ومصدر هذا التناقض الذي تضيق به، وتراه لغزا معضلا، وتريد أن تلتمس له الحل فلا تجد إلى حله سبيلا، أنك لم تعرفه كما أعرفه، ولم تظهر من أمره على ما أظهر عليه. فصاحبنا أعجوبة من غير شك، ولكنها أعجوبة لا تكاد تثبت لمن يعرفه حق معرفته، وسبيل ذلك أن تصحبه يوما كاملا، يوما يأتلف من النهار والليل، فالنهار وحده لا يفسره، والليل وحده لا يجلوه، ولا بد من أن يتعاون هذان الفرسان اللذان يستبقان دائما، ولا يستطيعان أن يجتمعا في مستقر واحد، لا بد من أن يتعاون هذان الفرسان على تفسير غامضه، وتجلية أمره؛ لأنهما قد اقتسما نفسه اقتساما كاملا.
فللنهار منه نصيب لا يعرفه الليل، ولليل منه نصيب لا يبلوه النهار، وآية ذلك أن عين الفجر لم تره قط إلا مغرقا في نوم ثقيل أو غارقا في سكر عميق، وأن عين الضحى المشرق لم تره قط إلا يقظان الجسم نائم النفس، وأن صدر الليل لم يره قط إلا مرحا فرحا خفيفا رشيقا كأنه لا يحمل هذا الجسم الضخم الثقيل، وإنما يحمل جسما قد صور من الهواء، فهو لا يسكن إلا ليتحرك، ولا يستقر إلا ليضطرب، ولا يسكت إلا ليتكلم، وهو لا يتكلم بهذا الصوت الفاتر المتكسر، وإنما يتكلم بصوت مرتفع عريض يملأ الفضاء، ويسمع من بعيد، وهو لا يجد مشقة ولا جهدا في رفع جفنيه، ولا في التنفس من أنفه الدقيق الضئيل، وابتسامته تلك الغافلة البلهاء تستحيل إلى ابتسامة أخرى فيها كثير جدا من الفطنة، وفيها كثير جدا من الذكاء.
وهو على كل حال ليس نائما إذا جنه الليل، وإنما هو أبعد الناس عن النوم، وأعظمهم حظا من اليقظة، بل قل إنه يقظة كله يقظة لا تنام ولا تنيم، وإنما توقظ الناس من حوله، ولعلها تزعجهم إزعاجا فهو حياة ثائرة فائرة، وهو حركة هائجة مائجة، وهو تفكير متصل لا يعرف الانقطاع، وكلام مسترسل لا يعرف الوقوف.
فله نفسان؛ نفس قد صحبت النهار تنام فيه، وتؤذن الناس بأنها مستيقظة، ونفس قد صحبت الليل، تسهد فيه، وتخيل إلى الذين لا يألفونه أنها نائمة، وكل ما يصدر عنه من الأعمال التي تصور الذكاء، ومن هذه الأقوال التي تصور الفطنة إنما هو من وحي نفسه المستيقظة في الليل، تقدره وتدبره، ثم تهينه وتدخره لنفسه النهارية النائمة، فيصدر عنها كما تصدر الأحلام عن النائمين.
ولم يكن هذا حاله منذ مارس حياة الرجال، وإنما طرأ عليه قليلا قليلا كما تطرأ بعض العلل على بعض المرضى، فقد كان في المدرسة الثانوية وأثناء الدراسة الجامعية في مصر وفي أوروبا فتى كغيره من الفتيان يشارك أترابه في الدرس، ويشاركهم في العبث والمرح، ولكنه يمعن في الدرس أكثر مما كانوا يمعنون، ويبلغ من النجح أكثر مما كانوا يبلغون، فإذا أقبلوا على مرحهم استوفى منه حظا أعظم من حظوظهم، وألح فيه إلحاحا كثيرا ما كانوا ينكرونه عليه، ويلومونه فيه، فلم يكن يلقى لومهم إلا بالسخرية، ولم يكن يستقبل إعراضهم إلا بالازدراء.
وما له لا يفعل ذلك، وإسرافه على نفسه في اللهو لا يقصر به عن إتقان الدرس، والتفوق على أترابه فيه، وما الذي يمنعه أن يعطي نفسه من لذة العقل أعظم حظ ممكن، وأن يعطي جسمه من لذة الحس أكبر قسط مستطاع، ولماذا ينصف نفسه بما يتيح لها من لذة العلم والمعرفة، ويظلم جسمه بحرمانه لذة العبث والمجون، وكذلك أنشأ لنفسه فلسفة خاصة لاءمت حياته في أوروبا ملاءمة ما، ولكنها لم تلائم حياته في مصر، فللأوضاع الاجتماعية في مصر خصائصها التي تفرض على الناس، ولا سيما حين يشغلون المناصب، ويرضون الرؤساء، ويرقون رقيا سريعا، ألوانا من الوقار، وضروبا من الاحتشام تضطرهم إلى شيء من الجد والحرمان إن كانوا أصحاب عبث ومجون.
ومن أجل ذلك ضاق صاحبنا بالحياة أول الأمر ضيقا شديدا انتهى به إلى سأم شديد، وكاد ينتهي به إلى يأس مظلم، فقد رأى أبواب العلم والمعرفة والدرس والبحث مفتحة له على مصاريعها، ورأى فرص اللهو والعبث نادرة، ووسائلها محدودة، وأبوابهما لا تكاد تفتح إلا قليلا، ولا تكاد تفتح إلا لتغلق، فإذا هم أن يلج منها إلى ما يريد اضطر إلى كثير من الحذر والاحتياط؛ لأن الأوضاع الاجتماعية في ذلك الوقت كانت تفرض الحذر والاحتياط، وقد هم أن يرضي نفسه، ويهمل حسه، وأن يمعن في لذة العلم، ويزهد في لذة الإثم، ولكنه لم يلبث أن آنس من نفسه زهدا في المعرفة، وانصرافا عن الدرس، وفتورا عن البحث والدرس، ونظر فإذا هو يوشك أن يكون موظفا كغيره من الموظفين الذين يضطربون من حوله خاملين لا يضيقون بالخمود والخمول، بل لا يشعرون بالخمود والخمول، وإنما هم راضون عن أنفسهم، وعن حظوظهم، قد اطمأنوا إلى الحياة، واطمأنت إليهم الحياة.
وكان صاحبنا أبعد الناس عن الرضى، وأبغضهم للاطمئنان، وأشدهم طموحا إلى الرقي، وطمعا في الامتياز، فلم يكد يفكر ويقدر حتى استيقن أن فلسفته تلك قد خلقت له، وأنه خلق لها، وأنها وحدها هي التي تستطيع أن تبلغه ما يريد من علو المنزلة، وارتفاع المكانة، وما دام لا يرضى بالقليل، ولا يقنع بما يقنع به عامة الموظفين، ولا يكفيه أن يخطو إلى الامتياز خطوات متئدة معتدلة، وإنما يريد أن يخطف الطريق خطفا، وينهبها نهبا، ويأتي بما لم تستطعه الأوائل كما يقول أبو العلاء، فلا بد من أن يلجأ إلى فلسفته فيحيا بها، ويحيا لها.
وقد فعل فاعتزل الناس إلا قليلا، جعل يلقاهم في الديوان حين يغدو على عمله في الديوان، وجعل يلقاهم آخر النهار إن اضطرته الظروف إلى أن يلقاهم آخر النهار، ولكنه جعل لا يكاد يستقبل الليل حتى يبتسم لظلمته المظلمة ابتساما مشرقا، ويمد إليه يد الصديق، ويفتح له قلب الخليل، ويتحدث إليه كما يتحدث الحبيب إلى الحبيب.
اتخذ الليل سميرا ونديما، واتخذ الشراب سميرا ونديما، واتخذ الكتاب سميرا ونديما أيضا، فجعل كلما أقبل الليل خلا إليه وإلى كتابه وشرابه ففكر وقرأ وكتب، واحتسى بين ذلك الكأس إثر الكأس، حتى إذا تولى الليل إلا أقله، وكادت توالي نجمه تتغور كما يقول ابن أبي ربيعة، أعرض عن الشراب كارها، وانصرف عن الكتاب محرجا يضطره إلى هذا الانصراف، وذلك الإعراض أنه لا يستطيع أن يمسك الليل، ولا أن يرد النهار، وأن للقراءة والتفكير والشراب أثرا في العقل والجسم جميعا، فلا بد من الراحة بعد التعب، ومن النوم بعد السهاد الطويل، فهو إذن يسعى سعي المقيد في الوحل كما يقول مسلم بن الوليد، حتى يبلغ سريره فيلقي نفسه عليه إلقاء، ويستسلم للنوم استسلاما، وما أكثر ما كان يقبل على السرير والنوم، وهو يبغضهما أشد البغض، ويمقتهما أقبح المقت، ولكن لا بد مما ليس منه بد، على أن النوم لا يلبث أن يطبق عليه إطباقا، ويضمه ضما عنيفا ثقيلا قصيرا أيضا.
Неизвестная страница