو أشبه بالسهام التي لا تنزع عن القوس إلا أصمت وأردت من تصيب. وأنا أصور لك فنا من فنون الهجاء لا يتورع أصحابه عن فاحش اللفظ وقبيح المعنى وسيئ الرأي في الحياة والأحياء، وأنا أقدم لك هذا التصوير بين يدي كلام أزعم أن بينه وبين هذا الفن صلة؛ فأنت مشفق مرتاع، تسأل نفسك إلام أريد بهذا الكتاب؟ وما هذه السهام الرقيقة الرشيقة الموسومة المسمومة التي أرسلها؟ وإلى من أريد أن أرسلها؟ كل هذه الأسئلة تخطر لك؛ فتثير في نفسك روعا وإشفاقا، وتثير في نفسك شوقا إلى المعرفة وكلفا بالاستطلاع. فلا تشفق ولا ترتع، ولا تمن نفسك الأماني، ولا تخدعها بالغرور؛ فليس في هذا الكتاب هجاء، وقد انقضى عصر الهجاء منذ زمن طويل، وليس في هذا الكتاب سهام موسومة أو مسمومة، فقد انقضى عصر التراشق بالسهام منذ عهد بعيد، ولست أريد بهذا الكتاب إلى أحد؛ فإني لا أعرف من أمر الذين ألفتهم من قريب أو من بعيد إلا خيرا.
ولست أريد بهذا الكتاب إلى شيء إلا النقد الذي يسمونه بريئا في هذه الأيام، والنقد الذي يوجه إلى ألوان من الحياة لا إلى أفراد بأعينهم من الناس. ومن المحقق أني لم أخترع هذا الكلام من لا شيء، ولم أشتق هذه الصور من الهواء، ولم ألتمسها في الصين ولا في اليابان ولا في بلاد الهند والسند، وإنما أنا أعيش في مصر، وأشارك المصريين في الحياة التي يحيونها، وآخذ بحظي مما في هذه الحياة مما يرضي وما يسخط، وأنا بعد ذلك أعرف أقطارا من الأرض سافرت إليها وأقمت فيها، أو قرأت عنها في الكتب والأسفار، وأنا بعد هذا وذاك أعرف أجيالا من الناس عشت بينهم، أو قرأت أخبارهم وعرفت آثارهم فيما استطعت أن أظهر عليه من آثار الناس في الشرق والغرب، وفي الشمال والجنوب. ولست أزعم كما زعم أبو العلاء أني أعرف الناس جميعا، وأني قد تلوت أجيال الناس جميعا؛ فقد كان أبو العلاء غاليا حين قال:
ما مر في هذه الدنيا بنو زمن
إلا وعندي من أنبائهم طرف
وأنا واثق كل الثقة بأن كثيرا من أبناء الزمان قد مروا في هذه الدنيا وليس عندي من أنبائهم طرف طويل أو قصير، ولكني واثق بأني عرفت الناس، وبلوت أخبارهم وآثارهم إلى حد ما، وتأثرت بما بلوت من ذلك؛ فسخطت حينا ورضيت أحيانا، وأظهرت ما وجدت من السخط والرضا في صراحة واضحة تغنيني عن التلميح الغامض.
ثم أنا أثق بعد هذا بأن ما يقال في نقد الناس وحمدهم إنما هو أشبه بالمرايا، يرى الناس فيها أنفسهم؛ لأننا لا ننقد عفاريت الجن، ولا نحمد الملائكة الأبرار، وإنما ننقد ونحمد ما نرى وما نعلم من أعمال الناس وآثارهم.
Неизвестная страница