فدار الحديث بين الأعضاء ساعة حول هذه القدرة العجيبة للنفس الإنسانية على استطلاع ما يختلج في نفوس الآخرين من خلجات وأفكار؛ ولما آن موعد انصرافهم صافحوني مهنئين معجبين، وخرجوا إلا حسنا، فقد بقى ليقضي معي شطرا أطول من الليل؛ فما كدنا نعود إلى مجلسينا حتى نظر إلي حسن في دهشة، وقال: ما ظننتك يا محمود مشغوفا بالبحوث النفسية قبل الليلة، فلطالما زعمت لي عن نفسك أنك منطقي جاف صارم في منطقك، ولطالما أنكرت لي ما يذيع في مجالس الناس من أنباء عن قوى النفس وأسرارها، لأنها كانت لا تتفق في رأيك مع المنطق العقلي المستقيم.
فقلت: ماذا؟ أتراك قد انخدعت يا حسن كهؤلاء المجانين؟
قال: ما أرى في الأمر خداعا، لقد تحوطنا للأمر تحوطا شديدا، ومع ذلك فقد أبديت قدرة عجيبة على استطلاع خلجات العقول!
فقلت: إذن لقد وفقت في خداعكم أكثر مما توقعت لنفسي، إن الأمر كله خداع في خداع، كنت أصعد السلم وأبدأ في النقر الخفيف بعصاي، ثم آمر الخادم أن يواصل هذا النقر حتى أخف مسرعا من السلم الخلفي لأنظر إليكم من ثغرة ضئيلة في النافذة المطلة على الحديقة، حتى أشهد ما تفعلون، فأعود سريعا إلى الغرفة العليا وآخذ عصاي من الخادم فأخبط بها خبطتين غليظتين ثم أهبط إليكم عالما بكل أمركم.
قال: لئن كان هذا الخداع الساذج مما يجوز على هؤلاء المثقفين، أفيكون عجيبا بعد هذا أن تنخدع عامة الناس؟
النساء قوامات
إذا عشت في أمة هازلة حملك الناس محمل الهزل إن كنت جادا، وأخذوك مأخذ الجد إن كنت مازحا، حتى لا تدري إن أردت معهم الجد ولم تسعفك روح الفكاهة، كيف تتوجه إليهم بالخطاب؛ ولست أرى لك حيلة سوى أن تقسم لهم في مستهل الحديث بالذي بسط لهم الأرض ورفع السماء، أنك فيما تحدثهم به إنما قصدت إلى الجد ولم تقصد إلى المزاح.
والذي أتقدم به الآن بين يديك أيها القارئ الكريم أتقدم به في استحياء وخجل لما أحسه فيه من نبو وشذوذ وخروج على مألوف الرأي والعادة، ملتمسا منك الغفران إن كنت على ضلال، وراجيا منك التأييد والتعضيد والفعل والتنفيذ إذا رأيتني قد وفقت إلى صواب؛ الذي أتقدم به الآن بين يديك جادا كل الجد مؤمنا كل الإيمان، رأي في الإصلاح لست أرى للإصلاح سبيلا سواه، بعد تفكير أدرته في رأسي أعواما طوالا؛ وقد هداني إليه حادث عابر - وكم في تاريخ الإنسان من كشف عظيم هدى إليه حادث عابر - والرأي في بساطة واختصار هو أن نلقي بزمام أمرنا في أيدي نسائنا حينا من الدهر، فنجعل النساء قوامات على الرجال قرنا كاملا، لعلهن في نصفه الأول مستطيعات أن يصلحن ما أفسدت أيدي الرجال مدى خمسين قرنا، وأن يضعن في نصفه الثاني أساسا جديدا لحياة جديدة؛ وللرجال بعد ذلك أن يستردوا قوامتهم على النساء، إن وجدوا أن ذلك عندئذ في حدود المستطاع؛ أريد أن تكون الكلمة العليا في الأسرة للمرأة لا للرجل، بحيث يفاخر المرء أقرانه بأنه قد تعهدته أمه لا أبوه؛ أريد أن أرى في مناصب الدولة جميعا - رفيعها ووضيعها على السواء - نساء لا رجالا، فيكون منهن الوزيرات والمديرات والمأمورات والضباط والشرطيات والقاضيات ونائبات البرلمان، وأن يحرم الرجال حق الانتخاب على النحو الذي حرمته المرأة اليوم؛ أريد أن يكون الرأي للمرأة في كل شيء قرنا كاملا من الزمان.
أوحى إلي بهذه الفكرة حديث قصير مع فتى وفتاة، كلاهما تخرج في الجامعة؛ فوجدت في الفتى خفة ورعونة وتفاهة رأي، بقدر ما وجدت في الفتاة تماسكا واتزانا وسدادا؛ فلم يسعني إذ كنت أجالسهما وأستمع إلى الحوار بينهما سوى أن أسائل نفسي متعجبا: أيكون هذا الفتى قواما على هذه الفتاة لو تزوج منها؟! ألا يكون لهذه الفتاة الرزينة الرصينة المتزنة العاقلة رأي في سياسة بلدها، وأن يطلب الرأي من مثل هذا الفتى؟! أستغفر الله، بل لا يكون لهذه الفتاة رأي في سياسة بلدها ويطلب الرأي من «عبد الله الطبال»، وهو رجل ذو بلاهة كان يبيع في حارتنا الطعمية منذ أكثر من ثلاثين عاما، وكان لنا موضع العبث والهزل والفكاهة ونحن أطفال.
عدت إلى داري بعد هذا الحادث العابر، أسائل نفسي في الطريق متعجبا مرة أخرى: أيكون هذا التفاوت الفسيح الذي شهدته بين الفتاة والفتى شذوذا يحدث مرة ويتخلف مائة مرة، أم يكون هو القاعدة السارية الجارية التي تقع مائة مرة وتتخلف مرة؟ وما كدت أبلغ داري وأستقر إلى مكتبي حتى أخذت الأمر مأخذ الجد والعلم الصحيح؛ فمن العبث أن نعيش في عصر يفوح هواؤه بالعلم والعلماء، وتدار أداته في الأنابيب والمعامل، ثم نقف حيال ذلك كله، موقف المتحدى، فنطرح وراء ظهورنا وسائل العلم وأساليب العلماء؛ وأبسط هذه الوسائل والأساليب أن نبني أحكامنا على حقائق محسوسة ملموسة، وألا نقيمها على خيال واهم أو رأي عابر؛ ينبغي لك إن أردت اليقين أن تبسط الحقائق أمام نظرك أولا، لتهتدي بهديها، وتنتزع منها الحكم الصحيح، والحقائق التي لا بد لك أن تبسطها في هذا البحث الذي نحن الآن بصدده ليست حشرات ولا غازات ولا صخورا ولا معادن؛ الحقائق المطلوبة ها هنا أساسا للبحث عدد من النساء وعدد من الرجال، تجمعهم بالذاكرة في رأسك ولا تدعوهم للاحتشاد في ردهة دارك، واجعل العدد أكبر عدد ممكن، ثم قارن بينهما اثنين اثنين، بحيث تقرن الرجل إلى من يساويه من النساء سنا وتعليما وظروفا، ثم انظر أي الجنسين كان أسلم نظرا وأسد رأيا في مواقف بذاتها مرت بك وكونت جزءا من تجاربك.
Неизвестная страница