ـ[جامع البيان في القراءات السبع]ـ
المؤلف: عثمان بن سعيد بن عثمان بن عمر أبو عمرو الداني (المتوفى: ٤٤٤هـ)
الناشر: جامعة الشارقة - الإمارات
(أصل الكتاب رسائل ماجستير من جامعة أم القرى وتم التنسيق بين الرسائل وطباعتها بجامعة الشارقة)
الطبعة: الأولى، ١٤٢٨ هـ - ٢٠٠٧ م
عدد الأجزاء: ٤ (في ترقيم مسلسل واحد)
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
Неизвестная страница
الجزء الأول
[مقدمات التحقيق]
تقديم [من إسماعيل محمد البشري]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد،
فإن مثل هذا الإنتاج المتميز ثمره من ثمار نشاط البحوث المشتركة والتكاملية والتي تمثلت في المجموعات البحثية المتخصصة أو المتعددة التخصصات فمنذ انطلاق فكرة المجموعات البحثية في جامعة الشارقة والبحث العلمي في الجامعة ينحى منحى المشاريع التكاملية لتعميق الفائدة من قدرات البحث العلمي في خدمة المجتمع، وإن مجموعة بحوث الكتاب والسنة من المجموعات البحثية المميزة التي لها نشاط بحثي ملحوظ تمثل في إصدار عدد من الكتب المؤلفة والمحققة والموسوعات التي تصدر لأول مرة، وقد أتحفتنا مجموعة بحوث الكتاب والسنة في ملتقى البحث العلمي الثاني والذي عقد في رحاب جامعة الشارقة في الفترة ٢ - ٣/ ٥/ ٢٠٠٦ م بأن دققت وأصدرت أضخم موسوعة في علوم القرآن الكريم وهو كتاب" الزيادة والإحسان في علوم القرآن" والذي طبع لأول مرة في عشرة مجلدات.
وها هي تقدم إصدارا متميزا آخر وهو كتاب نفيس في علم القراءات لعالم من علماء القراءات المشهورين في القرن الخامس الهجري وهذا الإصدار هو جامع البيان في علم القراءات لأبي عمرو الداني المتوفى سنة (٤٤٤ هـ) رحمه الله تعالى.
وإن مثل هذه الجهود المباركة لتبين بشكل عملي الفائدة المرجوة من فكرة إنشاء المجموعات البحثية والتي يمكنها أن تنجز بشكل تكاملي ما يعجز أن يقوم به باحث بمفرده.
ومثل هذه الدرة النفيسة من كتب القراءات التي لا يزال كثير منها حبيس الأدراج، لتظهر لنا جليا كم قام علماؤنا المتقدمون بخدمة هذا الدين والتعريف به، فحري بالباحثين أن يستخرجوا هذه الكنوز وأن يعرفوا بهذه الجهود الكبيرة.
وإنني إذ أشكر مجموعة بحوث الكتاب والسنة على جهودها المباركة أرجو أن يكون مثل هذا الإنتاج العلمي حلقة أخرى في سلسلة الجهود العلمية التي تخدم العلم وطلابه وتشجع البحث العلمي الرصين المبني على أسس وأهداف محددة.
وختاما لا يفوتني أن أشير إلى أن هذه الإصدارات والجهود المبذولة ترجمة عملية لرؤية صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى للاتحاد حاكم الشارقة الرئيس الأعلى للجامعة في أن تكون جامعة الشارقة مرآة صادقة لحضارة الأمة تجمع بين عبق الأصالة وروح المعاصرة، والله ولي التوفيق.
أ. د. إسماعيل محمد البشري
مدير جامعة الشارقة
1 / 1
جامع البيان ومجموعة بحوث الكتاب والسنة [من مصطفى مسلم]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فقد أنزل الله ﷻ القرآن بلسان عربي مبين، وجعله شفاء ورحمة للمؤمنين، ونورا وضياء وهدى للعالمين، وتكفّل بحفظه من التحريف والتبديل والزيادة والنقص على يد المضلين، ويسر حفظه وتلاوته على الصغير والكبير والمرأة والرجل والعرب والعجم وأهل الحضر والبادية فقال عزّ من قائل:
ولقد يسّرنا القرآن للذّكر فهل من مدّكر [القمر: ١٧].
ولقد هيأ لخدمة كتابه من كل جيل رجالا لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وتلاوة كتابه، وجعلهم أهله وخاصته، فتناقلوا قراءاته من الصدور إلى الصدور وحرصوا على تلقيه بنصه ولفظه كما تلقاه أمين الأرض عن أمين السماء وأدّوه إلى طلابهم كما أدّاه رسول الله ﷺ إلى أصحابه ﵃. واتصل سند المتأخرين بأسانيد المتقدمين وسيبقى هذا السند ممتدا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها بإذن الله تعالى.
ولما كان في مسيرة هذا الركب المبارك حداة وهداة وأعلام وقمم تتفجر منهم ينابيع العلم والحكمة يرد إليهم الظامئون للنهل من معينهم السلسبيل، ويصدرون إلى الآفاق لنشر القرآن وعلومه، والدعوة إلى هداياته والعيش في ظلاله لينالوا شرف شهادة رسول الله ﷺ: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه»، وكان من هؤلاء الأعلام عثمان بن سعيد بن عثمان بن سعيد بن عمر أبو عمرو الداني المتوفى سنة ٤٤٤ هـ الذي شهد له القاضي والداني بتفوقه في مجال قراءات القرآن، قال عنه ابن الجزري: «الإمام العلامة الحافظ أستاذ الأساتيذ وشيخ مشايخ المقرئين ..» وقال عنه ابن بشكوال: «كان أحد الأئمة في علم القرآن ورواياته وتفسيره ومعانيه وطرقه وإعرابه وجمع في ذلك تواليف حسانا يطول تعدادها ...»، وقال عنه الحافظ عبد الله بن محمد بن خليل: «لم يكن في عصره ولا بعد عصره بمدد أحد يضاهيه في حفظه وتحقيقه»، وكان يقول أي الداني عن نفسه: «ما رأيت شيئا إلا كتبته ولا كتبته إلا حفظته ولا حفظته فنسيته».
ومن نظر في كتبه علم مقدار الرجل وما وهبه الله تعالى فيه فسبحان الفتاح العليم ولا سيما كتاب (جامع البيان) فيما رواه في القراءات السبع، وله كتاب التيسير المشهور «١» ثم سرد جملة من كتبه في القراءات وغيرها.
ولقد طبع الكتاب غير مخدوم خدمة تليق بمكانة الكتاب العلمية، ثم حقق تحقيقا علميا في رسائل علمية بجامعة أم القرى- مكة المكرمة- من قبل د. عبد المهيمن عبد السلام الطحان وطلحة محمد توفيق، وسامي عمر إبراهيم، وخالد علي الغامدي.
فلما وقفت مجموعة بحوث الكتاب والسنة على هذا التحقيق العلمي الدقيق اتصلت بالمحققين وأخذت منهم الموافقة على طباعته ونشره. ولما كانت الرسائل العلمية لها منهج خاص في ترجمة المؤلف وبيان منهجه في الكتاب وإجراء الموازنات بين الكتاب المحقق وكتب أخرى في مجال التخصص فقد أسندت المجموعة إلى الدكتور عمار الددو وهو مختص بالقراءات وطلبت منه التنسيق بين قسم الدراسة للدارسين الأربعة، كما أسندت إلى أساتذة التفسير وعلوم القرآن في قسم أصول الدين بكلية الشريعة جامعة الشارقة لتدقيق الرسائل ومراجعة تجارب الطباعة وهم:
١ - أ. د. أحمد عباس البدوي
٢ - د. محمد عصام القضاة
٣ - د. عبد الله الخطيب
٤ - د. عفاف عبد الغفور حميد
وقد تم تحكيم الكتاب من قبل كلية الدراسات العليا والبحث العلمي ثم دفع به إلى المطبعة وها هو يخرج الآن بهذه الحلة القشيبة، وقد نال العناية والاهتمام ما يليق بجلالة قدر الإمام أبي عمرو الداني ومكانة كتابه جامع البيان في القراءات السبع، وهو الإصدار الثاني لمجموعة بحوث الكتاب والسنة ونسأل الله ﷾ أن يأخذ بأيدينا بإصدارات أخرى وهي تحت المراجعة والتدقيق.
والمجموعة إذ تخرج في إصدارها الثاني تقدم الشكر إلى كل من عميد كلية الشريعة الأستاذ الدكتور عبد الناصر أبو البصل الذي هيأ البيئة الصالحة لأساتذة قسم أصول الدين للبذل والعطاء، وعميد كلية الدراسات العليا والبحث العلمي الأستاذ الدكتور عدنان العتوم لتذليله العقبات الإدارية أمام المجموعة للمضي قدما في مشاريعها العلمية من خلال قسم النشر برئاسة الشاب الدكتور عواد الخلف.
وترفع التقدير والامتنان لسعادة مدير جامعة الشارقة الأستاذ الدكتور إسماعيل محمد البشري الذي جعل دأبه متابعة البحوث والمشاريع التي ترفع من شأن الجامعة في ميادين البحث العلمي.
وعلى رأس الجميع لتوجيهاته الرشيدة وأوامره السديدة سمو الشيخ الدكتور سلطان محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى للاتحاد حاكم الشارقة الرئيس الأعلى للجامعة الذي وفّر الدعم المعنوي والمادي للمجموعات البحثية عامة ومجموعة بحوث الكتاب والسنة خاصة للمضي قدما في مشاريعها العلمية.
وأسأل الله ﷾ أن يجعل هذه الجهود الكريمة في صحائف أعمالهم وأن يثقل بها موازين حسناتهم إنه سميع مجيب.
منسق مجموعة الكتاب والسنة
أ. د. مصطفى مسلم
_________
(١) انظر كتاب غاية النهاية في طبقات القراء لشمس الدين أبي الخير المعروف بابن الجزري ١/ ٥٠٣ وما بعدها ط ٣ دار الكتب العلمية، بيروت ١٩٨٢ م.
1 / 2
المقدمة [من المحقق]
الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله، ﷺ.
أما بعد:
فإن علم القراءات واحد من علوم الإسلام المتعددة، التي شغف بها سلفنا الصالح، وأفنوا أعمارهم فيها: شطرا في الطلب والتحصيل، وشطرا في التدريس والإملاء والكتابة والتصنيف، نشرا للعلم وقياما بحقه، وأداء لأمانة يرجون فيها ثواب الدار الآخرة، فأورثونا، ونعم الإرث، تراثا عظيما غنيا وأصيلا في شتى ميادين المعرفة.
على حين خلف من بعدهم خلف قعدوا عن التأسي بأجدادهم، وفرطوا بتركة آبائهم، فناموا طويلا في سبات عميق، وما انتبهوا إلا بعد ما انتهبوا، فتراكضوا يجمعون ميراثهم، وينشرون كتب آبائهم، بعد أن تشتتت في مشارق الأرض ومغاربها.
غير أن مخطوطات علم القراءات لم تنل حقها من عناية الباحثين المسلمين المعاصرين، حيث إن هذه النفائس، ما عدا النزر اليسير، ما زالت حبيسة الخزائن في شتى مكتبات العالم، بل إن بعض أفاضل العلماء يجادل في فائدة نشر هذه المصنفات، وفي جدوى فائدة علم القراءات في هذا الزمان، على أن المستشرقين فطنوا إلى أهمية هذا العلم فبادروا إلى نشر تراثه وكتابة البحوث في مسائله وموضوعاته، وهدف كثير منهم النيل من كتاب الإسلام، والكيد لأتباعه.
فما أحرانا أن نشمّر عن سواعد الجدّ للعمل في ميدان هذا العلم الجليل، ندرأ الخطر، ونكشف الشبهات، وطوبى لمن جعله الله سببا لحفظ كتابه الكريم من التغيير والتبديل.
1 / 3
وكان حقّ علم القراءات أن نعنى به أشدّ عناية، كما عني به سلفنا الصالح، لأنه من أوثق العلوم صلة بكتاب الله تعالى. وشرف العلم من شرف موضوعه، وأنه به يعرف تاريخ هذا القرآن الكريم، وتواتر نقله جيلا بعد جيل، وبه يعرف الصحيح من الشاذ، وما تصح به الصلاة وما لا تصح من القراءة.
هذا وقد وردت الأحاديث الشريفة تحث على الاشتغال بالقرآن وترغّب في قراءته وإقرائه، وتعلّمه وتعليمه، منها ما أخرجه الإمام أحمد وابن ماجة والحاكم عن أنس
﵁، عن رسول الله ﷺ، قال: «إن لله أهلين من الناس، قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: أهل القرآن هم أهل الله وخاصّته» «١».
ومنها ما أخرجه الطبراني عن ابن مسعود ﵁، عن رسول الله ﷺ، قال: «خيركم من قرأ القرآن وأقرأه» «٢».
ومنها ما أخرجه البخاري، واللفظ له، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن عثمان بن عفان، ﵁، عن النبي ﷺ قال:
«خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه». قال وأقرأ أبو عبد الرحمن في إمرة عثمان حتى كان الحجاج، قال: وذاك الذي أقعدني مقعدي هذا «٣».
ثم إن علم القراءات سند لكثير من استنباطات الفقهاء وحجة العديد من فروع الفقه وقضاياه، حيث إنه باختلاف القراءات يظهر الاختلاف في الأحكام، ولهذا بنى الفقهاء نقض وضوء الملموس وعدمه على اختلاف القراءات في لامستم ولامستم «٤» [النساء: ٤٣] وكذلك جواز وطء الحائض عند الانقطاع وعدمه إلى الغسل على اختلافهم في حتّى يطهرن «٥» [البقرة: ٢٢٢].
_________
(١) انظر: مسند الإمام أحمد ٣/ ١٢٧، ١٢٨، ٢٤٢، وسنن ابن ماجة: المقدمة باب فضل من تعلم القرآن وعلمه. قال محمد فؤاد عبد الباقي في الزوائد: إسناده صحيح. وانظر: مستدرك الحاكم ١/ ١٥٦. وحسّن الحافظ العراقي إسناد الحديث. انظر: فيض القدير للمناوي ٣/ ٦٧.
(٢) بإسناد جيد. انظر: النشر ١/ ٣.
(٣) انظر: صحيح البخاري، فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه، وسنن أبي داود:
الصلاة، باب في ثواب قراءة القرآن، وجامع الترمذي: فضائل القرآن، باب ما جاء في تعليم القرآن، وسنن ابن ماجة، المقدمة، فضل من تعلم القرآن وعلمه.
(٤) ينظر: اختلاف القراء فيها في النشر ٢/ ٢٥٢، واختلاف المفسرين والفقهاء في تفسير الطبري ١/ ١٠١، والمغني لابن قدامة ١/ ١٨٦.
(٥) انظر: اختلاف القراء فيها في النشر ٢/ ٢٢٧، واختلاف المفسرين والفقهاء في تفسير الطبري ٢/ ٣٨٦، والمغني ١/ ٣٥٣.
1 / 4
وعلم القراءات بعد ذلك من العلوم التي يحتاج المفسر إلى إتقانها والأخذ بحظ وافر منها قبل أن يقدم على تفسير كتاب الله تعالى، حيث إنه يتعرّف بالقراءات على (اختلاف الألفاظ بزيادة أو نقص، أو تغير حركة، أو إتيان لفظ بدل لفظ، وذلك بتواتر وآحاد) «١». كما أنه بالقراءات يترجح بعض الوجوه المحتملة على بعض «٢».
وأخيرا فبين علم القراءات واللغة العربية صلة وثقى، ووشيجة كبرى، حيث (تعتبر روايات القراءات القرآنية، مشهورها وشاذها هي أوثق الشواهد على ما كانت عليه ظواهرها الصوتية والصرفية، والنحوية واللغوية بعامة في مختلف الألسنة واللهجات، وإن من الممكن القول: بأن القراءات الشاذة هي أغنى مأثورات التراث، بالمادة اللغوية التي تصلح أساسا للدراسات الحديثة التي يلمح فيها المرء صورة تاريخ هذه اللغة الخالدة) «٣».
وقد قدّمت القراءات للغة العربية خدمة كبرى حيث" إن البحث في مخارج الحروف والاهتمام بضبطها على وجوهها الصحيحة، كان من أبلغ العوامل في عناية الأمة بدقائق اللغة العربية الفصحى وأسرارها، وكانت ثمرة هذا الاهتمام والجهد أن القراء تشرّبوا مزايا اللغة العربية وقواعدها ودقائقها، ومما يؤيد ذلك أن الكثيرين من قدماء النحويين كالفراء كانوا مبرّزين في علم القراءات، كما كان الكثيرون من أئمة القراء كأبي عمرو والكسائي بارعين في علم النحو" «٤».
وختاما فبسبب من شرف هذا العلم وفضله وأهميته وخطورته وعزوف الباحثين عنه في هذا الزمان، بادرنا إلى تحقيق هذا الكتاب النفيس، لما له من قيمة علمية كبيرة، ولما لمؤلفه من مكانة علمية بين جهابذة هذا الفن، وهو أمر سنبينه فيما بعد إن شاء الله.
اللهم اجعل عملنا هذا خالصا لوجهك، واجعلنا من أهلك وخاصتك، إنّك أكرم مسئول، وأفضل مأمول، وصلّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
_________
(١) البحر المحيط لأبي حيان ١/ ٧.
(٢) الإتقان للسيوطي ٢/ ١٨١.
(٣) القراءات القرآنية في ضوء علم اللغة الحديث، لعبد الصبور شاهين ٧، بتصرف يسير.
(٤) مقدمة أوتبرتزل لكتاب التيسير في القراءات السبع ص/ ج، بتصرف يسير.
1 / 5
الباب الأول دراسة المؤلف
الفصل الأول: المؤلف وسيرته ٦
الفصل الثاني: ثقافته ومجال إبداعه وأقوال العلماء فيه ١٤
الفصل الثالث: شيوخه وتلاميذه ومؤلفاته ٢٧
الفصل الأول المؤلف وسيرته العلمية
المبحث الأول مصادر ترجمته مرتبة ترتيبا زمنيا:
١ - جذوة المقتبس للحميدي، ت ٤٨٨ هـ، ص ٣٠٥.
٢ - فهرسة ابن خير الإشبيلي، ت ٥٧٧ هـ، ١/ ٤٣.
٣ - الصلة لابن بشكوال، ت ٥٧٨ هـ، ٢/ ٣٨٥.
٤ - بغية الملتمس لابن عمير الضبي، ت ٥٩٩ هـ، ٤١١.
٥ - معجم الأدباء لياقوت «١»، ت ٦٢٦ هـ، ١٢/ ١٢١ - ١٢٨.
٦ - إنباه الرواة للقفطي، ت ٦٥٦ هـ، ٢/ ٣٤١.
٧ - طبقات علماء الحديث، لابن عبد الهادي، ت ٧٤٤ هـ، ٣/ ٣١٤.
٨ - تذكرة الحفاظ للذهبي، ت ٧٤٨ هـ، ٣/ ١١٢٠.
٩ - معرفة القراء الكبار للذهبي ١/ ٤٠٦، تحقيق بشار عواد.
١٠ - سير أعلام النبلاء للذهبي ١٨/ ٧٧
١١ - تاريخ الإسلام للذهبي ج ١٣ ل ٢٠٥/ ظ.
١٢ - العبر للذهبي ٣/ ٢٠٧.
١٣ - مفتاح السعادة ومصباح السيادة، لابن قيم الجوزية، ت ٧٥١ هـ، ٢/ ٤١.
١٤ - الديباج المذهب لابن فرحون، ت ٧٩٩ هـ، ٢/ ٨٤.
١٥ - كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر لابن خلدون، ت ٨٠٨ هـ، ص ٤٣٧ - ٤٣٨.
_________
(١) وقد أخطأ حيث قسم أخباره على ترجمتين إحداهما للأندلسي، والأخرى لابن الصيرفي يحسبهما اثنين وهما لقبان لشخص واحد.
1 / 6
١٦ - غاية النهاية لابن الجزري، ت ٨٣٣ هـ، ١/ ٥٠٣.
١٧ - النجوم الزاهرة، لابن تغري بردي، ت ٨٧٤ هـ، ٥/ ٥٤.
١٨ - طبقات المفسرين للداودي، ت ٩٤٥ هـ، ١/ ٣٧٣.
١٩ - نفح الطيب للمقري، ت ١٠٤١ هـ، ٢/ ١٣٥.
٢٠ - شذرات الذهب لابن العماد، ت ١٠٨٩ هـ، ٣/ ٢٧٢.
٢١ - الرسالة المستطرفة، لمحمد بن جعفر الكتاني، ت ١٣٤٥ هـ، ص ١٣٩.
٢٢ - شجرة النور الزكية في طبقات المالكية، لمحمد مخلوف، ت ١٣٦٠ هـ، ص ١١.
٢٣ - معجم المؤلفين لكحالة، ت ١٩٨٧ م، ٦/ ٢٥٤.
٢٤ - الأعلام للزركلي، ت ١٩٧٦ م، ٤/ ٢٠٦.
٢٥ - تاريخ الأدب العربي لبروكلمان. الأصل ١/ ٥١٧، والذيل ١/ ٧١٩ بالألمانية.
1 / 7
المبحث الثاني اسمه وسيرته:
هو أبو عمرو عثمان بن سعيد بن عثمان بن عمر، الأموي، مولاهم، القرطبي ثم الداني، المعروف في زمانه بابن الصيرفي. وانفرد بروكلمان فذكر في نسبته (المنيري)، ولم نقف عليها عند غيره في مصادر ترجمته.
أما سيرته فلعل أبلغ وأصدق ما تكون الترجمة، حينما تكون من صاحبها، فهو أعرف الناس بنسبه وبمراحل حياته وأدوارها، فعن أبي داود سليمان بن نجاح «١»، تلميذ الداني قال:" كتبت من خط أستاذي أبي عمرو عثمان بن سعيد بن عثمان، المقرئ، بعد سؤالي عن مولده: يقول عثمان بن سعيد بن عثمان بن سعيد بن عمر الأموي، القرطبي، الصيرفي: أخبرني أبي أني ولدت في سنة اثنتين وسبعين وثلاث مائة، وابتدأت في طلب العلم سنة ست وثمانين، وتوفي أبي في سنة ثلاث وتسعين في جمادى الأولى.
فرحلت إلى المشرق في اليوم الثاني من المحرم، يوم الأحد، في سنة سبع وتسعين، ومكثت بالقيروان أربعة أشهر، ولقيت جماعة، وكتبت عنهم.
ثم توجهت إلى مصر، ودخلتها اليوم الثاني من الفطر، من العام المؤرخ، ومكثت بها باقي العام، والعام الثاني، وهو عام ثمانية، إلى حين خروج الناس إلى مكة، وقرأت بها القرآن، وكتبت الحديث، والفقه، والقراءات وغير ذلك عن جماعة من المصريين، والبغداديين، والشاميين وغيرهم.
ثم توجهت إلى مكة، وحججت، وكتبت بها عن أبي العباس أحمد البخاري، وعن أبي الحسن بن فراس، ثم انصرفت إلى مصر، ومكثت بها شهرا، ثم انصرفت إلى المغرب، ومكثت بالقيروان أشهرا.
ووصلت إلى الأندلس أول الفتنة، بعد قيام البرابرة على ابن عبد الجبار بستة أيام، في ذي القعدة سنة تسع «٢» وتسعين، ومكثت بقرطبة إلى سنة ثلاث وأربع مائة،
_________
(١) انظر ترجمته في تلاميذ الداني.
(٢) في معجم الأدباء لياقوت ١٢/ ١٢٧: إحدى وتسعين، وهو خطأ.
1 / 8
وخرجت منها إلى الثغر «١»، فسكنت سرقسطة «٢» سبعة أعوام، ثم خرجت منها إلى الوطة «٣»، ودخلت دانية «٤» سنة تسع وأربع مائة، ومضيت منها إلى ميورقة «٥» في تلك السنة نفسها، فسكنتها ثمانية أعوام، ثم انصرفت إلى دانية سنة سبع عشرة وأربع مائة «٦».
لا ريب أن الداني لم يستوف في هذه العجالة أسماء كل المناطق والبلاد التي رحل إليها، وإنما اكتفى بذكر أهمها وأبرزها، حيث إن المصادر تحدثنا عن رحلته إلى إستجة «٧» وبجّانة «٨» وغيرهما من بلاد الثغر، حيث سمع من شيوخها كثيرا «٩».
كما أنه دخل أبّدة «١٠»، وقرأ، وسمع فيها «١١»، ودخل المريّة «١٢»، وأقرأ فيها
_________
(١) المناطق الشرقية، وهي المتاخمة لبلاد النصارى.
(٢) بفتح السين والراء وضم القاف بعدها سين ساكنة، بلدة على ساحل البحر، وهي من أقصى ثغور الأندلس في شرقها، والبساتين محدقة بها من كل ناحية. انظر: نفح الطيب ١/ ١٩٧، معجم البلدان ٣/ ٢١٢.
(٣) كذا في معجم الأدباء، ولم أجدها، ولعل فيها تحريفا.
(٤) بكسر النون وفتح الياء، مدينة بالأندلس، من أعمال بلنسية، على شاطئ البحر شرقا، كثيرة البساتين، اشتهرت بكثرة قرائها. انظر: معجم البلدان ٢/ ٤٣٤، الروض المعطار لابن عبد المنعم الحميري: ٢٣١.
(٥) بفتح الميم وضم الياء وإسكان الواو والراء، جزيرة في شرق الأندلس، بالقرب منها جزيرة يقال لها منورقة بالنون، كانت قاعدة ملك مجاهد العامري. معجم البلدان ٥/ ٢٤٦.
(٦) معجم الأدباء ١٢/ ١٢٥ - ١٢٧.
(٧) بكسر الهمزة والتاء وإسكان السين بينهما، اسم لكورة بالأندلس بين القبلة والمغرب من قرطبة على نهر سنجل، بينها وبين قرطبة عشرة فراسخ، وهي كورة قديمة واسعة الرساتيق والأراضي.
انظر معجم البلدان ١/ ١٧٤.
(٨) بفتح الباء وتشديد الجيم، مدينة بالأندلس من أعمال كورة إلبيرة، خربت وانتقل أهلها إلى المرية، وبينها وبين المرية فرسخان. انظر: معجم البلدان ١/ ٣٣٩.
(٩) انظر: الصلة ٢/ ٣٨٥.
(١٠) بالضم ثم الفتح والتشديد، اسم مدينة صغيرة بالأندلس، من كورة جيان تعرف بأبدة العرب، لها مزارع وغلات كثيرة. معجم البلدان ١/ ٦٤، صفة جزيرة الأندلس ١١.
(١١) انظر: غاية النهاية ١/ ٣٩٢.
(١٢) بفتح الميم وكسر الراء وتشديد الياء، مدينة كبيرة على ساحل البحر من كورة البيرة، وأهلها من أكثر أهل الأندلس مالا ومتاجر. انظر: نفح الطيب ١/ ١٦٣، معجم البلدان ٥/ ١١٩.
1 / 9
مدّة «١».
ورحلات الداني هذه بعضها كان قبل ارتحاله إلى المشرق، وبعضها بعد عودته إلى الأندلس، كما أن بعضها كان طلبا للسّماع من الشيوخ، وبعضها كان طلبا للأمن والاستقرار «٢»، بعد أن عاثت الفتن في أرجاء قرطبة فسادا كبيرا.
واستقر به المقام في دانية، لأن ملكها يومئذ مجاهد بن يوسف بن علي، من فحول موالي العامريين، خرج من قرطبة يوم قتل المهدي سنة أربع مائة، واستولى على دانية، فحكمها من سنة (٤٠٥ - ٤٣٦) «٣» ثم ابنه علي إقبال الدولة من سنة (٤٣٦ - ٤٦٨) «٤» وكان مجاهد" معتنيا بفن القراءات من بين فنون القرآن؛ لما أخذه به مولاه المنصور بن أبي عامر، واجتهد في تعليمه وعرضه على من كان من أئمة القراء بحضرته، فكان سهمه في ذلك وافرا" «٥».
" وكان أبو الحبيش مجاهد يستجلب القراء، ويفضل عليهم، وينفق عليهم الأموال، فكانوا يقصدونه، ويقيمون عنده، فكثروا في بلاده" «٦».
وكان لأبي عمرو الداني صلة بالأمير مجاهد، الذي كان مشغوفا بالعلوم التي حصلها أبو عمرو «٧»، فاستمرت إقامة أبي عمرو في دانية حتى نهاية عمره، ﵀.
ولم يحدثنا الداني في تلك العجالة عن أسرته، كما أن المصادر قد ضنت علينا، فلم تحدثنا عنها كذلك، وكل الذي نعرفه أن والده كان صيرفيا، وهذا يعني أنه كان ثريا، وإن كان الثراء غالبا في أهل قرطبة «٨»، وقد ترجم ابن بشكوال لوالده فقال:
" سعيد بن عثمان بن سعيد بن عمر الأموي، من أهل قرطبة، يكنى أبا عثمان، وهو
_________
(١) بغية الملتمس: ٤١٢.
(٢) انظر: دائرة المعارف الإسلامية ٩/ ١١٦ من الترجمة العربية.
(٣) انظر: تاريخ ابن خلدون، المسمى العبر وديوان المبتدأ والخبر ٤/ ٣٥٤، دائرة المعارف الإسلامية ٩/ ١٢٠ (الترجمة العربية).
(٤) انظر: مقدمة ابن خلدون ٣/ ٩٩٥.
(٥) انظر: مقدمة ابن خلدون ٣/ ٩٩٥.
(٦) معجم البلدان ٢/ ٤٣٤.
(٧) انظر: دائرة المعارف الإسلامية ٩/ ١١٦.
(٨) انظر: تفح الطيب ١/ ٥٥٨.
1 / 10
والد الحافظ أبي عمرو المقرئ، حدّث عنه ابنه أبو عمرو بحكايات عن شيوخه" «١».
هذا النص يدل على أن المؤلف كان أكبر أولاد أبيه، وأن والده كان له صلة بالعلم وأهله، وأغلب الظن أن هذه الصلة لم تكن واسعة ولا متينة، والله أعلم.
أما أولاده فلا نعرف منهم غير أبي العباس أحمد «٢»، الذي قرأ على أبيه، وتصدّر للإقراء بدانية، وتوفي سنة إحدى وسبعين وأربع مائة.
_________
(١) الصلة ١/ ٢٠٧.
(٢) انظر ترجمته في الصلة ١/ ٦٥، غاية النهاية ١/ ٨٠.
1 / 11
المبحث الثالث عقيدته
أبو عمرو الداني الإمام في علوم الكتاب والسنّة كان في عقيدته ملتزما لنصوص الكتاب والسنة، بعيدا عن زيغ أهل الأهواء، وضلالات المبتدعة، يثبت لله تعالى صفات الكمال، دون تشبيه ولا تعطيل، فيقول في أرجوزته في أصول السنة «١»:
تدري أخي أين طريق الجنة ... طريقها القرآن ثم السنة
ويقول فيها مؤكدا ضرورة قبول خبر الواحد إذا كان رواته من الأئمة:
ومن عقود السنة الإيمان ... بكل ما جاء به القرآن
وبالحديث المسند المروي ... عن الأئمة عن النبي
ويقول في إثبات الصفات لله تعالى دون تشبيه ولا تعطيل:
كلم موسى عبده تكليما ... ولم يزل مدبرا حكيما
كلامه وقوله قديم ... وهو فوق عرشه العظيم
ويقول أيضا:
ومن صحيح ما أتى به الخبر ... وشاع في الناس قديما وانتشر
نزول ربنا بلا امتراء ... في كل ليلة إلى السماء
من غير ما حد ولا تكييف ... سبحانه من قادر لطيف
ويقول في التحذير من أهل الأهواء:
أهون بقول جهم الخسيس ... وواصل وبشر المريسي
ذي السخف والجهل وذي العناد ... معمر وابن أبي داود
وابن عبيد شيخ الاعتزال ... وشارع البدعة والضلال
_________
(١) انظر سير أعلام النبلاء ١٨/ ٨١ - ٨٣.
1 / 12
والجاحظ القادح في الإسلام ... وجبت هذي الأمة النظام
والفاسق المعروف بالجبّائي ... ونجله السفيه ذو الخناء
واللاحقيّ وأبي هذيل ... مؤيدي الكفر بكل ويل
وذي العمى ضرار المرتاب ... وشبههم من أهل الارتياب
ويمضي في أرجوزته يدعو لحب أصحاب النبي ﷺ، ومدحهم وأن أفضلهم الصديق ثم الفاروق، ويذكّر بما صح من الأخبار من رؤية الله تعالى يوم القيامة، وضغطة القبر، ومنكر ونكير «١»، إلى آخر أبحاث العقدية.
ويبدو أن هذه الأرجوزة كانت مشهورة إلى أيام الذهبي، حيث يصفها بقوله:
الأرجوزة السائرة «٢»، والله أعلم.
_________
(١) انظر: سير أعلام النبلاء ١٨/ ٨٢ - ٨٣.
(٢) سير أعلام النبلاء ١٨/ ٨١.
1 / 13
الفصل الثاني ثقافته ومجال إبداعه، وأقوال العلماء فيه
المبحث الأول ثقافته:
تأثر إبداع الداني في علومه ببيئته، فاهتم بما تهتم به من العلوم، وأبدع في بعض ما تؤثره منها، اهتم بعلوم القرآن، وعلوم الحديث، واللغة، والفقه المالكي، ووقف عليها حياته، مع إبداع كبير في القراءات وعلومها، وتبحّر في النحو ومذاهبه، وسعة رواية في الحديث مع تمام ضبط، والأخذ من الفقه بحظ وافر، وهذا تفصيل في جوانب إبداعه في كل فن.
أولا: القراءات
عاصر الداني من أهل قرطبة مجموعة من القراء، كان على رأسهم: أبو القاسم عبد الرحمن بن الحسن بن سعيد القرطبي، مسند أهل الأندلس في زمانه (ت ٤٤٦) «١»، وأبو عبد الله محمد بن عبد الله الصناع القرطبي (ت ٤٤٨) «٢»، ومكي بن أبي طالب الإمام الكبير (ت ٤٣٧). رحل إلى قرطبة، وجلس في جامعها للإقراء «٣»، غير أن الداني كان نسيج وحده في علوم القراءات، فقد اجتهد في طلب القراءات، وجدّ في عرض الروايات على الشيوخ، ورواية الحروف عنهم في قرطبة، وإستجة، وبجّانة، وسرقسطة، وغيرها من بلاد الأندلس «٤»، ورحل إلى مصر فعرض وروى عن كبار قرائها في ذلك الزمن، الشيء الكثير، حتى غدا أعجوبة العصر في سعة الرواية وكثرتها.
ويحدثنا الداني عن طريقته في الطلب والتحصيل، فيقول:" ما رأيت شيئا قط إلا
_________
(١) انظر ترجمته: في معرفة القراء ١/ ٤١٠.
(٢) المصدر السابق ١٤١١.
(٣) المصدر السابق ١/ ٣٩٥.
(٤) الصلة: ٢/ ٣٨٥.
1 / 14
كتبته، ولا كتبته إلا وحفظته، ولا حفظته فنسيته" «١»، وهذا القول ليس فيه خيال، ولا تكثر بما لم يعطه، فكتب الرجل وآثاره ناطقة بواقعية ما قال وصدقه، وهذا ابن الجزري الإمام الثبت، يقول معقبا على قول الداني السابق:" ومن نظر كتبه علم مقدار الرجل، وما وهبه الله تعالى فيه، فسبحان الفتاح العليم، ولا سيما كتاب جامع البيان فيما رواه في القراءات السبع" «٢». وابن الجزري من أوثق الناس صلة بكتب الداني، ومعرفة بقيمتها.
ولو أتينا إلى كتاب جامع البيان، لوجدنا الداني يروي لنا القراءات السبع من أربعين رواية، ومائة وستين طريقا، حتى إذا أخذت تحصي أسانيده بالتفصيل وجدتها تزيد على الأربع مائة طريق، كل ذلك عن الأئمة السبعة فقط.
ولم يكن ذلك على كثرته ووفرته هو كل ما روى في القراءات، بل إن عنده في السبع وراء ذلك روايات وطرقا، لم يدخلها في جامع البيان. يقول الداني في جامع البيان، بعد أن فصّل أسانيده فيه:" فهذه الأسانيد التي أدت إلينا القراءة عن أئمة القراءة السبعة بالأمصار، من الروايات والطرق المذكورة في صدر الكتاب، قد ذكرناها على حسب ما انتهت إلينا رواية وتلاوة، وتركنا كثيرا منها؛ اكتفاء بما ذكرناه عما سواه، مع رغبتنا في الاختصار، وترك الإطالة والإكثار" «٣».
ولو عدنا إلى كتابه (الإشارة بلطيف العبارة، في القراءات المأثورات، بالروايات المشهورات) لوجدناه يضم فيه إلى السبع قراءة أبي جعفر يزيد بن القعقاع المدني (ت ١٣٢)، وقراءة أبي محمد يعقوب بن إسحاق البصري (ت ٢٠٥)، وأبي محمد خلف بن هشام البزار الكوفي (ت ٢٢٩) وحتى في القراءات السبع، يذكر فيه روايات لم يدخلها في جامع البيان، مثل رواية العباس بن الفضل الأنصاري قاضي الموصل (ت ١٨٦)، وأبي عبد الله محمد بن عمر بن عبد الله بن رومي البصري عن أبي عمرو بن العلاء، وغيرهما عن غير أبي عمرو من السبعة.
وهكذا نرى أن أبا عمرو الداني قد جمع الكثير والكثير من الروايات في علم القراءة عن السبعة وغيرهم، بحيث يتبدى لك قول ابن الجزري عن جامع البيان
_________
(١) سير أعلام النبلاء ١٨/ ٨٠، غاية النهاية ١/ ٥٠٤.
(٢) غاية النهاية ١/ ٥٠٤.
(٣) انظر: جامع البيان الفقرة: ١٠٠٣.
1 / 15
" قيل: إنه جمع فيه كل ما يعلمه في هذا العلم" «١» وهذا القول غير مسلّم به، وإن كان جامع البيان قد حوى ما يعجب ويدهش، فالرجل قد أوتي حظا وافرا، ونصيبا كبيرا
من العلم، جعله يتبوأ في علوم القراءات مرتبة" الأستاذين، وشيخ مشايخ المقرئين" «٢» عن جدارة واستحقاق.
وكان وراء إبداع الداني في القراءات عدة عوامل منها:
١ - سعة الرواية وكثرتها:
بالأسانيد المتصلة في روايات القراءات ووجوهها، وفي تاريخ رواتها، وطبقاتهم، فتراه في جامع البيان، يوثّق كل معلومة بالإسناد المتصل إلى قائلها.
يقول: حدثنا عبد الرحمن بن عثمان، قال: حدثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدثنا أحمد بن زهير، قال: سمعت أبي يقول: عاصم بن أبي النّجود هو عاصم بن بهدلة «٣».
وتوثيقا لعاصم يقول: أخبرنا سلمون بن داود، قال: حدثنا أبو علي بن الصوّاف، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: سألت أبي عن عاصم بن بهدلة فقال:
رجل صالح خيّر ثقة «٤».
ويمضي هكذا، حتى يورد لك سبعة عشر إسنادا، يوثق بها ترجمته لعاصم بن أبي النجود.
هذا، وللداني معرفة واسعة بتاريخ رواة القراءات، ودرجاتهم، وطبقاتهم، حتى أن له مصنفا في طبقات القراء في ثلاثة أسفار، ذكر فيه أحوال كل من قصد للإقراء من عند رسول الله ﷺ، إلى سنة خمس وثلاثين وأربع مائة «٥».
٢ - الضبط التام:
بحيث يؤدي مسموعات ومروياته كما سمعها، وهذا الضبط هو الذي يعلي قدر العالم، ويرفع منزلته، وقد شهد النقّاد لأبي عمرو أنه قد بلغ في ذلك شأوا بعيدا.
_________
(١) النشر ١/ ٦١.
(٢) غاية النهاية ١/ ٥٠٣.
(٣) انظر: جامع البيان الفقرة: ٢٩٠.
(٤) انظر: جامع البيان الفقرة: ٢٩٩.
(٥) انظر: روضات الجنات ٥/ ١٨٢.
1 / 16
يقول ابن بشكوال:" كان حسن الخط جيد الضبط، من أهل الحفظ والعلم والذكاء والفهم" «١».
ويقول أبو محمد بن عبد الله الحجري في فهرسه:" والحافظ أبو عمرو الداني، ذكر بعض الشيوخ أنه لم يكن في عصره، ولا بعد عصره أحد يضاهيه في حفظه وتحقيقه" «٢».
ويقول الحافظ الذهبي:" وما زال القراء معترفين ببراعة أبي عمرو الداني، وتحقيقه، وإتقانه، وعليه عمدتهم فيما ينقله من الرسم، والتجويد، والوجوه" «٣».
٣ - الدقة العلمية:
رزق أبو عمرو الداني دقة ملاحظة، وتيقظا وانتباها بحيث لا تفوته الأخطاء، ولا تجوز عليه الأوهام قبل أن ينبه إليها، ففي الفقرة (٧٨٨) من جامع البيان، يقول بعد أن يسوق الرواية عن ابن مجاهد:" في كتابي وفي سائر النسخ من كتاب ابن مجاهد، عن أبيه وعمه، وهو خطأ، وأحسبه من قبل النساخ، والصواب عن أخيه وعمه، كما نا ابن جعفر ... " ويسوق الرواية الصحيحة بإسنادها.
ويقول:" الرواة كلهم يقولون عن هارون الأخفش: حدثنا عبد الله بن ذكوان، ما خلا ابن مرشد، فإنه قال عنه: قرأت على ابن ذكوان، وقال ابن عبد الرزاق عنه:
حدثنا ابن ذكوان وقرأت عليه، فدلّ ذلك على أن الأخفش نقل الحروف عنه رواية وتلاوة، فتارة يذكر الرواية، وتارة يذكر التلاوة، لذلك حكى عنه الأمرين ابن عبد الرزاق" «٤».
٤ - النقد العلمي الجريء:
أبو عمرو الداني راوية ناقد، لا يقبل الروايات على علّاتها، ولكن ينقدها نقد الصيرفي- وهو ابن الصيرفي- للدرهم والدينار، ولا يمرّ الأخبار على عواهنها، بل يزيف الزائف، ويكشف الخطأ، ويحسن الحسن ويقبله، يعطي كل قول ما يستحق من الحكم.
_________
(١) الصلة ٢/ ٣٨٦.
(٢) تذكرة الحفاظ ٣/ ١١٢١، سير النبلاء ١٨/ ٨٠.
(٣) تاريخ الإسلام ١٣ ل ٣٠٥/ ظ.
(٤) جامع البيان: الفقرة ٨١٥.
1 / 17
فبينما يخطّئ ابن جبير فيقول:" وقد أدرج ابن جبير في هذا الضرب حرفين ليسا منه، وحكى عن اليزيدي عن أبي عمرو أنه أظهرهما، وهما قوله: الموت تحبسونهما [المائدة: ١٠٦] والموت توفّته [الأنعام: ٦١] وذلك غلط منه، لأن تاء الموت أصلية، فلا علة تمنع من إدغامها في مثلها، كما منعت منه تاء الخطاب وتاء المتكلم" «١».
ويغلط الحلواني في الحاقّة يا أيّها ويا أخت ويا آدم مع ما الهمزة فيه من نفس الكلمة التي قبلها، بل هي منفصلة منها ... الخ «٢».
وتراه يرد رواية الخزاعي، والحلواني، وابن شنبوذ، عن القوّاس أنه كان يحذف حرف المدّ، ويسقطه من اللفظ في المنفصل، فيقول:" وهذا مكروه قبيح لا يعمل عليه، ولا يؤخذ به، إذ هو لحن لا يجوز بوجه، ولا تحلّ القراءة به" «٣» ويحكم بالوهم حتى على شيخه فارس بن أحمد «٤».
تراه من ناحية أخرى يقبل قول قالون ويحسّنه فيقول:" والذي قاله في الضربين حسن، وقد بينا صحة ذلك في كتابنا المصنف في الهمزتين" «٥».
ويعقب على تعليل الفراء تفخيم لام الجلالة بعد الفتح والضم، وترقيقها بعد الكسر، بقوله:" وكلام الفراء في هذا حسن، وذلك أنه شبه اللام ... الخ" «٦».
وحيثما جرى الخلاف بين القراء في قضية ما، بيّن لك وجهة نظر كل فريق، ثم أوضح أي الرأيين هو الصحيح، أو الأقوى الذي يعتمده، والأمثلة كثيرة في جامع البيان. غير أن الداني يقسو أحيانا على أصحاب الرأي المقابل في التعبير. فتراه يقول:
" والوجهان جميعا لا دليل فيهما على مذهبهم، ولا حجة فيهما لانتحالهم، بل يؤذنان ببطول قولهم، ورد دعواهم، ويشهدان بقبح مذاهبهم، وسوء انتحالهم" «٧».
_________
(١) جامع البيان: الفقرة ١١٣٠.
(٢) انظر: جامع البيان الفقرة: ١٢٥٨.
(٣) انظر: جامع البيان الفقرة: ٢٥٦.
(٤) انظر: جامع البيان الفقرة: ١٦١٩.
(٥) انظر الفقرة: ١٤١٦ من جامع البيان.
(٦) انظر الفقرة: ٢٤٠٤ من جامع البيان.
(٧) انظر الفقرة: ١٣٠٥ من جامع البيان.
1 / 18
٥ - حسن توفيقه بين الروايات التي ظاهرها التعارض:
أوتي الداني في ذلك ملكة قوية، ورزق حنكة ودربة على التوفيق بين النصوص، بدلا من ضرب بعضها ببعض، وقبول بعض ورد بعضها الآخر، فانظر على سبيل المثال توفيقه بين الروايات التي يقول بعضها: إن إسماعيل بن جعفر قرأ على عيسى بن وردان، وأن عيسى قرأ على نافع. ويقول البعض الآخر: إن إسماعيل قرأ على نافع نفسه «١».
وكذلك توفيقه بين الروايات التي يقول بعضها: إن الكسائي يقف على ما لهذا الكتاب [الكهف ٤٩] على رسم المصحف، وبعضها الآخر يقول: إنه يقف على ما «٢».
هذه المزايا عند الداني رفعته إلى مقام الإمامة في علوم القراءات، حتى قال فيه الذهبي:" إلى أبي عمرو المنتهى في إتقان القراءات، والقراء خاضعون لتصانيفه، واثقون بنقله في القراءات، والرسم، والتجويد، والوقف والابتداء، وغير ذلك" «٣».
وقال فيه ابن خلدون:" بلغ الغاية فيها، أي في القراءات، ووقفت عليه معرفتها، وانتهت إلى روايته أسانيدها، وتعددت تآليفه فيها، وعول الناس عليها وعدلوا عن غيرها" «٤».
وقال الضبي عنه:" إمام وقته في الإقراء" «٥».
هذا، وأبو عمرو يذهب إلى أن القراءات السبع متواترة وما وراءها شواذ، ينبيك عن ذلك أنه صنف كتابه" المحتوى في القراءات الشواذ" فأدخل فيها قراءة يعقوب وأبي جعفر «٦».
ولم تقعد همة الداني به عند حدود القراءات، بل سمت إلى سائر علوم القرآن؛
_________
(١) انظر الفقرات: ٥٥٩ - ٦٠٧ من جامع البيان.
(٢) انظر الفقرات: ٢٥٠٠ - ٢٥٠٣ من جامع البيان.
(٣) تذكرة الحفاظ ٣/ ١١٢١.
(٤) مقدمة ابن خلدون ٣/ ٩٩٥.
(٥) بغية الملتمس: ٤١١.
(٦) انظر: سير أعلام النبلاء ١٨/ ٨١.
1 / 19