إن الفرد يرتبط - على نحو ما - بموضوع أو بفكرة، وتعتمد طبيعة الانتباه على طبيعة هذه العلاقة نفسها. ونحن نعترف بعجزنا عن السير في هذا التحليل أبعد من ذلك. وكل ما نستطيع أن نقول ونؤكده بصدد هذه العلاقة وهو أنها ليست مجرد سياق متتابع: «حين تكون فاعلا ... فإن ذلك يعني أنك «سبب حر ولست سببا طبيعيا»، أعني أنك لست مجرد حد في سلسلة متتابعة لا يدركها إلا الملاحظ وحده. لكنك تكون عالما يعيد تشكيل نفسه بفضل طبيعته وبفضل مضمونه، وأنت حين تفعل ذلك فإنك توسع من نطاق حدودك، وتمتص وتطبع بطابعك شيئا كان من قبل غريبا عنك.»
12 (12) ونعود الآن إلى الفعل وقد انتهى
act «الطرف الثاني الخارجي من الفعل»، الذي هو نتيجة الفعل ومحصلة العمل أو موضوع الانتباه؛ لأن موضوع الانتباه هو عمل انتهى، أو فعل تم في صورة فكرة أو حركة متكاملة. وبين أن نقابل في تمايز واضح بين الفعل وقد انتهى «أو نتيجة الفعل» وبين الحادثة. فكلاهما معا تغيرات تحدث في الوجود، ويمكن للمشاهدة ملاحظتها، لكن الفعل شيء عمل، في حين أن الحادثة من حوادث الطبيعة لا يمكن تصورها على هذا النحو، بل نتصورها فحسب على أنها شيء حدث. والتفرقة بين الفعل والحادثة التي تقع في العالم الخارجي لا تكمن في أي اختلافات فيما نلاحظه من تغيرات، وإنما تعتمد على نوع الحدوث. وبعبارة أوضح: إن التغير الذي نلاحظه لا يمكن أن نطلق عليه اسم الفعل إلا إذا قصد إليه فاعل وأحدثه، أما إذا افترضنا أن حدوثه لم يكن نتيجة قصد فاعل، أعني أنه يخلو من الغرضية، فهو في هذه الحالة يصبح حادثة وليس فعلا، ويمكن أن ننظر إلى وفاة شخص ما بطريقتين؛ أن ننظر إليها على أنها فعل، وأن ننظر إليها على أنها حادثة. فهي فعل، إن كان الفعل قصد إليها، كما هي الحال مثلا في عملية الانتحار، وهي حادثة، إن وقعت من غير قصد، كما هي الحال حين تدهمه سيارة في الطريق. ونحن نعرف أن الإنسان في مرحلته الأولى من التفكير - مرحلة التفكير البدائي - يميل إلى رد جميع أنواع التغيرات التي يشاهدها إلى فاعل ما، فما يشاهده من تغير في العالم الخارجي هو أيضا فعل قام به فاعل، سواء أكان هذا الفاعل بشرا مثله، أم كان إلها، أو ما شئت من قوى يتصور أنها فوق البشر وفوق الطبيعة، وهكذا يعتقد أن كل تغير في الوجود عبارة عن فعل، ويستبعد إمكان وقوع حادثة بغير فاعل قصد إخراجها إلى حيز الوجود. (13) إننا لا نستطيع - إذا فحصنا التغيرات التي يمكن أن نلاحظها - أن نجد فرقا بين الفعل والحادثة ما لم يظهر هذا الفارق عن طريق الفاعل نفسه، الذي يخبر الفعل في الحالة التي يكون فيها التغير نتيجة لفعل قام به. وإذا لم يكن ثمة فاعل يخبرنا أن التغير الثلاثي كان نتيجة لفعله هو، فإنه من المستحيل أن نقدم دليلا حاسما يقطع بأن التغير المشار إليه هو فعل وليس حادثة. غير أننا غالبا ما نعتمد على خبرتنا الخاصة في الحكم بأن التغيرات الفلانية التي حدثت في العالم الطبيعي قد تضمنت فعلا مشابها لفعلنا، هو الذي أخرجها إلى حيز الوجود، فأنا أستطيع أن أقول - وأنا على يقين تقريبا من صدق قولي - إن الكتابة الموجودة أمامي الآن على الورق هي فعل لفاعل ما؛ لأنني قد خبرت بالفعل مثل هذا العمل. لكنني لا أستطيع مطلقا أن أكون على مثل هذا اليقين، حين أحكم بأن التغير الفلاني هو حادثة وليس فعلا أحدثه فاعل؛ لأن اعتمادي على خبرتي في مثل هذه الحالات لن يكون سوى اعتماد سلبي، بحيث تكون حجتي على النحو التالي: إن ذلك التغير لا يمكن أن يكون فعلا أحدثه فاعل، لأنني في خبرتي الشخصية لم يحدث لي قط أن قمت به، كلا، ولم أر شخصا آخر يحدث مثل هذا التغير، صحيح أن في استطاعتي أن أقطع في يقين بأن التغيرات ليست أفعالا أحدثتها موجودات بشرية، مثل الكسوف الذي يحدث للشمس أو الشهب التي تنقض من السماء، غير أن ذلك لا يجعلنا ننتهي إلى القول - في حسم قاطع - إنها ليست فعلا لفاعل أعلى من الإنسان. ومهما يكن من شيء فإن مرجعنا باستمرار هو خبرتنا الخاصة بالفعل - سواء أكانت خبرة مباشرة أم غير مباشرة - حين نحكم على بعض التغيرات في العالم الطبيعي بأنها فعل وليست حادثة. (14) ومن المهم أن نلاحظ أننا حين نقول عن بعض التغيرات التي نلاحظها إنها فعل، فإن ذلك يعني بالتالي تفسيرا لها، لكن إذا قلنا إنها حادثة، فإن ذلك يعني إما أنها لا يمكن تفسيرها، أو أنها تحتاج إلى تفسير أبعد «إن ميل الجنس البشري، بصفة عامة، هو ألا يقنع ولا يكتفي بأن يعرف أن واقعة من الوقائع هي بشكل دائم مقدمة يعقبها واقعة أخرى تكون نتيجة لها، لكنه يسعى إلى البحث عن شيء آخر، عساه أن يفسر له وضعهما هذا.»
13
ويقول «مل» معلقا على أحد النقاد الذين يذهبون إلى أن الإغريق أرادوا أن يعرفوا السبب في أن مقدمة فيزيائية معينة لا بد أن ينتج عنها نتيجة خاصة - فيقول: «لم يكن الإغريق وحدهم هم الذين بحثوا عن مثل هذه المبررات، فمن بين الفلاسفة المحدثين نجد ليبنتز يضع مبدأ اعتبره بديهية يقول: إن جميع الأسباب الفيزيائية، بغير استثناء، لا بد أن تحوي في طبيعتها الخاصة شيئا يجعل من الواضح جدا أنها لا بد أن تكون قادرة على إحداث النتائج التي تحدثها.»
14 (15) والقول بأن وقوع حادثة من الحوادث لا يفسر نفسه بنفسه، وإنما يحتاج إلى شيء آخر يفسره، هو الذي أدى إلى ظهور فكرة السببية، ويمكن أن نصور الطريقة التي ظهرت بها هذه الفكرة على النحو التالي: إذا لم يكن هذا التغير الذي حدث فعلا لفاعل، فإننا لا بد في هذه الحالة أن نبحث عن مصدر آخر له: «والاسم الذي أطلق في الفكر الحديث على هذا المصدر البديل للتغير هو كلمة «السبب»، وفكرة السبب هي فكرة مصدر آخر للتغير غير الفاعل، وهو مصدر لا يتضمن قصدا. ومعرفة الفرق بين الفاعل والحادثة - يظهرنا على أن القضية القائلة بأن: «لكل حادث سببا» تتناقض تناقضا صارخا مع القضية التي تقول: «ليس ثمة سبب للفعل». والواقع أنه إذا كان «كل فعل ليس حادثة»، و«كل حادثة ليست فعلا» قضايا صادقة، وإذا كانت كلمة السبب تعني مصدرا للتغير غير الفاعل، فإن هاتين القضيتين في هذه الحالة تتضمن كل منهما الأخرى ، وينتج من ذلك أنه ليس ثمة تناقض قاطع حين نتحدث عن سبب للفعل؛ لأننا حين نفعل ذلك، فإننا نعني أن ما نتحدث عنه ليس فعلا
action .
15 (16) ومن الجدير بالذكر أن فكرة السببية - كما شرحناها فيما سبق - فكرة تناقض نفسها بنفسها، ويبدو أن هذا هو السبب في أن العالم يحاول الآن أن يتخلص منها تماما، وأن يحل محلها فكرة القانون، على اعتبار أن القانون ليس إلا وصفا لتتابع منظم للحوادث كما نلاحظها. وذلك لأن الفكرة التي تقول إن للحادثة سببا هو الذي أحدثها هي: «محاولة للتفكير في الحادثة بطريقة مماثلة للتفكير في الفعل، بينما نحاول في نفس الوقت أن ننكر أنه يمكن ردها إلى فاعل، فالسبب هو المسئول عن وقوع الحادثة، وهو في نفس الوقت شيء غير الفاعل، وبالتالي لا يمكن أن يكون مسئولا عن شيء، ولا يمكن أن يحدث شيئا. وهكذا نجد أن السبب هو - في آن معا - فاعل وغير فاعل.»
16 (17) والتفرقة بين الأفعال والحوادث لها أهميتها البالغة بالنسبة للمذهب الجبري؛ إذ من المستحيل - كما لاحظنا من قبل - أن نفرق عن طريق الملاحظة الخارجية، بما هي كذلك، بين التغير الذي نعتبره فعلا، والتغير الذي نعتبره حادثة. فليس ثمة شيء يمكن ملاحظته في التغير، بحيث يجعلنا ننسبه تماما إلى فعل فاعل. وهذه الحقيقة تجعل من الممكن للفيلسوف الجبري أن يزعم أن جميع التغيرات ليست إلا سلسلة من الحوادث التي تتشكل منها قوانين الطبيعة عن طريق الملاحظة التجريبية لانتظام تتابعها. ومثل هذا الزعم لا يمكن تفنيده من الناحية المنطقية، طالما أن التغيرات التي نبحثها لا تشملني بوصفي فاعلا، فأنا بوصفي فاعلا أكون على يقين تام من أن نتائج نشاطي الخاص ليست مجرد حوادث. «وهذا لا يعني سوى القول بأنه من الممكن قبول موقف الفيلسوف الجبري دون أن يكون من الممكن تفنيده من الناحية المنطقية، اللهم إلا في نقطة واحدة - وهي النقطة التي يشملني فيها تقرير المذهب الجبري بوصفي فاعلا لفعل. فعند هذه النقطة يكون تقرير المذهب الجبري ليس تقريرا على الإطلاق، طالما أن الجبرية هي إلغاء للقصدية ، والتقرير غير القصدي ليس إلا لغوا.»
17 (18) الذات هي الفاعل السيكوفيزيقي بمقدار ما ينتبه إلى شيء ما، فهو حين ينتبه يفعل، ونشاطه نفسه يعني أنه سبب كاف لما ينتج عن فعله: «يقال عن السبب أنه «كاف» للنتيجة، إذا كان من الممكن إدراكه بوضوح وتميز بوصفه سببا لهذه النتيجة وحدها: ويقال عن السبب إنه «غير كاف» أو «ناقص» بالنسبة للنتيجة التي لا يمكن أن تفهم من خلاله هو وحده فحسب. وبالتالي فإذا ما وقع حادث لذهننا أو جسمنا واستطعنا أن نفهم في وضوح وتميز أنه نتيجة لطبيعتنا الجوهرية وحدها، فإننا نكون في هذه الحالة سببه «الكافي».
Неизвестная страница