فإن وجدت - وما أظنك واجدا - بين شعوب الأرض شعبا؛ الوالد فيه يرى أن لا أبوة بغير سياسة الحجاج في بيته، والولد يرى أن لا بنوة بغير خشوع وخضوع؛ الزوج فيه يرى أن لا رجولة بغير احتكار للرأي، والزوجة ترى أن لا قرار لحياتها بغير إذعان؛ المعلم فيه يرى أن لا تعليم بغير أن ينصت التلاميذ في صمت لعباراته كأنما هو راع في معبد ينطق لعباد الله بما خط لهم القضاء في اللوح المحفوظ، ويرى التلاميذ أن لا تعلم بغير أن يحفظوا مؤمنين مصدقين لما قاله المعلم من قول مأثور؛ الصانع فيه لا يلقن صناعته لصبيه إلا إذا سامه صنوف العذاب ألوانا، وصبيه يرى أن لا سبيل إلى تلقي الحرفة دون أن يستسلم لهذا القضاء المحتوم؛ الرئيس فيه يرى من حقه على مرءوسه أن يطغى ويتجبر، والمرءوس يرى من واجبه نحو رئيسه أن يستضأل ويستصغر؛ المالك فيه يرى من حقه على أجيره أن يستغله ويستذله؛ والأجير يرى من واجبه نحو المالك أن يستغل وأن يستذل؛ المخدوم فيه لا يهديه ضميره أن يكون لخادمه ما لأبنائه من حقوق البشر، والخادم لا يحس أنه كهؤلاء الأبناء، بشر له ما لهم من حقوق؛ الشرطي فيه يرى من حقه أن يسب ويصفع، وصاحب الحاجة عند الشرطي يرى من واجبه أن يغضي عن شيء من السباب والصفعات.
إن وجدت - وما أظنك واجدا - بين شعوب الأرض شعبا فيه هذا كله، وأكثر من هذا كله، ثم وجدت في محفوظاته أن الناس سواسية، وفي دستوره أن له انتخابا ونوابا؛ فاعلم أنه شعب عز عليه أن يرى ضعفه ماثلا أمام عينيه، فصبغ بالحناء رأسه وشاربيه.
تجويع النمر
أنا مدين بساعة من أجمل ساعات التفكير للكاتب الفاضل الذي أدخل تعديلا على نظرية التطور كما رآها دارون، فجعل الأناسي تنتمي إلى أصول عدة، لا إلى أصل واحد؛ فالناس في رأي الكاتب الفاضل منهم الكلب الذليل، ومنهم الخنزير القذر، والفأر الجبان، والثعلب الماكر، والحمار العبيط، كما أن منهم الليث الهصور؛ وإنه لمن الشطط والإسراف حقا أن نحاول التوحيد فيما أراد له الله اختلافا وتباينا.
تلك لمسة عبقري لا شك في نبوغه، والرأي فيما يظهر حق لا ريب فيه؛ فليس الأمر هنا خيالا شطح بالكاتب فطار به عن الواقع، أو شطح به الكاتب وهو من برجه العاجي في عزلة عن الناس، بل هو مستمد من ذلك الواقع نفسه ومن هؤلاء الناس؛ ودنيا الواقع لم تختف، ولن تختفي إلى آخر الدهر؛ فإن شئت تحقيقا لما نزعمه لك فسر في الطريق مفتوح العينين، لا نطلب منك أكثر من هذا ولا أقل؛ على أننا نشترط شرطا واحدا، وهو ألا تنخدع بالإهاب البشري الذي يلبسه الناس في الطريق، بل احلل عراه بخيالك - ولا شك أن لك نصيبا من الخيال قل أو كثر - وسترى في جوفه الكلب أو الخنزير أو الفأر أو الحمار أو ما شاءت لك الظروف أن تجد؛ ونقول احلل عرى هذا الإهاب البشري بخيالك، لا لأننا نظن أن هذه الصنوف الحيوانية الكامنة في أجواف الآدميين ضرب من ضروب الخيال؛ ولكننا نريد لك السلامة والعافية، فقد تبقر إنسانا لتخرج منه حيوانه المستور، فإذا الدولة تقتضيك حياتك ثمنا لما صنعت يداك.
والساعة الجميلة التي أنا مدين بها لكاتبنا الفاضل، هي ساعة استبطنت فيها دخيلة نفسي أولا، ثم استعرضت بعدئذ «ش» و«ب» ممن أعرف من الناس، وحاولت أن أتعقب كلا إلى عروقه الأولى؛ وما إن بدأت بالنظر إلى طوية نفسي حتى اعتراني مزيج عجيب من غبطة وذهول، فقد سرني أن أصيب في التطبيق نجاحا سريعا، فقد كان حسبي نظرة واحدة سريعة لأشهد الحيوان الكامن في جوفي جليا واضحا برأسه الضخم وأذنيه الكبيرتين ونظرته البلهاء؛ ولكن كم حز في نفسي ألا أجد في إهابي إلا هذا الحمار العبيط! لم أجد هناك الليث الهصور الذي تمنيت، بل لم أجد هناك الثعلب الماكر، فلأن أكون ماكرا ذا دهاء والتواء خير ألف مرة من أن أكون حمارا تتعاقب عليه الأعوام عقدا بعد عقد، فلا يعرف كيف يظفر منها بما يظفر به سواه في أيام معدودة؛ على أني ما كدت أبدأ في كشف الغطاء عن دخيلة «ش» و«ب» حتى تعثرت وبدت لي صعاب لم أكن أتوهم وجودها؛ فمذهب الكاتب الفاضل بسيط في ظاهره شديد التعقيد في حقيقته؛ وقد لا يكون في الأمر تعقيد، وإنما هو قصور مني وعجز في قدرتي؛ ولا بأس هنا من الاعتراف للقارئ بما يصعب جدا على إنسان أن يعترف به، وهو أني في موقف لا أحسد عليه من ضعف الإدراك؛ أنا لا أتواضع، فقد علمتني التجربة المرة في أعوام جاوزت بها الأربعين؛ أن التواضع في مصر المحروسة بعناية الله سرعان ما يصبح ضعة، والتهاون فيها لا يلبث أن ينقلب هوانا؛ وإن شئت الدليل على صدق ما أقول، فدونك مقياس الحياة العملية الناجحة، قسني بهذا المقياس، ترني أنحدر إلى شيخوختي بما يبدأ به الناس عادة شوط الشباب، تر البداية عند الناس منتهاي؛ وإذا علمت أن منزلتك عند الناس معيارها نجاحك في الحياة العملية عرفت فداحة المصاب؛ ثم ألم أنبئك منذ قليل أني صوبت نظري إلى جوفي فما راعني إلا حمار عبيط ينكشف عنه الستار؟
إذن فقد لا يكون في الأمر تعقيد، وقد تكون العلة قصوري وعجزي؛ وسواء كانت هذه أو تلك، فنحن الآن في موقف المؤرخ يقص على الناس ما وقع، والذي وقع هو أني أزلت الغطاء البشري عن «ش» و«ب» فوجدت في كل منهما أكثر من حيوان واحد، وكان النمر عنصرا مشتركا فيهما معا؛ ففي «ش» رأيت كلبا ونمرا وفي «ب» رأيت فأرا ونمرا؛ هنا أسقط في يدي، ولم أدر بماذا أفسر ما أرى، فلا هو يجري مع دارون في جمع الناس تحت أصل واحد، ولا هو يجري مع مذهب الكاتب الفاضل في تعدد الأصول؛ بل الأمر فيما أرى يقع وسطا بين المذهبين، فأيهما أختار لنفسي رأيا ومذهبا؟
ولم تدم حيرتي إلا لحظة قصيرة، ثم استجمعت شجاعتي وقواي، وانتهيت إلى قرار، فلماذا أضعف أمام دارون؟ ولماذا أضعف أمام الكاتب الفاضل صاحب التعديل؟ أليست الحقائق أمامي جهيرة الصوت لا تدع مجالا لريب مرتاب؟ أليس هذا «ش» أمام ناظري فيه الكلب والنمر في آن معا، ثم أليس «ب» فيه الفأر والنمر جنبا إلى جنب؟ إن سلامة المنطق تقضي بأنه إذا تعارضت النظرية والحقائق فلا بد من نسخ النظرية استمساكا بالحقائق، ولا بد من إعادة التفكير لعلنا نهتدي إلى نظرية أخرى تتكافأ مع الحقائق التي تراها العيون وتحسها الأيدي؛ فلماذا لا أدلي بدلوي في الدلاء لعلها تخرج للناس بقليل من الماء؟ وإذن فهاك ما انتهيت إليه.
ليس الناس جميعا فروعا عن أصل واحد، كلا ولا هم بغير هذا الأصل الواحد؛ فإذا استثنينا الحمار العبيط دون سواه، وجدنا كافة الناس تتفق في شيء هو النمر، ثم تختلف في أشياء هي شتى صنوف الحيوان؛ فكل فرد من الناس - ما خلا الحمار - في جوفه نوع من الحيوان وإلى جانبه نمر، وهو يبدي من هذين التوءمين ما يقابل به الموقف على أتم وجه وأوفاه؛ فقد رأيت «ش» في موقف بذاته كلبا ذليلا وضيعا خافت الصوت خافض البصر، حتى إذا ما سنحت له الفرصة المواتية «تنمر»؛ وقد رأيت «ب» ذات ساعة فأرا ضئيلا هزيلا رعديدا جبانا، حتى إذا ما سنحت له الفرصة أيضا «تنمر»؛ وهكذا قل في شتى أفراد الإنسان، إلا من كان يؤوي في بطنه حمارا عبيطا، فهذا قد تواتيه ظروف «التنمر» ولا يفعل، لسبب بسيط جدا، هو أنه ليس في جوفه نمر إلى جانب الحمار، والشيء لا يخلق من العدم.
أحب أن أؤكد للقارئ الكريم أنني فيما أروي له عن «ش» و«ب» إنما أصدر عن واقع شهدته بعيني، ولست هنا بالمأجور الذي تضطره إلى الكذب دواعي الارتزاق؛ ولو كان «ش» و«ب» هذان من صغار الناس، لجاز لك أن تقول: لكن هذين الرجلين اللذين سقتهما مثلا، صغيران حقيران، تجوز عليهما الذلة والمسكنة، ولو وقعت على رجلين من كبار القوم لوجدتهما في أغلب الظن نمرين خالصين لوجه الله، لا يشوب بأس النمر فيهما ضعة الكلاب ولا جبن الفئران؛ ولكن اعتراضك مردود عليك قبل أن تبديه، لأن «ش» كان صاحب عزة و«ب» كان صاحب سعادة؛ والعزة في بلادنا - كما تعلم - أقل شأنا من السعادة، فكل أربع عزات أو خمس فيما أظن تساوي سعادة واحدة - ولا بأس هنا من تذكيرك أيها القارئ «مفترضا أنك مثلي لست من أصحاب العزة ولا من أصحاب السعادة، لأن الطيور على أشكالها تقع» لا بأس من تذكيرك هنا بالحقيقة المرة التي لا بد أن تكون قد عرفتها وأحسستها منذ زمن طويل، وهي أن الأعزاء في مصر قليلون، وأقل منهم السعداء، وأنه لا يجوز لك أن تكون عزيزا أو سعيدا إلا إذا صدر لك بذلك قانون، وإلى أن يصدر لك مثل هذا القانون ينبغي أن تظل شقيا ذليلا - ونعود إلى صاحب العزة «ش» وصاحب السعادة «ب» وقد التقيا ذات يوم؛ وقد كنت وثيق الصلة بصاحب العزة، فلم أعهد فيه إلا نمرا يكشر للناس عن أنيابه ويلفظ الشرر من عينيه، لا يخرج الألفاظ من شفتيه هينة لينة، كما أخرجها أنا أو كما تخرجها أنت، بل كانت له طريقة عجيبة في إخراجها، إذ كان يضغط على بعض النبرات ويصعد بصوته تدريجا بحيث يتحتم أن يجيء آخر الكلام أعلى صوتا من أوله، وكنت أسمع أن حظوته مكسوبة عند رؤسائه لهذا، كما كنت أعلم أن جانبه مرهوب عند مرءوسيه لهذا أيضا - وكم أثار هذا الرجل في نفسي أعمق الحسرات؛ لأن في صوتي تسلخا يستحيل معه الصعود في مناصب الدولة - رأيت هذا النمر الضاري ذات يوم بين يدي صاحب السعادة فرأيت عجبا، رأيته باسطا كفيه على صدره كأنه أمام ربه ساعة الصلاة، ثم رأيته ... وفيم الوصف وكل مصري يعلم ما أردت أن أقول؟ وهنا لا أستثني صاحب عزة أو سعادة؛ فأنا أتحدى علنا صاحب عزة ألا يكون له نمر بين أصحاب السعادة، أو صاحب سعادة ألا يكون له نمر بين أصحاب الدولة، أو صاحب دولة ألا يكون له نمر بين أصحاب الرفعة.
Неизвестная страница