ووسيلة أخرى لتسعير البغال عندنا: أن ينظر إلى نوع المذاود ومكانها، بغض النظر عما تحويه تلك المذاود من غذاء، أحنطة هو أم شعير؛ فبغل غلا سعرا وعلا قدرا لأنه أكل من مذود في بلد بعيد، فالمذود في هذه الحالة يكتسب قيمة من قيمة المكان الذي وضع فيه، ثم يكتسب البغل قيمة من قيمة مذوده الذي ربط إليه حينا؛ وإني لأذكر في ذلك أيضا أن بغلين اختلفا ذات يوم في قدريهما أيهما أقوم؟ أما أحدهما فاغتذى من مذود في بلاده؛ وأما الثاني فأرسلوه إلى بلد بعيد ليعلفوه، ولو عاد مليء الجوف لما كان بينهما خلاف؛ لكنه فيما روي عنه وما ثبت بالفحص الدقيق، لم يأكل هنالك شيئا إما لخلاء مذوده وإما لمرض في جوفه، وارتد إلينا خالي الأمعاء خاوي الأحشاء؛ ومهما يكن من أمر فقد اختلف البغلان واستفسرا خبيرا، لكن الأمر هذه المرة لم يحتج إلى عد وتقدير، فواضح لكل ذي بصر أنه بالمذود لا بالغذاء يكون التسويم والتسعير؛ فإن أردت أن تسوم بغلا فلا تسل ماذا أكل بل قل أين أكل؛ فإذا علمت أنه أكل من مذود في واق الواق بينك وبينه المحطات والبحار والفيافي والقفار، فذاك بغل متين مكين، أما إن علمت أنه أكل في حقل أبيه، لم يشرق ولم يغرب عن أرضه وذويه، فأهون به بغلا عند بائعه وشاريه، ثمنه بخس دراهم معدودة.
وطريقة ثالثة في تقويم البغال: قدرتها على الرفس، فأقواها رفسا أرقاها مقاما لأنه أصلحها في تنازع البقاء، وأحسبك لو سئلت في هذا لأجبت بهرائك الذي فهت به منذ حين، زاعما أن البغال لم تستخدم لترفس إنما استخدمت لتحمل الأثقال، فأعرضها ظهرا وأقواها عضلا هو أجدرها بالصعود في أسواق الشراء؛ لكن ذلك تفكير ملتو لا نسيغه في بلادنا، فقد خلق الله البغال بالظهور والحوافر، وليس سوى التجربة وحدها أن يقول هل يكون البغل بغلا بظهره أو بحوافره؛ فإن كانت الحوافر أنجح وسيلة وأقصر طريقا، كانت ميزانا عادلا للمفاضلة بين البغال.
على أننا نستخدم كذلك وسيلتكم في جس العضلات واختبار المفاصل؛ لكننا نقصرها على الطبقة الدنيا من البغال، فالدنيء منا لا السني هو الذي يمتحن امتحانا قاسيا قبل أن يدفع من ثمنه قرش واحد؛ فالفرق بيننا وبينكم هو أننا نفرق بين البغال في طريقة التسعير وأنتم لا تفرقون.
قال الرجل: إن كان هذا تسويمكم للبغال، فكيف تقويمكم للرجال؟
فقال البغل: ليس في بلادنا كبير فرق بين الرجال والبغال.
بيضة الفيل
قال الشيخ: الفيلة تلد ولا تبيض؛ والمشكلة المراد حلها هي هذه: لو كانت الفيلة لتبيض، فماذا يكون لون بيضها؟ في الجواب عن هذا السؤال اختلف العلماء؛ يقول عمارة بن الحارث بن عمارة: تكون بيضاء. واستدل على صحة قوله بدليل من القياس ودليل من اللغة؛ أما دليل القياس فهو أن كافة مخلوقات الله التي تبيض بيضها أبيض، وليس في طبيعة الفيل ما يدل على أنه لو باض أخذت بيضته لونا آخر غير البياض؛ فإذا اختلف الفيل عن غيره من الحيوان فذلك في حجمه وقوته ونابه، وهذه صفات كلها لا تستلزم في البيضة لونا غير البياض، فقد يكون الحيوان صغيرا كالذبابة أو كبيرا كالنعامة، قويا كالعقاب أو ضعيفا كالحمامة، بناب كالتمساح أو بغيره كالدجاجة، والبيضة هي هي في لونها بيضاء لا تتغير؛ ومما يزيد هذه الحجة وزنا ورجحانا هو أن الخلائق تجري على اطراد وتشابه، فالكواكب متشابهة والبحار متشابهة والطير متشابه والحيوان متشابه؛ فلو قيل مثلا: إن حيوانا جديدا سيولد بعد ألف عام، جاز لنا أن نحكم في ترجيح يقرب من اليقين بأنه سيكون ذا أذنين وأنف واحد وعينين؛ وعلى هذا القياس نفسه نحكم بالبياض على بيضة الفيل لو باض. وأما دليل اللغة فهو أن البيضة مشتقة من البياض، وإذن فالبياض أصل والبيضة فرع منه، ولا يعقل أن يتفرع عن البياض حمرة أو زرقة؛ لأن الفرع شبيه دائما بأصله، ولذلك قيل: هذا الشبل من ذاك الأسد.
ثم استطرد عمارة فتساءل عن حجم بيضة الفيل، وأجاب بأنها تكون قدر بيضة النعامة عشرين مرة، لا لأن الفيل يكبر النعامة حجما بهذا القدر كله؛ بل لأنه في قوته يوازي عشرين نعامة، والأساس في حجم البيضة هو قوة الحيوان البائض لا حجمه، فتصغر بيضة الحيوان أو تكبر بمقدار ما هو قوي أو ضعيف، لا بمقدار ما هو صغير أو كبير، على خلاف الرأي الشائع بين الناس، وقد أيد عمارة قوله هذا بأمثلة ساقها تدل على أن الحيوان ربما كان كبيرا وباض بيضا صغيرا، أو كان صغيرا وباض بيضا كبيرا.
ثم تساءل عمارة أيضا: هل كانت طبيعة الفيل لتتغير لو باض، فيكون ذا جناحين ليتخذ طبيعة الطير؟ وأجاب بأنه ليس في نواميس الكون ما يستلزم هذا الانقلاب في طبيعته، فالسمك يخرج من البيض وليس له أجنحة؛ بل له زعانف تساعده على السبح ولا تساعده على الطيران؛ وبيض الفراش وبيض الذباب وما إلى ذلك يخرج منه الدود ولا تخرج منه ذوات الجناح؛ وإذن فقد يخرج من بيضة الفيل فيل ذو أربع قوائم وليس له جناح.
وأخيرا تساءل عمارة: ما حكم الشرع في بيضة الفيل، أيحل أكلها للمسلمين أم يحرم عليهم؟ وهنا كذلك أجاب بدقته المعهودة أن بيضة الفيل حلال أكلها بشرط، حرام بشرط؛ فهي حلال إذا كانت لا تكسب الإنسان الآكل صفة الافتراس، وهي حرام إذا خيف أن تكسبه هذه الصفة، وإنما يكون الآكل بمنجى من عدوى الافتراس لو كان الفيل البائض هو الجيل العاشر من سلسلة أجيال استأنسها الإنسان. بمثل هذه الدقة العقلية والبراعة الذهنية أثار عمارة بن الحارث هذه المسائل عن بيضة الفيل وأجاب عنها، ولا عجب فهو الفقيه العالم الذي سارت بفتاواه الركبان فيما تعذر حله على غيره من العلماء.
Неизвестная страница