ويقول أيضا في هذا المعنى نفسه: قالت الفلاسفة بأن الكتابة دالة على ما في اللفظ المنطوق، واللفظ دال على ما في الفكر، وما في الفكر دال على ماهية الأشياء.
13 (4) ميزان الحروف
لو بلغت اللغة حد كمالها المنطقي - هكذا قال جابر بن حيان، وهكذا يقول رودلف كارناب أمام الوضعية المنطقية اليوم
14 - لجاءت مفرداتها مقابلة تمام المقابلة لما في الطبيعة من أشياء بما لها من صفات وما بينها من علاقات، بحيث لا تدل الكلمة الواحدة إلا على مقابل طبيعي واحد، كما أنه لا يقابل الشيء الواحد في الطبيعة إلا كلمة واحدة في اللغة، فعندئذ لا تجد كلمة تدل على أكثر من مسمى واحد، كما لا تجد شيئا واحدا يشار إليه بإحدى كلمتين على حد سواء؛ في مثل هذه اللغة الكاملة منطقيا لا يكون ازدواج معنى ولا يكون غموض، وفي هذا نفسه يقول جابر بن حيان: «إن المسمي للأشياء بهذه الأسماء قد ترك أشياء كثيرة بلا أسماء البتة، وسمى أشياء كثيرة باسم واحد، وسمى شيئا واحدا بأسماء كثيرة، فقال في السيف: السيف والصمصام والباتر والحسام وأمثال ذلك، وجعل في الأول كاسم العين دالا على معان كثيرة؛ كالعين المبصرة وعين الماء وعين الشمس وأمثال ذلك.»
15
ويلاحظ جابر أن اللغة كما هي قائمة لا تجعل الأسماء وفاق المعاني وبقدر عددها؛ إذ يزيد فيها مقدار المعاني على مقدار الأسماء زيادة كبيرة.
وإن جابرا ليتصور الأمر على نحو ما يتصوره فلاسفة التحليل في عصرنا هذا؛ إذ يشترط - لكي يكون للكلام معنى - أن يكون له مقابل في الطبيعة، فهو يقول: «الأشياء كلها تنقسم قسمين: إما نطق وإما معنى (= إما كلام وإما مدلولاته)، والكلام الذي لا معنى تحته فلا فائدة فيه.»
16
بل إنه كذلك ليتفق مع فلاسفة التحليل المعاصرين في حقيقة بالغة الأهمية، ألا وهي أن رجل الفكر العلمي والفلسفي لا يعنيه من اللغة إلا ما كان منها ذا قسيم مقابل في جانب الطبيعة الخارجية، أعني أن يكون مخبرا بخبر ما عن شيء ما في العالم الخارجي؛ وذلك لأن من اللغة تركيبات ينطق بها صاحبها لا لينبئ سامعه بنبأ عن أشياء الدنيا المشتركة بينهما، بل ليعبر له عن حالة وجدانية تضطرب بها نفسه من داخل؛ كأن يتوجع أو يتمنى أو أن يأمر وينهى. والحق أن رجال المنطق العقلي منذ نشأ هذا المنطق لم يفتهم أن يضعوا هذه الحدود التي تفرق بين ما هو فكر وما ليس هو بفكر، حين قالوا إن وحدة الفكر هي «القضية» والقضية هي ما يجوز أن يقضى فيها بحكم عليها إما بأنها صادقة وإما بأنها كاذبة؛ وبطبيعة الحال لا يكون الصدق أو الكذب ذا معنى مفهوم إلا إذا وصف به نبأ يقرر به صاحبه تقريرا ما عن شيء ما، أما إذا تمنى أو أمر أو نهى أو صرخ صرخة ألم أو ضحك ضحكة مسرور، فليس هذا مما يقال عنه إنه صدق أو كذب. وبعبارة مختصرة، لا يكون الكلام تفكيرا علميا وفلسفيا إلا إذا كان أحكاما على أمور الواقع، وأما ما كان منه تعبيرا عن ذات النفس من داخل فهو أدب وفن وليس علما ولا فلسفة.
هذا المعنى نراه في قول جابر عن أقوال اللغة إنها مما لا تدخل في اختصاص الفلاسفة إذا كانت أمرا أو نهيا أو طلبا أو تمنيا أو ما إلى ذلك؛ وأما إذا كانت تحمل خبرا ففيها عندئذ الفائدة العظمى، «وقد ينقسم القول إلى المبتدأ والخبر؛ وأما الخبر فهو الذي فيه الفائدة العظمى ... وهو الذي يحتمل الصدق والكذب، وفيه تدفن العجائب من الكلام، من المحال والحق؛ ومن لم يحسن يقين الأخبار، ويقايس بعضها ببعض، فإنه عري من علم الفلاسفة والفلسفة ...»
Неизвестная страница