بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الْحَمد لله الَّذِي لَا تحصى نعمه، وَلَا يتناهى كرمه، وَصلى الله على مُحَمَّد نبيه، الَّذِي أنارت آيَاته، ووضحت بيناته، وعَلى آله الَّذين اهتدوا بمناره، وَاقْتَدوا بآثاره، وَسلم عَلَيْهِ وَعَلَيْهِم أَجْمَعِينَ، وعَلى التَّابِعين لَهُم بِإِحْسَان إِلَى يَوْم الدّين، تَسْلِيمًا دَائِما أَبَد الآبدين.
أما بعد:
فَإِن الله تَعَالَى يَقُول فِي كِتَابه الْمنزل على نبيه الْمُرْسل ﷺ: ﴿كَانَ النَّاس أمة وَاحِدَة فَبعث الله النَّبِيين مبشرين ومنذرين وَأنزل مَعَهم الْكتاب بِالْحَقِّ ليحكم بَين النَّاس فِيمَا اخْتلفُوا فِيهِ وَمَا اخْتلف فِيهِ إِلَّا الَّذين أوتوه من بعد مَا جَاءَتْهُم الْبَينَات بغيًا بَينهم فهدى الله الَّذين آمنُوا لما اخْتلفُوا فِيهِ من الْحق بِإِذْنِهِ وَالله يهدي من يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم (٢١٣)﴾ [سُورَة الْبَقَرَة] فَكَانَ كل من الْأَنْبِيَاء قبل نَبينَا ﷺ يبْعَث إِلَى قومه، أَو إِلَى طَائِفَة من النَّاس خَاصَّة، والنصوص شاهدةٌ بذلك، وَخص الله ﷿ نَبينَا مُحَمَّدًا ﷺ بِعُمُوم الرسَالَة إِلَى النَّاس كَافَّة، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا كَافَّة للنَّاس بشيرا وَنَذِيرا﴾ [سُورَة سبأ: ٢٨]، وَأوجب عَلَيْهِ التَّبْلِيغ إِلَيْهِم، وَإِقَامَة الْحجَّة عَلَيْهِم، وأكرمه بالعصمة مِنْهُم. فَقَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا الرَّسُول بلغ مَا أنزل إِلَيْك من رَبك وَإِن لم تفعل فَمَا بلغت رسَالَته وَالله يَعْصِمك من النَّاس (٦٧)﴾ [سُورَة الْمَائِدَة]، وَأوجب عَلَيْهِم طَاعَته فِي غير مَوضِع من كِتَابه، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿من يطع الرَّسُول فقد أطَاع الله (٨٠)﴾ [سُورَة النِّسَاء] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شجر بَينهم ثمَّ لَا يَجدوا فِي أنفسهم حرجًا مِمَّا قضيت ويسلموا تَسْلِيمًا (٦٥)﴾ [سُورَة النِّسَاء] ثمَّ قَالَ تَعَالَى - وَقَوله الْحق، ووعده الصدْق: ﴿إِنَّا نَحن نزلنَا الذّكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون﴾ [سُورَة
1 / 71
الْحجر: ٩] وَقَالَ تَعَالَى فِي وصف نبيه ﷺ: ﴿وَمَا ينْطق عَن الْهوى إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى﴾ [سُورَة النَّجْم: ٣ - ٤] فأمننا بذلك من وُقُوع التبديل فِي التَّبْلِيغ، وَزَاد ذَلِك توكيدًا بقوله: ﴿وَإنَّك لتهدي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم صِرَاط الله﴾ [سُورَة الشورى: ٥٢، ٥٣]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْض إِنَّه لحق مثل مَا أَنكُمْ تنطقون﴾ [سُورَة الذاريات ٢٣] وَسَائِر النُّصُوص فِي هَذَا الْمَعْنى، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿اتبعُوا مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم﴾ [سُورَة الْأَعْرَاف: ٣]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وأنزلنا إِلَيْك الذّكر لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم﴾ [سُورَة النَّحْل: ٤٤]، وَقَالَ تَعَالَى فِي مثله: ﴿وَمَا أنزلنَا عَلَيْك الْكتاب إِلَّا لتبين لَهُم الَّذِي اخْتلفُوا فِيهِ﴾ [سُورَة النَّحْل: ٦٤] .
فامتثل ﵇ مَا أَمر بِهِ، وَبلغ إِلَيْهِم مَا أوحى إِلَيْهِ، وَبَين لكل مِنْهُم مَا أشكل عَلَيْهِ، ثمَّ امتن تَعَالَى على الْمُؤمنِينَ بِهِ حِين عرف أَدَاء رَسُوله إِلَيْهِم مَا أوجبه عَلَيْهِم، فَقَالَ ﷿: ﴿الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ وَأَتْمَمْت عَلَيْكُم نعمتي ورضيت لكم الْإِسْلَام دينا﴾ [سُورَة الْمَائِدَة: ٣] .
ثمَّ قرر ﷺ الْحَاضِرين لَدَيْهِ على تبليغه إِلَيْهِم مَا أُوحِي إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُم فِي مشَاهد الْعُمُوم: " أَلا هَل بلغت " فَقَالُوا: اللَّهُمَّ نعم. فَلَمَّا أقرُّوا بذلك أَمرهم بالتبليغ عَنهُ، فَقَالَ: " ليبلغ الشَّاهِد الْغَائِب " تَنْبِيها على أَنه لَا تقوم الْحجَّة إِلَّا بالبلاغ، وَلذَلِك أَمر أَن يَقُول: ﴿لأنذركم بِهِ وَمن بلغ (١٩)﴾ [سُورَة الْأَنْعَام]، فَتعين عَلَيْهِم النَّقْل والتبيلغ، والتزموه، وَتعين على من بعدهمْ السّمع وَالطَّاعَة للصحيح الَّذِي نقلوه.
وَلم يزل الصَّحَابَة والتابعون وأئمة الْأَعْصَار المقدمون دائبين فِي نشر مَا علمُوا من شرائع الْإِسْلَام، وَتَعْلِيم مَا علمُوا من وَاجِبَات الْعِبَادَات وَالْأَحْكَام، حرصًا على إِيصَال ذَلِك إِلَى الْغَائِب وَالشَّاهِد، وتسوية فِيمَا بَين الْقَرِيب والمتباعد، وَهَكَذَا جيلًا بعد جيل.
وَلما امْتَدَّ الزَّمَان، وَخيف اخْتِلَاط الصَّحِيح بالسقيم، واشتباه المرتاب بالسليم
1 / 72
انتدب جماعةٌ من الْأَئِمَّة السالفين ﵃ أَجْمَعِينَ إِلَى تَقْيِيد ذَلِك بالتأليف، وَحفظه بِالْجمعِ والتصنيف، كمالك بن أنس، وَابْن جريج، وسُفْيَان، وَمن بعدهمْ، فَبلغ كل من ذَلِك إِلَى حَيْثُ انْتهى وَسعه، وَأمكنهُ اسْتِيفَاؤهُ وَجمعه، واتصل ذَلِك إِلَى زمَان الْإِمَامَيْنِ أبي عبد الله مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ، وَأبي الْحُسَيْن مُسلم بن الْحجَّاج النَّيْسَابُورِي ﵄ وعنهم، فخصا من الِاجْتِهَاد فِي ذَلِك، وإنفاد الوسع فِيهِ، واعتباره فِي الْأَمْصَار والرحلة عَنهُ إِلَى متباعدات الأقطار، من وَرَاء النَّهر إِلَى فسطاط مصر، وانتقاده حرفا حرفا، واختياره سندًا سندًا، بِمَا وَقع اتِّفَاق النقاد من جهابذة الْإِسْنَاد عَلَيْهِ، وَالتَّسْلِيم مِنْهُم لَهُ، وَذَلِكَ نتيجة مَا رزقا من نِهَايَة الدِّرَايَة، وإحكام الْمعرفَة بالصناعة، وجودة التَّمْيِيز لانتقاد الرِّوَايَة، وَالْبُلُوغ إِلَى أَعلَى الْمَرَاتِب فِي الِاجْتِهَاد وَالْأَمَانَة فِي وقتهما، والتجرد لحفظ دين الله الَّذِي ضمن حفظه، وقيض لَهُ الحافظين لَهُ بالإخلاص لله فِيهِ. وَشَاهد ذَلِك مَا وضع الله لَهما وَلَهُم من الْقبُول فِي الأَرْض، على مَا ورد بِهِ النَّص فِيمَن أحبه الله تَعَالَى، وَأمر أهل السَّمَوَات العلى بحبه.
وَلما انتهيا من ذَلِك إِلَى مَا قصداه، وقررا مِنْهُ مَا انتقداه، على تنائيهما فِي الِاسْتِقْرَار حِين الْجمع وَالِاعْتِبَار، أخرجَا ذَلِك فِي هذَيْن الْكِتَابَيْنِ المنسوبين إِلَيْهِمَا، ووسم كل واحدٍ مِنْهُمَا كِتَابه بِالصَّحِيحِ، وَلم يتقدمهما إِلَى ذَلِك أحدٌ قبلهمَا، وَلَا
1 / 73
أفْصح بِهَذِهِ التَّسْمِيَة فِي جَمِيع مَا جمعه أحدٌ سواهُمَا فِيمَا علمناه، إِذْ لم يسْتَمر لغَيْرِهِمَا فِي كل مَا أوردهُ، فتبادرت النيات الموفقة على تباعدها من الطوائف المحققة على اختلافها إِلَى الاستفادة مِنْهُمَا، وَالتَّسْلِيم لَهما فِي علمهما، وتمييزهما، وَقبُول مَا شَهدا بِتَصْحِيحِهِ فيهمَا، يَقِينا بصدقهما فِي النِّيَّة، وبراءتهما من الإقبال على جِهَة بحمية، أَو الِالْتِفَات إِلَى فِئَة بعصبية، سوى مَا صَحَّ عَمَّن أمرنَا بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ، والتعويل فِي كل مَا أخبرنَا بِهِ عَلَيْهِ ﷺ.
وَحين اسْتَقر ذَلِك وانتشر، وَسَار مسير الشَّمْس وَالْقَمَر، أردْت تَعْجِيل الْفَائِدَة لنَفْسي، وتسهيل سرعَة الْمَطْلُوب ذخيرة لمطالعتي وحفظي، وَالْأَخْذ بحظ من التَّقْرِيب فِي التَّبْلِيغ، ينْتَفع بِهِ من سواي، وأحظى بِهِ عِنْد مولَايَ، فاستخرته تَعَالَى وَجل، وَسَأَلته العون والتأييد على تَجْرِيد مَا فِي هذَيْن الْكِتَابَيْنِ من متون الْأَخْبَار ونصوص الْآثَار، إِذْ قد صَحَّ الانقياد للإسناد من جُمْهُور الْأَئِمَّة النقاد، وتلخيص ذَلِك فِي كتاب وَاحِد، مَعَ جمع مفترقها، وَحفظ تراجمها.
وَلم أذكر من الْإِسْنَاد فِي الْأَكْثَر إِلَّا التَّابِع عَن الصاحب، أَو من روى عَنهُ مِمَّا يتَعَلَّق بالتراجم للمعرفة بِهِ، وَلَا من الْمعَاد إِلَّا مَا تَدْعُو الضَّرُورَة إِلَيْهِ لزِيَادَة بَيَان، أَو لِمَعْنى يتَّصل بِمَا لَا يَقع الْفَهم إِلَّا بإيراده، وَرُبمَا أضفنا إِلَى ذَلِك نبذًا مِمَّا تنبهنا عَلَيْهِ من كتب أبي الْحسن الدَّارَقُطْنِيّ، وَأبي بكر الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَأبي بكر الْخَوَارِزْمِيّ وَأبي مَسْعُود الدِّمَشْقِي، وَغَيرهم من الْحفاظ الَّذين عنوا بِالصَّحِيحِ مِمَّا يتَعَلَّق بالكتابين، من تَنْبِيه على غرضٍ، أَو تتميم لمَحْذُوف، أَو زيادةٍ فِي شرحٍ، أَو بَيَان لاسمٍ أَو نسبٍ، أَو كلامٍ على إِسْنَاد، أَو تتبعٍ لوهم بعض
1 / 74
أَصْحَاب التَّعَالِيق فِي الْحِكَايَة عَنْهُمَا، وَنَحْو ذَلِك من الغوامض الَّتِي يقف عَلَيْهَا من يَنْفَعهُ الله بمعرفتها إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وجمعنا حَدِيث كل صَاحب على حِدة، ورتبناهم على خمس مَرَاتِب:
فبدأنا بِمُسْنَد الْعشْرَة، ثمَّ بالمقدمين بعد الْعشْرَة، ثمَّ بالمكثرين، ثمَّ بالمقلين، ثمَّ بِالنسَاء.
وميزنا الْمُتَّفق من كل مُسْند على حِدة، وَمَا انْفَرد بِهِ كل وَاحِد مِنْهُمَا على حدةٍ، وَلم نراع الِانْفِرَاد بالرواة، وَإِنَّمَا قصدنا إِلَى الِانْفِرَاد بالمتون، وَإِن كَانَ الحَدِيث من رواةٍ مُخْتَلفين عَن ذَلِك الصاحب، أَو عَن الروَاة عَنهُ، لِأَن الْغَرَض معرفَة اتِّفَاق هذَيْن الْإِمَامَيْنِ على إِخْرَاج الْمَتْن الْمَقْصُود إِلَيْهِ فِي الصَّحِيح، أَو معرفَة من أخرجه مِنْهُمَا وَشهد بِتَصْحِيحِهِ، لتقوم الْحجَّة بِهِ.
وتتبعنا مَعَ ذَلِك زِيَادَة كل راوٍ فِي كل متنٍ، وَلم نخل بِكَلِمَة فَمَا فَوْقهَا، تَقْتَضِي حكما أَو تفِيد فَائِدَة، ونسبناها إِلَى من رَوَاهَا، إِلَّا أَن يكون فِيمَا أوردنا مَعْنَاهَا أَو دلَالَة عَلَيْهَا، وجمعنا كل معني مَقْصُود من ذَلِك وَمن التراجم فِيهِ فِي مَكَان وَاحِد فِي كل مُسْند، وَرُبمَا أوردنا الْمَتْن من ذَلِك بِلَفْظ أَحدهمَا، فَإِن اخْتلفَا فِي اللَّفْظ واتفقا فِي المعني أوردناه بِاللَّفْظِ الأتم، وَإِن كَانَت عِنْد أَحدهمَا فِيهِ زِيَادَة
وَإِن قلت - نبهنا عَلَيْهَا، وتوخينا الِاجْتِهَاد فِي ذَلِك، والمعصوم من عصم الله ﷿.
وَهَذَا الَّذِي أحكمناه فِي الْجمع بَين الصَّحِيحَيْنِ لَهما، والترجمة عَنْهُمَا يستبين للنَّاظِر المتيقظ، والعارف الْمنصف الَّذِي نور الله بالمعرفة قلبه، وهدي إِلَى الْإِقْرَار بهَا لِسَانه، تقدمهما فِي الِاحْتِيَاط وَالِاجْتِهَاد، واحتفالهما فِي الْجمع والإيراد، واقتصارهما على المهم الْمُسْتَفَاد. وَإِن جَمِيع مَا جمعاه من ذَلِك وانتقداه دَلِيل على أَن أَكْثَره عَن جمَاعَة لَا عَن وَاحِد.
1 / 75
وَهَذَانِ الكتابان يشتملان على فصولٍ من أصُول الدّين، لاغنى لمن أَرَادَ الِاخْتِصَاص بِعلم الشَّرِيعَة عَن مَعْرفَتهَا، وَهِي مَا فيهمَا من الِاعْتِبَار بأخبار الِابْتِدَاء، والأنبياء، وَمَا كَانَ فِي بني إِسْرَائِيل من الأنباء، وَأَيَّام الْجَاهِلِيَّة الجهلاء، وَأَيَّام النُّبُوَّة وَمَا تَلَاهَا من السّير والمعجزات، وجمل الاعتقادات، ولوازم الطَّاعَات، وَالنَّهْي عَن الْمُنْكَرَات، وَذكر الْغَزَوَات، ونزول الْآيَات وثوابها، وأبواب الْفِقْه وَالتَّفْسِير وَالتَّعْبِير وبيانها، وفضائل الصَّحَابَة وخصائصها، ورغائب الزّهْد فِي الدُّنْيَا وَالْعَمَل لِلْأُخْرَى ومراتبها، وَمَا فِي ملكوت السَّمَوَات وَالْأَرْض من قدرَة الله تَعَالَى وشواهدها، وَمَا يتَّصل بذلك من المواعظ ورقائقها، وَمَا يكون من الْفِتَن والأشراط إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وأنواعها، ثمَّ مَا يكون من الْبَعْث والنشور، وَبعد الْحساب من الثَّوَاب وَالْعِقَاب، والاستقرار فِي الْجنَّة أَو النَّار وصفاتهما، وحظوظ أهليهما مِنْهُمَا، وَمَا يتَعَلَّق بذلك.
وتتمة ذَلِك تعديلهما لرواة هَذِه الْأُصُول المخرجة فِي الْكِتَابَيْنِ، وحكمهما بذلك فِيمَا أفصحا بِهِ فِي الترجمتين، لِأَن الصِّحَّة لَا يَسْتَحِقهَا الْمَتْن إِلَّا بعدالة الرَّاوِي، وَشَهَادَة هذَيْن الْإِمَامَيْنِ أَو أَحدهمَا بذلك، وتصحيحهما إِيَّاه حكمٌ يلْزم قبُوله، وتبليغٌ يتَعَيَّن الانقياد لَهُ، ونذارةٌ يخَاف عَاقِبَة عصيانها، قَالَ تَعَالَى: ﴿فلولا نفر من كل فرقة مِنْهُم طَائِفَة ليتفقهوا فِي الدّين ولينذروا قَومهمْ إِذا رجعُوا إِلَيْهِم لَعَلَّهُم يحذرون﴾ [سُورَة التَّوْبَة: ١٢٢] .
وَهَذِه مناهج الباحث المتدين قد قربناها لَهُ، وسهلناها عَلَيْهِ، ونقلنا نصوصها مُقَيّدَة إِلَيْهِ، ووضعنا مَجْمُوع أشتاتها وتراجمها منتظمة بَين يَدَيْهِ، وزدنا عَلَيْهَا مَعَ جمع المتفرق وَحذف مَا يصعب حفظه من الطّرق تَمْيِيز مَا اتفقَا عَلَيْهِ، أَو انْفَرد بِهِ أَحدهمَا، والاقتصار من التّكْرَار على مَا لابد من الِاقْتِصَار عَلَيْهِ، وَعدد مَا لكل صَاحب من الْأَحَادِيث المخرجة فيهمَا، وقمنا لَهُ مقَام التَّرْجَمَة عَنْهُمَا فِي ذَلِك كُله.
1 / 76
واقتفينا فِي تَرْتِيب هذَيْن الْكِتَابَيْنِ على أَسمَاء الصَّحَابَة ﵃ آثَار من تقدم قبلنَا من الْأَئِمَّة المخرجين على الصَّحِيح، وَأَصْحَاب التَّعَالِيق، كَأبي بكر البرقاني وَأبي مَسْعُود الدِّمَشْقِي، وَخلف الوَاسِطِيّ، وَغَيرهم من الْأَئِمَّة، وَإِنَّمَا فعلوا ذَلِك ليتعجل النَّاظر فِي الْأَحَادِيث معرفَة من رَوَاهَا من الصَّحَابَة، وَمن رَوَاهَا عَنْهُم، وَمَعْرِفَة مَا يلْحق بهَا مِمَّا هُوَ على شَرط إسنادها، أَو مَا يَقع إِلَى الباحث عَنْهَا مِمَّا يُرِيد اعْتِبَاره من الصَّحِيح، فيقصد بِمَا يَقع لَهُ إِلَى الْمَجْمُوع من حَدِيث ذَلِك الصاحب، فَيقرب عَلَيْهِ الْمطلب الَّذِي قَصده، وَالْمذهب الَّذِي ذهب إِلَيْهِ، وَيكون أخف عَلَيْهِ من طلبه لذَلِك فِي أبوابٍ، رُبمَا أخرجه أَحدهمَا فِي غَيره.
وَبِمَا صدرنا بِهِ أَولا من النُّصُوص وبأمثالها، أيقنا أَن الْعلم الْمُقْتَدِي بِهِ فِي الدّين، والظهير المحتج بِهِ بَين المختصمين، هُوَ مَا صَحَّ عَمَّن صحت قَوَاعِد أَعْلَامه، وأنارت شَوَاهِد صدقه فِي إِعْلَامه، مُحَمَّد رَسُول الله ﷺ.
وَلم نجد من الْأَئِمَّة الماضين ﵃ أَجْمَعِينَ - من أفْصح لنا فِي جَمِيع مَا جمعه بِالصِّحَّةِ إِلَّا هذَيْن الْإِمَامَيْنِ، وَإِن كَانَ من سواهُمَا من الْأَئِمَّة قد أفْصح بالتصحيح فِي بعض، فقد علل فِي بعض، فَوَجَبَ البدار إِلَى الِاشْتِغَال بالمجموع الْمَشْهُور على صِحَة جَمِيعه. فَإِن اتَّسع لباحث محسنٍ زمانٌ، تتبع مَا لم يخرجَاهُ من الْمُتُون اللاحقة بِشَرْط الصَّحِيح فِي سَائِر المجموعات والمنثورات، وميز ذَلِك إِن وجده فِيهَا، وَكَانَت لَهُ منةٌ فِي انتقاد ذَلِك مِنْهَا.
وَنَرْجُو أَن يكون مَا أتعبنا الخاطر فِيهِ، وأنفقنا الْعُمر عَلَيْهِ، وجمعنا أشتاته، وقربنا متباعده من ذَلِك، أخصر فِي المطالعة، وَأعجل للْحِفْظ وأسرع للتبيلغ،
1 / 77
وَأمكن للفهم والاستنباط، وأزيد فِي الاستبصار، وأنفع فِي الْعلم وَالْعَمَل، وأدعي إِلَى دعوةٍ نستفيدها من مستفيدٍ حصل على غنيمةٍ قصرت عَلَيْهِ الْمسَافَة فيهمَا، وَلم يتعب فِي تَحْصِيلهَا وتأتيها.
وَبِاللَّهِ تَعَالَى نعتصم، وإياه نسْأَل نفعنا وَالِانْتِفَاع بِنَا، والزلفي لَدَيْهِ بِكُل مَا نتقرب بِهِ إِلَيْهِ، جعلنَا الله وَإِيَّاكُم من المعتصمين بكتابه، وَسنة نبيه ﷺ، الداعين إِلَيْهِمَا، الموفقين لفهمهما واستعمالهما، ورزقنا وَإِيَّاكُم الْإِخْلَاص وَالْيَقِين، وَصَلَاح الدُّنْيَا وَالدّين، وَالْقَبُول المعلي إِلَى عليين، بمنه، آمين. وَغفر لنا وللأئمة السالفين، ولآبائنا أَجْمَعِينَ، وَلِجَمِيعِ الْمُسلمين، وَالْحَمْد لله أَولا وآخرًا، وعودًا وبدءًا، حمدًا يَدُوم وَلَا يبيد، وَصلى الله على الْمُصْطَفى محمدٍ، وعَلى آله المقتدين بِهِ، وَسلم تَسْلِيمًا دَائِما أبدا، يتَكَرَّر وَيزِيد، وحسبنا الله وَحده وَنعم الْوَكِيل.
وَهَذَا حِين نبدأ فِيمَا قصدنا لَهُ من الْجمع بَين الصَّحِيحَيْنِ، على الرتب الْمَذْكُورَة فَأول ذَلِك مَا فيهمَا من مُسْند أبي بكر الصّديق رضوَان الله عَلَيْهِ.
1 / 78
الْقسم الأول
مسانيد الْعشْرَة
1 / 79
صفحة فارغة
1 / 80
مُسْند أبي بكر الصّديق ﵁ الْمخْرج فِي الصَّحِيحَيْنِ البُخَارِيّ وَمُسلم أَو فِي أَحدهمَا
الْمُتَّفق عَلَيْهِ من ذَلِك سِتَّة أَحَادِيث:
١ - الأول: عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ عَنهُ أَنه قَالَ لرَسُول الله ﷺ: " عَلمنِي دُعَاء أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتي ". قَالَ: " قل: اللَّهُمَّ إِنِّي ظلمت نَفسِي ظلما كثيرا، وَلَا يغْفر الذُّنُوب إِلَّا أَنْت، فَاغْفِر لي مغْفرَة من عنْدك، وارحمني، إِنَّك أَنْت الغفور الرَّحِيم ".
جعله بعض الروَاة من مُسْند عبد الله بن عَمْرو، لِأَنَّهُ قَالَ فِيهِ عَنهُ: إِن أَبَا بكر قَالَ لرَسُول الله ﷺ. وَقد أَخْرجَاهُ أَيْضا كَذَلِك من طَرِيق عَمْرو بن الْحَارِث، عَن يزِيد بن أبي حبيب، وَهُوَ مَذْكُور فِي مُسْند ابْن عَمْرو.
٢ - الثَّانِي: عَن أنس بن مَالك الْأنْصَارِيّ، عَنهُ، قَالَ: " نظرت إِلَى أَقْدَام الْمُشْركين وَنحن فِي الْغَار وهم على رؤوسنا، فَقلت: يَا رَسُول الله لَو أَن أحدهم نظر إِلَى قَدَمَيْهِ أبصرنا تَحت قَدَمَيْهِ. فَقَالَ: " يَا أَبَا بكر، مَا ظَنك بِاثْنَيْنِ الله ثالثهما ".
1 / 81
٣ - الثَّالِث: حَدِيث الرحل: عَن الْبَراء بن عَازِب قَالَ: جَاءَ أَبُو بكر إِلَى أبي فِي منزله فَاشْترى مِنْهُ رحلًا، فَقَالَ لعازبٍ: ابْعَثْ معي ابْنك يحملهُ معي إِلَى منزلي، فَقَالَ لي أبي: احمله، فَحَملته، وَخرج أبي مَعَه ينْتَقد ثمنه، فَقَالَ لَهُ أبي: يَا أَبَا بكر، كَيفَ صنعتما لَيْلَة سريت مَعَ رَسُول الله ﷺ؟ قَالَ: نعم، أسرينا ليلتنا كلهَا حَتَّى قَامَ قَائِم الظهيرة، وخلا الطَّرِيق فَلَا يمر فِيهِ أحد، حَتَّى رفعت لنا صخرةٌ طويلةٌ لَهَا ظلٌّ لم تأت عَلَيْهِ الشَّمْس بعد، فنزلنا عِنْدهَا، فَأتيت الصَّخْرَة، فسويت بيَدي مَكَانا ينَام فِيهِ رَسُول الله ﷺ فِي ظلها، ثمَّ بسطت عَلَيْهِ فَرْوَة، ثمَّ قلت: نم يَا رَسُول الله وَأَنا أنفض لَك مَا حولك، فَنَامَ، وَخرجت أنفض مَا حوله، فَإِذا أَنا براعٍ مقبلٍ بغنمه إِلَى الصَّخْرَة يُرِيد مِنْهَا الَّذِي أردنَا، فَلَقِيته فَقلت: لمن أَنْت يَا غُلَام؟ فَقَالَ: لرجل من أهل الْمَدِينَة. فَقلت: أَفِي غنمك لبن؟ قَالَ: نعم. قلت: أفتحلب لي؟ قَالَ: نعم، فَأخذ شَاة، فَقلت: انفض الضَّرع من الشّعْر وَالتُّرَاب والقذى - قَالَ: فَرَأَيْت الْبَراء يضْرب بِيَدِهِ على الْأُخْرَى ينفض - فَحلبَ لي فِي قعبٍ مَعَه كثبةً من لبن، قَالَ: وَمَعِي إداوةٌ أرتوي فِيهَا للنَّبِي ﷺ ليشْرب مِنْهَا وَيتَوَضَّأ. قَالَ: فَأتيت النَّبِي ﷺ وكرهت أَن أوقظه من نَومه، فوقفت حَتَّى اسْتَيْقَظَ، وَفِي أُخْرَى: فوافقته حِين اسْتَيْقَظَ، فَصَبَبْت على اللَّبن من المَاء حَتَّى برد أَسْفَله، فَقلت: يَا رَسُول الله، اشرب من هَذَا اللَّبن، قَالَ: فَشرب حَتَّى رضيت، ثمَّ قَالَ: " ألم يَأن للرحيل؟ " قلت: بلَى. قَالَ: فارتحلنا بعد مَا زَالَت الشَّمْس، وَاتَّبَعنَا سراقَة بن مَالك وَنحن فِي جلدٍ من الأَرْض، فَقلت: يَا رَسُول الله أَتَيْنَا، فَقَالَ: " لَا تحزن، إِن الله مَعنا ". فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُول الله ﷺ، فارتطمت فرسه إِلَى بَطنهَا - أرى - فَقَالَ: إِنِّي قد علمت أنكما قد دعوتما عَليّ، فَادعوا
1 / 82
لي، فَالله لَكمَا أَن أرد عنكما الطّلب. فَدَعَا رَسُول الله ﷺ، فنجا، لَا يلقى أحدا إِلَّا قَالَ: كفيتم مَا هَا هُنَا، وَلَا يلقى أحدا إِلَّا رده، ووفى لنا.
زَاد فِي رِوَايَة إِسْرَائِيل: أَن سراقَة قَالَ: وَهَذِه كِنَانَتِي، فَخذ سَهْما مِنْهَا، فَإنَّك ستمر على إبلي وغلماني بمَكَان كَذَا وَكَذَا، فَخذ مِنْهَا حَاجَتك. قَالَ: " لَا حَاجَة لي فِي إبلك ". فقدمنا الْمَدِينَة لَيْلًا، فتنازعوا أَيهمْ ينزل عَلَيْهِ، فَقَالَ: " أنزل على بني النجار أخوال عبد الْمطلب، أكْرمهم بذلك " فَصَعدَ الرِّجَال وَالنِّسَاء فَوق الْبيُوت، وتفرق الغلمان والخدم فِي الطّرق ينادون: يَا مُحَمَّد، يَا رَسُول الله، يَا مُحَمَّد، يَا رَسُول الله.
وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: جَاءَ مُحَمَّد، جَاءَ رَسُول الله.
زَاد فِي أُخْرَى من رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن يُوسُف: وَقَالَ الْبَراء: فَدخلت مَعَ أبي بكر على أَهله، فَإِذا عَائِشَة ابْنَته مُضْطَجِعَة قد أصابتها حمى، فَرَأَيْت أَبَاهَا يقبل خدها، وَقَالَ: كَيفَ أَنْت يَا بنية.
فِي حَدِيث شُعْبَة زِيَادَة لَفْظَة: أَن الْبَراء قَالَ: قَالَ أَبُو بكر - يَعْنِي لما خرج رَسُول الله ﷺ من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة -: مَرَرْنَا براعٍ وَقد عَطش رَسُول الله ﷺ، قَالَ أَبُو بكر الصّديق: فَأخذت قدحًا، فحلبت فِيهِ لرَسُول الله ﷺ كثبة من لبنٍ، فَأَتَيْته بهَا، فَشرب حَتَّى رضيت. وَقع مَفْصُولًا من حَدِيث الرحل، وَكَذَا أَخْرجَاهُ.
٤ - الرَّابِع: عَن أبي هُرَيْرَة من رِوَايَة حميد بن عبد الرَّحْمَن عَنهُ: أَن أَبَا بكر الصّديق بَعثه فِي الْحجَّة الَّتِي أمره عَلَيْهَا رَسُول الله ﷺ قبل
1 / 83
حجَّة الْوَدَاع فِي رهطٍ يُؤذن فِي النَّاس يَوْم النَّحْر: أَلا يحجّ بعد الْعَام مُشْرك، وَلَا يطوف بِالْبَيْتِ عُرْيَان.
وَفِي رِوَايَة عقيل: قَالَ حميد: ثمَّ أرْدف النَّبِي ﷺ بعلي بن أبي طَالب، فَأمره أَن يُؤذن ب " بَرَاءَة " قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: فَأذن مَعنا فِي أهل منى ب " بَرَاءَة ": أَلا يحجّ بعد الْعَام مشركٌ وَلَا يطوف بِالْبَيْتِ عُرْيَان.
وَفِي رِوَايَة أبي الْيَمَان: وَيَوْم الْحَج الْأَكْبَر: يَوْم النَّحْر. وَالْحج الْأَكْبَر: الْحَج، وَإِنَّمَا قيل الْحَج الْأَكْبَر من أجل قَول النَّاس: الْحَج الْأَصْغَر. قَالَ: فنبذ أَبُو بكر إِلَى النَّاس فِي ذَلِك الْعَام، فَلم يحجّ فِي الْعَام الْقَابِل الَّذِي حج فِيهِ النَّبِي ﷺ حجَّة الْوَدَاع - مشركٌ، وَأنزل الله تَعَالَى فِي الْعَام الَّذِي نبذ فِيهِ أَبُو بكر إِلَى الْمُشْركين: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِنَّمَا الْمُشْركُونَ نجس فَلَا يقربُوا الْمَسْجِد الْحَرَام بعد عَامهمْ هَذَا وَإِن خِفْتُمْ عيلة فَسَوف يغنيكم الله من فَضله﴾ [سُورَة التَّوْبَة: ٢٨] وَكَانَ الْمُشْركُونَ يوافون بِالتِّجَارَة، فينتفع بهَا الْمُسلمُونَ، فَلَمَّا حرم الله على الْمُشْركين أَن يقربُوا الْمَسْجِد الْحَرَام وجد الْمُسلمُونَ فِي أنفسهم مِمَّا قطع عَلَيْهِم من التِّجَارَة الَّتِي كَانَ الْمُشْركُونَ يوافون بهَا، فَقَالَ الله ﷿: ﴿وَإِن خِفْتُمْ عيلة فَسَوف يغنيكم الله من فَضله إِن شَاءَ﴾ ثمَّ أحل فِي الْآيَة الَّتِي فِيهَا تتبعها الْجِزْيَة، وَلم تُؤْخَذ قبل ذَلِك، فَجَعلهَا عوضا مِمَّا مَنعهم من موافاة الْمُشْركين بتجاراتهم، فَقَالَ ﷿: ﴿قَاتلُوا الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِاللَّه وَلَا بِالْيَوْمِ الآخر﴾ [سُورَة التَّوْبَة: ٢٩]، فَلَمَّا أحل الله ﷿
1 / 84
ذَلِك للْمُسلمين عرفُوا أَنه قد عاضهم بِأَفْضَل مِمَّا خافوه ووجدوا عَلَيْهِ مِمَّا كَانَ الْمُشْركُونَ يوافون بِهِ فِي التِّجَارَة.
وَفِي رِوَايَة ابْن وهب: وَكَانَ حميد يَقُول: يَوْم النَّحْر: يَوْم الْحَج الْأَكْبَر، من أجل حَدِيث أبي هُرَيْرَة.
٥ - الْخَامِس: عَن أبي هُرَيْرَة أَيْضا قَالَ: لما توفّي رَسُول الله ﷺ، واستخلف أَبُو بكر بعده، وَكفر من كفر من الْعَرَب. قَالَ عمر بن الْخطاب لأبي بكر: كَيفَ تقَاتل النَّاس وَقد قَالَ رَسُول الله ﷺ: " أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله، فَمن قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله عصم مني مَاله وَنَفسه إِلَّا بِحقِّهِ، وحسابه على الله " فَقَالَ أَبُو بكر: وَالله لأقاتلن من فرق بَين الصَّلَاة وَالزَّكَاة، فَإِن الزَّكَاة حق المَال، وَالله لَو مَنَعُونِي عنَاقًا كَانُوا يؤدونها إِلَى رَسُول الله ﷺ لقاتلتهم على منعهَا، فَقَالَ عمر: فوَاللَّه مَا هُوَ إِلَّا أَن رَأَيْت أَن الله شرح صدر أبي بكر لِلْقِتَالِ، فَعرفت أَنه الْحق.
وَفِي رِوَايَة: عقَالًا كَانُوا يؤدونه.
وَيدخل أَيْضا هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند عمر، بقوله فِيهِ: إِن رَسُول الله ﷺ قَالَ: " أمرت أَن أقَاتل النَّاس. . ".
٦ - السَّادِس عَن عمر عَن أبي بكر، الْمسند مِنْهُ فَقَط وَهُوَ: " لَا نورث، مَا تركنَا صَدَقَة ".
1 / 85
لمُسلم من رِوَايَة جوَيْرِية بن أَسمَاء، عَن مَالك، وَعَن عَائِشَة بِطُولِهِ: أَن فَاطِمَة سَأَلت أَبَا بكر أَن يقسم لَهَا مِيرَاثهَا.
وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: أَن فَاطِمَة وَالْعَبَّاس أَتَيَا أَبَا بكر يلتمسان ميراثهما من رَسُول الله ﷺ وهم حينئذٍ يطلبان أرضه من فدك، وسهمه من خَيْبَر، فَقَالَ أَبُو بكر إِنِّي سَمِعت رَسُول الله ﷺ قَالَ: " لَا نورث، مَا تركنَا صدقةٌ، إِنَّمَا يَأْكُل آل مُحَمَّد فِي هَذَا المَال " وَإِنِّي وَالله لَا أدع أمرا رَأَيْت رَسُول الله ﷺ يصنعه فِيهِ إِلَّا صَنعته. زَاد فِي رِوَايَة صَالح بن كيسَان: إِنِّي أخْشَى إِن تركت شَيْئا من أمره أَن أزيغ. قَالَ: وَأما صدقته بِالْمَدِينَةِ فَدَفعهَا عمر إِلَى عَليّ وعباس، فغلبه عَلَيْهَا عَليّ.
وَأما خَيْبَر وفدك فَأَمْسَكَهُمَا عمر وَقَالَ: هما صَدَقَة رَسُول الله ﷺ، كَانَتَا لحقوقه الَّتِي تعروه ونوائبه، وَأَمرهمَا إِلَى من ولي الْأَمر. قَالَ: فهما على ذَلِك إِلَى الْيَوْم.
قَالَ غير صَالح فِي رِوَايَته فِي حَدِيث أبي بكر: فَهجرَته فَاطِمَة، فَلم تكَلمه فِي ذَلِك حَتَّى مَاتَت، فدفنها عَليّ لَيْلًا، وَلم يُؤذن بهَا أَبَا بكر، قَالَ: فَكَانَ لعَلي وجهٌ من النَّاس حَيَاة فَاطِمَة، فَلَمَّا توفيت فَاطِمَة انصرفت وُجُوه النَّاس عَن عَليّ، وَمَكَثت فَاطِمَة بعد رَسُول الله ﷺ سِتَّة أشهر ثمَّ توفيت. فَقَالَ رجلٌ لِلزهْرِيِّ: فَلم يبايعه على سِتَّة أشهر. فَقَالَ: لَا وَالله، وَلَا أحدٌ من بني هَاشم حَتَّى بَايعه عَليّ وَفِي حَدِيث عُرْوَة: فَلَمَّا رأى عَليّ انصراف وُجُوه النَّاس عَنهُ فزع إِلَى مصالحة أبي بكر، فَأرْسل إِلَى أبي بكر: ائتنا، وَلَا يأتنا مَعَك أحدٌ، وَكره أَن يَأْتِيهِ عمر، لما علم من شدَّة عمر، فَقَالَ عمر: لَا تأتهم وَحدك. فَقَالَ أَبُو بكر: وَالله لآتينهم وحدي، مَا عَسى أَن يصنعوا بِي. فَانْطَلق أَبُو بكر، فَدخل على عَليّ وَقد جمع بني هَاشم عِنْده، وَقَامَ عَليّ، فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهله، ثمَّ قَالَ: أما بعد، فَلم يمنعنا أَن نُبَايِعك يَا أَبَا بكر إنكارًا لفضلك، وَلَا نفاسة عَلَيْك لخيرٍ سَاقه
1 / 86
الله إِلَيْك، وَلَكنَّا كُنَّا نرى أَنه لنا فِي هَذَا الْأَمر حَقًا فاستبددتم علينا، ثمَّ ذكر قرابتهم من رَسُول الله ﷺ وحقهم، فَلم يزل عَليّ يذكر حَتَّى بَكَى أَبُو بكر، وَصمت عَليّ. فَتشهد أَبُو بكر، فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهله، ثمَّ قَالَ: فوَاللَّه لقرابة رَسُول الله ﷺ أحب إِلَيّ أَن أصل من قَرَابَتي، وَالله مَا ألوت فِي هَذِه الْأَمْوَال الَّتِي كَانَت بيني وَبَيْنكُم عَن الْخَيْر، وَلَكِنِّي سَمِعت رَسُول الله ﷺ يَقُول: " لَا نورث، مَا تركنَا صَدَقَة، إِنَّمَا يَأْكُل آل محمدٍ فِي هَذَا المَال " وَإِنِّي وَالله لَا أدع أمرا صنعه رَسُول الله ﷺ إِلَّا صَنعته إِن شَاءَ الله. وَقَالَ عَليّ: موعدك العشية لِلْبيعَةِ.
فَلَمَّا صلى أَبُو بكر الظّهْر، أقبل على النَّاس يعْذر عليا بِبَعْض مَا اعتذر بِهِ، ثمَّ قَامَ عليٌّ فَعظم من حق أبي بكر وَذكر فضيلته وسابقته، ثمَّ قَامَ إِلَى أبي بكر فَبَايعهُ، فَأقبل النَّاس على عَليّ، فَقَالُوا: أصبت وأحسنت، وَكَانَ الْمُسلمُونَ إِلَى عَليّ قَرِيبا حِين رَاجع الْأَمر الْمَعْرُوف ﵃ أَجْمَعِينَ.
1 / 87
مَا انْفَرد البُخَارِيّ بِإِخْرَاجِهِ من ذَلِك
٧ - الأول: عَن عمر، من رِوَايَة عبد الله بن عمر: أَن عمر حِين تأيمت حَفْصَة بنت عمر من خُنَيْس بن حذافة السَّهْمِي - وَكَانَ من أَصْحَاب رَسُول الله ﷺ، قد شهد بَدْرًا وَتُوفِّي بِالْمَدِينَةِ - قَالَ عمر: فَلَقِيت عُثْمَان بن عَفَّان فعرضت عَلَيْهِ حَفْصَة فَقلت: إِن شِئْت أنكحتك حَفْصَة ابْنة عمر، فَقَالَ: سَأَنْظُرُ فِي أَمْرِي. فَلَبثت ليَالِي، ثمَّ لَقِيَنِي فَقَالَ: قد بدا لي أَلا أَتزوّج يومي هَذَا. قَالَ عمر: فَلَقِيت أَبَا بكر الصّديق فَقلت: إِن شِئْت أنكحتك حَفْصَة ابْنة عمر، فَصمت أَبُو بكر فَلم يرجع إِلَيّ شَيْئا، فَكنت مِنْهُ أوجد مني على عُثْمَان، فَلَبثت ليَالِي، ثمَّ خطبهَا النَّبِي ﷺ فأنكحتها إِيَّاه، فلقيني أَبُو بكر فَقَالَ: لَعَلَّك وجدت عَليّ حِين عرضت عَليّ حَفْصَة فَلم أرجع إِلَيْك شَيْئا؟ فَقلت: نعم.
قَالَ: فَإِنَّهُ لم يَمْنعنِي أَن أرجع إِلَيْك فِيمَا عرضت عَليّ إِلَّا أَنِّي قد كنت علمت أَن النَّبِي ﷺ قد ذكرهَا، فَلم أكن لأفشي سر النَّبِي ﷺ، وَلَو تَركهَا النَّبِي ﷺ لقبلتها.
يُقَال: انْفَرد معمر بقوله فِيهِ: إِلَّا أَنِّي سَمِعت رَسُول الله ﷺ يذكرهَا، وَسَائِر الروَاة يَقُولُونَ: علمت.
قَالَ فِيهِ الرَّاوِي عَن معمر: حُبَيْش بِالْحَاء الْمُهْملَة والشين الْمُعْجَمَة وَالْبَاء، وَهُوَ تَصْحِيف، لِأَنَّهُ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَالنُّون وَالسِّين الْمُهْملَة.
1 / 88
اختصر البُخَارِيّ حَدِيث معمر احْتِرَازًا مِمَّا وَقع للراوي فِيهِ، فَقَالَ: إِن عمر حِين تأيمت حَفْصَة من ابْن حذافة السَّهْمِي، وَلم يسمه، وقطعه عِنْد قَوْله: قَالَ عمر: فَلَقِيت أَبَا بكر فَقلت: إِن شِئْت أنكحتك حَفْصَة، لم يزدْ.
وَهَذَا الحَدِيث أَيْضا يذكر فِي مُسْند عمر لقَوْله فِيهِ: ثمَّ خطبهَا رَسُول الله ﷺ، فأنكحتها إِيَّاه.
٨ - الثَّانِي: عَن عبد الله بن عمر. عَن أبي بكر مَوْقُوفا أَنه قَالَ: ارقبوا مُحَمَّدًا ﷺ، فِي أهل بَيته.
٩ - الثَّالِث: فِي جمع الْقُرْآن:
عَن زيد بن ثَابت قَالَ: أرسل إِلَيّ أَبُو بكر مقتل أهل الْيَمَامَة، فَإِذا عمر جالسٌ عِنْده، فَقَالَ أَبُو بكر: إِن عمر جَاءَنِي فَقَالَ: إِن الْقَتْل قد استحر يَوْم الْيَمَامَة بقراء الْقُرْآن، وَإِنِّي أخْشَى أَن يستحر الْقَتْل بالقراء فِي كل المواطن، فَيذْهب من الْقُرْآن كثير، وَإِنِّي أرى أَن تَأمر بِجمع الْقُرْآن. قَالَ: قلت لعمر: وَكَيف أفعل شَيْئا لم يَفْعَله رَسُول الله ﷺ؟ فَقَالَ عمر: هُوَ وَالله خيرٌ. فَلم يزل يراجعني فِي ذَلِك حَتَّى شرح الله صَدْرِي للَّذي شرح لَهُ صدر عمر، وَرَأَيْت فِي ذَلِك الَّذِي رأى عمر.
قَالَ زيد - وَفِي رِوَايَة فَقَالَ لي أَبُو بكر:
إِنَّك رجلٌ شابٌّ عاقلٌ لَا نتهمك، قد كنت تكْتب الْوَحْي لرَسُول الله ﷺ، فتتبع الْقُرْآن فاجمعه. قَالَ زيدٌ: فوَاللَّه لَو كلفني نقل جبلٍ من الْجبَال مَا كَانَ أثقل عَليّ مِمَّا أَمرنِي بِهِ من جمع الْقُرْآن. قَالَ:
1 / 89
كَيفَ تفعلان شَيْئا لم يَفْعَله رَسُول الله ﷺ؟ فَقَالَ أَبُو بكر: هُوَ - وَالله - خيرٌ، قَالَ: فَلم يزل أَبُو بكر يراجعني. وَفِي أُخْرَى: فَلم يزل عمر يراجعني حَتَّى شرح الله صَدْرِي للَّذي شرح لَهُ صدر أبي بكر وَعمر.
قَالَ: فتتبعت الْقُرْآن أجمعه من الرّقاع والعسب واللخاف وصدور الرِّجَال، حَتَّى وجدت آخر سُورَة التَّوْبَة مَعَ خُزَيْمَة، أَو مَعَ أبي خُزَيْمَة الْأنْصَارِيّ، لم أَجدهَا مَعَ أحد غَيره. ﴿لقد جَاءَكُم رَسُول من أَنفسكُم (١٢٨)﴾ [سُورَة التَّوْبَة] خَاتِمَة " بَرَاءَة ".
قَالَ: فَكَانَت الصُّحُف عِنْد أبي بكر حَتَّى توفاه الله، ثمَّ عِنْد عمر حَتَّى توفاه الله، ثمَّ عِنْد حَفْصَة بنت عمر.
قَالَ بعض الروَاة فِيهِ: اللخاف يَعْنِي الخزف.
زَاد ابْن شهَاب عَن أنس: أَن حُذَيْفَة بن الْيَمَان قدم على عُثْمَان وَكَانَ يغازي أهل الشَّام فِي فتح أرمينية وأذربيجان مَعَ أهل الْعرَاق، فأفزع حُذَيْفَة اخْتلَافهمْ فِي الْقِرَاءَة، فَقَالَ حُذَيْفَة لعُثْمَان: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، أدْرك هَذِه الْأمة قبل أَن يَخْتَلِفُوا فِي الْكتاب اخْتِلَاف الْيَهُود وَالنَّصَارَى، فَأرْسل عُثْمَان إِلَى حَفْصَة: أَن أرسلي إِلَيْنَا بالصحف ننسخها فِي الْمَصَاحِف ثمَّ نردها إِلَيْك، فَأرْسلت بهَا إِلَيْهِ، فَأمر زيد بن ثَابت وَعبد الله بن الزبير وَسَعِيد بن الْعَاصِ وَعبد الله بن الْحَارِث بن هِشَام، فنسخوها فِي الْمَصَاحِف، وَقَالَ عُثْمَان للرهط القرشيين: إِذا اختلفتم أَنْتُم وَزيد بن ثَابت فِي شَيْء من الْقُرْآن فاكتبوه بِلِسَان قُرَيْش، فَإِنَّمَا نزل بلسانهم، فَفَعَلُوا، حَتَّى إِذا نسخوا الصُّحُف فِي الْمَصَاحِف رد عُثْمَان الصُّحُف إِلَى حَفْصَة، فَأرْسل إِلَى كل أفق بمصحف مِمَّا نسخوا، وامر بِمَا سوى ذَلِك من الْقُرْآن فِي كل صحيفَة أَو مصحفٍ أَن يحرق.
1 / 90