وصحة الجسم هي في اعتدال هذه الأشياء كلها في مزاج متزن.
وفي أقسام الدماغ يقول جابر إنها ثلاثة: الأول هو المسامت للوجه ويقال له بيت الخيال، والأوسط وهو بيت الذكر، والثالث في مؤخرة الدماغ ويقال له بيت الفكر؛ وأي هذه فسد فسد ذلك الشيء المحدود به، حتى يفسد الخيال والفكر والذكر.
14
وهكذا يتناول جابر أجزاء الجسم التي ذكرها أول الأمر مجملة فيحللها إلى أقسام والأقسام إلى أقسام فرعية وهكذا.
وبمثل هذه الإفاضة يتحدث عن بقية العلوم السبعة: علم الصنعة، وعلم الخواص، وعلم الطلسمات، وعلم استخدام الكواكب العلوية، وعلم الطبيعة، وعلم الصور، مما سيرد ذكره في مواضعها المناسبة في هذا الكتاب.
سر اللغة وسحرها
(1) اللغة والعالم
سؤال طرحه الفلاسفة على أنفسهم طرحا صريحا أو متضمنا، وما يزالون يطرحونه إلى يومنا هذا، وهو هذا: إلى أي حد نستطيع أن نستدل طبيعة العالم الخارجي من طبيعة اللغة التي نتحدث بها عن ذلك العالم؟ ها نحن أولاء قد أنشأنا لأنفسنا مجموعة ضخمة من رموز - هي الكلمات - واتفقنا معا على الطريقة التي نبني بها هذه الرموز فتكون جملا مفهومة ينطق بها المتكلم فيفهم عنه السامع؛ وواضح أن هذه المجموعة الرمزية الضخمة، وهي تختلف باختلاف الجماعات البشرية؛ إذ إن لكل جماعة منها لغتها الخاصة بها في عمليات التفاهم بين أبنائها، واضح أن هذه المجموعة الرمزية الضخمة - أعني اللغة - ليست هي نفسها الأشياء التي جاءت تلك الرموز لترمز إليها؛ فليست «كلمة» خبز هي الخبز نفسه الذي يؤكل، ولا «كلمة» الماء هي الماء الذي يروي الظمأ؛ فالرمز اللغوي شيء والمرموز إليه شيء آخر. وإذا ما تكاملت لدينا لغة للتفاهم، كان لدينا جانبان مختلفان هما: هذه اللغة من ناحية، ثم العالم الخارجي الذي تتحدث عنه بهذه اللغة من ناحية أخرى. أقول إن هذه الثنائية بين رموز اللغة وبين أشياء العالم الخارجي المرموز إليها برموز اللغة، هي من الوضوح بحيث لم تكن تستدعي منا ذكرا وتوضيحا؛ ولكن ما ظنك وهذه الحقيقة الواضحة كثيرا ما تحتاج إلى لفت الأنظار إليها، ثم هذه الأنظار لا تلتفت إلا بعد جهد شديد؟ فكأنما اللغة هواء شفاف لا يحجب الأشياء التي وراءه، فنحسب أن لا هواء بيننا وبين تلك الأشياء.
ونعود بعد هذا إلى سؤالنا الأول: إلى أي حد نستطيع أن نستدل طبيعة العالم الخارجي من طبيعة اللغة التي أنشأناها لنرمز بها إلى ذلك العالم؟ في هذا يختلف الفلاسفة - أو معظمهم - فينقسمون إزاءه فئات ثلاثا: (1)
فريق يستدل خصائص العالم من خصائص اللغة؛ فإن كان تركيب الجملة - مثلا - لا يكون إلا بتوافر جانبين، هما: المسند إليه من جهة والمسند من جهة أخرى، فلا بد أن تكون أشياء العالم على هذا النحو من التأليف، فيكون لكل شيء جوهره من جهة والخصائص التي تطرأ على ذلك الجوهر من جهة أخرى، وكذلك إذا كان في اللغة كلمات مختلفة النوع، فلا بد أن تكون مسمياتها مختلفة أيضا؛ فهنالك - مثلا - أسماء جزئية وأسماء كلية، فلا بد أن يكون في العالم الخارجي ما يقابل هذه وتلك؛ ففيه كائنات جزئية، وفيه أيضا كائنات كلية، وهذا هو بعينه ما دعا «أفلاطون» إلى افتراض وجود عالم بأسره لهذه الكائنات الكلية - أسماه بعالم الأفكار أو بعالم المثل - إلى جانب عالمنا هذا المادي الذي كل ما فيه أفراد جزئية ... هكذا تستطيع أن تمضي في مفردات اللغة وفي طرائق تركيبها، فتستدل من كل مفرد لغوي ومن كل تركيب ماذا ينبغي أن يكون مقابلا له في عالم الأشياء؛ وفريق الفلاسفة الذين يرتكزون على طبيعة اللغة ليفهموا طبيعة العالم هم: أفلاطون، واسبينوزا وليبنتز، وهيجل، وبرادلي
Неизвестная страница