يحصل كل يوم أن ينوي الإنسان البراءة ويقع في الريبة على غير وده، ويحصل كل يوم أن يعبر عن هذا وعن ذاك في حينه، ولا يكون ذلك نافيا لما حصل، بل مؤيدا لما تعودنا حصوله كل يوم، ولا سيما إذا علمنا أن صاحب القصة إنسان لا يملك مشيئته، ولا يزال محاولا يضطرب في محاولاته، فيود حينا ما يأباه في آخر، ويستنكر في يومه ما كان ارتضاه في أمسه، ولعله يعود فينكره في غده.
وإنما نحن نفرط في التصديق إذا فهمنا أن قبيلة من القبائل تصف هواها بالبراءة التي لا يطرقها الزغل فيكون هذا الوصف عاصما لكل فرد من أفراد القبيلة، مبطلا لكل خبر يخالف تلك الصفة.
ونفرط كذلك في التصديق إذا فهمنا أن الرجل ينوي الأمانة فيكون معنى ذلك أنه لم يخالف الأمانة مختارا أو مضطرا إلى المخالفة، ونحن متناقضون في هذا الفهم؛ لأننا نلمس كل يوم ما يناقضه ولا يستقيم في طريقه.
فجميل وبثينة إنسانان كسائر الناس، لا نحكم على عمل من أعمالهما بالمناقضة وننفيه إلا إذا ناقض الطبيعة البشرية وكذب ما تواتر من أخبار الناس.
وكل ما يبدو لنا من أخبارهما أنهما كانا عاشقين يلج أحدهما في عشقه ويقبل الآخر منه هذه اللجاجة.
فكان جميل يتابع بثينة وكانت بثينة تقبل منه هذه المتابعة؛ لأنها تألفه وتؤثره على زوجها وتستعز بهيامه ونسيبه بين أترابها.
ويجوز أنها عرفت غيره كما يجوز أنه عرف غيرها، بل يجوز أنها كانت تعتمد عليه في بعض حاجاتها، كما تعتمد المرأة على الرجل الذي يهواها، فكان الهوى بينهما على طباق الأرض، ولم يكن بالهوى السابح في أجواز الفضاء، وكانا إنسانين في كل حالة من حالاتهما، كما يكون كل إنسانين بدويين في ذلك الزمن وفي تلك البيئة، وعند ذلك لا نرى في أخبارهما ما يناقض الواقع أو يستبعده العقل أو يخالف ما يجري في علاقات الغرام.
أما الهوى العذري فقصاراه أنه كان أمنية لهما وأمنية لكل قبيلة تعتز بالمنعة والصيانة في بناتها، إن جرى الواقع بما يخالفه فهو الواقع الذي يخالف أبدا كل عرف نصبو إلى تحقيقه، فما زال من دأب المثل الأعلى - أو من دأب الأماني الاجتماعية - أنها تراد وتخالف ولا يزال الناس يريدونها ويخالفونها، فلا ينفيها ذلك بل يدل على وجودها.
وقد اتفقت أسباب شتى على توكيد هذا العرف في قبيلة بني عذرة وجيرانها؛ فهي قبيلة بادية توكل إليها أحيانا حراسة الطرق بين الحجاز وما جاوره من شماله، ففيها طبيعة البداوة أن تعتز بالمنعة والصيانة ولا تعترف بالشبهة في بناتها ومحارمها، وفيها رغبة الحفاظ على هذه السمعة التي تحتاج إليها وتأبى أن تمس فيها، وإلا ديس حماها وبطلت حراستها وتخطاها من يعتمد عليها.
وهي مع هذا قبيلة تجاور الحجاز وتعرف الإسلام وتنكر ما ينكر من إثم وتفرض ما يفرض من حدود، فليس بمباح عندها أن تتصل المرأة بغير زوجها، وليست إباحة ذلك فعلا بمانعتها أن تنكرها وتبرأ منها في حياتها الاجتماعية.
Неизвестная страница