موفق الدين الإربلي
إني أبغض الشعر اليسير، وأكره الطريق المطروقة التي يسلكها كل إنسان، ولا أشرب من الحوض المباح، وأعاف ما تبتذله الدهماء.
كليماك
تقدمة
هذا لون من ألوان القول لم يطرقه أدباؤنا المعاصرون؛ لأنهم لم يلتفتوا إليه، أو لأنهم لم يحفلوا به، مع أنه من أشد فنون القول ملاءمة لهذا العصر الذي نعيش فيه، فنحن نعيش في عصر انتقال كما يقال لنا منذ أخذنا نعرف الحياة، وعصور الانتقال تمتاز بما يكثر فيها من اضطراب الرأي، واختلاط الأمر، وانحراف السيرة الفردية والاجتماعية عن المألوف من مناهج الحياة؛ وهذا كله يدفع إلى النقد، ويحمل على العناية بإصلاح الفاسد وتقويم المعوج، والدلالة على الخير ليقصد إليه، وعلى الشر لتتنكب سبيله، وإظهار ما يحسن وما لا يحسن في صورة قوية أخاذة، عميقة الأثر في النفوس، شديدة الاستهواء للذوق، عظيمة الحظ من ملاءمة الطبع.
ونحن نعيش في عصر ما زلنا نسمع أنه عصر السرعة، يقصر فيه الوقت مهما يكن طويلا عما نحتاج إلى أن ننهض به من الأعباء التي لم تكثر ولم تثقل على الناس في عصر من العصور، كما تكثر وتثقل وتتنوع وتزدحم في هذه الأيام؛ وهذا كله يحمل على أن نؤثر الإيجاز على الإطناب، ونقصد إلى ما يلائم وقتنا القصير وعملنا الكثير، وهذه اللحظات التي يتاح لنا فيها شيء من الفراغ للاستمتاع بلذات الأدب الخالص والفن الرفيع.
وليس من شك في أن حياتنا الحديثة قد وجدت من أدبنا الحديث مرآة صادقة تصورها أحسن التصوير وأدقه وأعظمه حظا من إمتاع العقل وإرضاء الذوق وملاءمة الطبع؛ فقد عرفنا المقالة منذ أواخر القرن الماضي، وعرفنا أنواعها المختلفة وفنونها المتباينة ومحاولاتها الناجحة لتصوير ما نحتاج إلى أن يصور لنا من ضروب الحياة التي نحياها، ناقدة مرة ومقرظة مرة أخرى، معلمة مرة ومعنية بالإمتاع الفني مرة أخرى، متناولة للسياسة على اختلاف ألوانها، وللحياة الاجتماعية على تباين أشكالها، وللحياة العقلية على تنوع فروعها.
ثم عرفنا القصة التي تقصد تارة إلى الأدب الخالص، وتارة إلى تصوير الحياة المصرية أو الحياة الإنسانية بوجه عام. وعرفنا الكتب التي يهجم أصحابها فيها على ضرب من ضروب الحياة ينقدونه نقدا مباشرا، أو على لون من ألوان الحياة يحببونه إلى الناس ويدعونهم إليه، أو على مسألة من مسائل العلم، أو قضية من قضايا الفلسفة، أو مذهب من مذاهب الأخلاق، أو اتجاه من اتجاهات الفن والأدب. كل ذلك وأكثر من ذلك قد ظهر به أدبنا الحديث، وانتهى منه إلى حظ لا بأس به، ولكنه مهما يبلغ من الرقي، ومهما يعظم حظه من التنوع والاختلاف والخصب؛ فلن يغني عن هذا الفن الجديد القديم الذي ينقد في سرعة وخفة ودقة وإيجاز، ويحاول مع هذا كله أن يكون كلاما مختارا يروق بلفظه ومعناه كما يروق بصيغته وأسلوبه، ويصلح من أجل هذا كله لأن يكون أدبا يجد القارئ فيه ما يحب أن يجد في الأدب من لذة العقل والذوق والقلب والأذن واللسان جميعا.
وقد قلت إن هذا الفن جديد قديم، ولا بد من أن أفسر هذه العبارة التي تظهر متناقضة، وهي على ذلك صادقة كل الصدق، ملائمة كل الملائمة لحقائق التاريخ الأدبي العام من جهة، ولحقائق التاريخ الأدبي العربي من جهة أخرى. وأول حقيقة يجب تقريرها هي أن هذا الفن كغيره من فنون القول قد نشأ منظوما لا منثورا؛ فهو منذ نشأته الأولى في الأدب اليوناني مذهب من مذاهب الشعر ولون من ألوانه، نشأ يسيرا ضئيلا، ثم أخذ أمره يعظم شيئا فشيئا، حتى سيطر أو كاد يسيطر على الأدب اليوناني في الإسكندرية وغيرها من الحواضر اليونانية، في العصر الذي تلا فتوح الإسكندر. وقد نشأ كذلك في الأدب اللاتيني ضئيلا يسيرا، حتى إذا اتصل الأدباء اللاتينيون بالأدب اليوناني عامة والأدب الإسكندري خاصة؛ ترجموا ثم قلدوا ثم برعوا، حتى أصبح هذا الفن من فنون الشعر اللاتيني ممتازا أشد الامتياز وأعظمه في القرنين الأول والثاني للمسيح، أي في العصر المجيد من عصور الإمبراطورية الرومانية.
أما في أدبنا العربي فقد تأخرت نشأته شيئا ما؛ فلم يكد يعرفه الأدب الجاهلي، أو نحن لا نعرف من الأدب الجاهلي ما يمكنا من أن نقطع بأن الشعراء الجاهليين قد حاولوا أو قصدوا إليه. ولم يعرفه الأدب الإسلامي،
Неизвестная страница