وأقل ما يدل عليه هذا وأشباهه أن شعر جميل كان يقرأ ويستحسن ويقتدى به في معناه، وأنه ينال هذا الاستحسان عند فحول الشعراء فضلا عن الشداة المبتدئين، وهذه مكانة «الأستاذية» لا مراء.
وقد يزكي هذه المكانة أن الذين شهدوا بها كان بينهم أناس عرفوا بالخيلاء وشدة الاعتداد بالقدرة الشعرية بين النظراء، ومنهم من كان يستحمق لفرط خيلائه كالشاعر العاشق كثير، وهو أحرى الناس بمنافسه جميل.
فمن خيلائه أن عمر بن أبي ربيعة والأحوص ونصيبا اجتمعوا في مكان، فأرسلوا إليه راويته يدعونه إليهم، فأكبر الأمر وسأل صاحبه متبرما: أما كان عندك من المعرفة بي ما كان يردعك عن إتياني بمثل هذا؟ ... قل لابن أبي ربيعة: إن كنت قرشيا فإني قرشي، وإن كنت شاعرا فأنا أشعر منك ... قال راويته: هذا إذا كان الحكم إليك. فقال: وإلى من هو؟ ومن أولى به مني؟ ... ثم رجع الرسول إليهم فأخبرهم بما سمع منه، فضحكوا ثم نهضوا معه، فدخلوا عليه في خيمة، فوجدوه جالسا على جلد كبش، فما أوسع لهم من مجلسه.
فهذا الشاعر على خيلائه كان لا يني قائما قاعدا بالشهادة لجميل وتفضيله عن نفسه، حيث يسأل وحيث لا يسأل، وهو مزهو بالسماع منه والرواية عنه والتتلمذ عليه.
سأله نصيب: أجميل أنسب أم أنت؟ فقال: وهل وطأ لنا النسيب إلا جميل!
وسئل مرة أخرى فقال: وهل علم الله - عز وجل - ما تسمعون إلا منه؟
وربما نقلوا عن كثير في صدد إعجابه بجميل ما نستبعد صدقه سواء قاله أو لم يقله، كزعمهم أنه ذكر يوما أنه يروي لجميل ثلاثين قصيدة لا يعرفها الناس، وأنه أمات له ألف قافية لينتحلها ويدعيها لنفسه؛ فإن ميدان جميل لا يتسع لألف قافية تسرق، ولا لثلاثين قصيدة تسقط من جملة شعره، وهو محدود الأغراض متشابه الأنماط، وإنما يفهم من هذا الكلام - إن صدر من كثير - أن فخره بالرواية عن جميل أكبر من فخره بشعره الذي ينسب إليه، ولولا مكانة جميل عنده وعند الناس لما وقع في خاطره وجرى على لسانه هذا الفخار.
ولا نحسب أن أحدا ناظر جميلا على قصد منه - أو على غير قصد - كما ناظره عمر بن أبي ربيعة الذي كان كثير يستطيل عليه.
فقد كانت المناظرة بينهما طرائق متعددات لا طريقة واحدة، فكان كلاهما شاعرا، وكلاهما مشهورا بالنسيب، وكلاهما إماما لأمثاله من المتغزلين، فكان جميل في عصره إمام العشاق المقصورين على معشوقة واحدة، وكان عمر بن أبي ربيعة في عصره إمام المشغوفين بمغازلة النساء، وكانا فوق هذا التقابل في شتى الطرائق متقابلين في تمثيل البداوة والحضارة، وفي عزة النسب وعراقة الأصول، فهما متناظران يقترنان في الميزان كلما عرض الناقد لشعراء ذلك الزمان، وقد تلاقيا وتناشدا وقيل: إن جميلا سمع منه اللامية التي فيها:
جرى ناصح بالود بيني وبينها
Неизвестная страница