وأيا ما كانت الأسباب التي تشفع لي أو لا تشفع لي هذا الصنيع، فها أنا ذا قد صنعت ما صنعته، متقدما به إلى كل قارئ يود أن يذوق بطرف اللسان حسوة من عالم عربي أصبح اسمه في تاريخ العلم مرتبطا بعلم الكيمياء ارتباطا شديدا، لا في الشرق العربي وحده، بل وفي أوروبا كذلك، التي لم تكد تعرف جامعاتها مراجع تدرس في علم الكيمياء حتى القرن الخامس عشر إلا كتب جابر بن حيان.
كان جابر - شأنه في ذلك شأن رجال العصور الوسطى جميعا، يستمد أصوله الفكرية من تراث اليونان، ثم يبني عليها ما شاءت له قدرته أن يبني من علم جديد. ومن التراث الفلسفي اليوناني أخذ جابر فكرة الطبائع الأربع الأولية التي منها نشأت الكائنات جميعا، وهي: الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة؛ ولو قلنا ذلك بلغة اليوم لقلنا إنها الحرارة بدرجاتها المختلفة والصلابة بدرجاتها المختلفة، وإذا كانت الحرارة في جوهرها حركة، وإذا كانت الصلابة في جوهرها تقاربا في ذرات الجسم الصلب، فالأصول الأولية - بلغة اليوم - هي حركة الذرات، التي إن ازدادت سرعة كانت حرارة، وإن قلت سرعة كانت برودة، وإن تزاحمت كانت صلابة، وإن تباعدت كانت ليونة - ومهما يكن من أمر، فقد أخذ جابر عن التراث اليوناني هذه الطبائع الأولية الأربع، وجعلها أصلا للكائنات جميعا.
هذه الطبائع الأربع الأولية تجتمع اثنتين اثنتين فتكون أجساما أربعة: فالحرارة واليبوسة معا يكونان النار، والحرارة والرطوبة معا يكونان الهواء، والبرودة واليبوسة معا يكونان الأرض، والبرودة والرطوبة معا يكونان الماء؛ وليس في الطبيعة كائن يخلو تركيبه من أن يكون واحدا من هذه الأجسام، أو مزيجا مركبا منها، لا فرق في ذلك بين جماد ونبات وحيوان إلا في نوع المركب ودرجة التركيب.
وإذا كانت أصول الأشياء مشتركة بينها جميعا، جاز أن نحول بعضها إلى بعض، لا نحتاج في ذلك إلا إلى دراسة الجسم الذي نريد تحويله والجسم الذي نريد الحصول عليه، لنرى فيم يتفقان وفيم يختلفان، فنضيف الناقص ونحذف الزائد حتى نحصل على ما نريد الحصول عليه.
ولعل أهم ما شغل جابرا من ذلك هو تحويل المعادن بعضها إلى بعض؛ ونظريته في ذلك مؤداها أن للمعادن مقومين أساسيين هما: الكبريت والزئبق - وهذان بدورهما قد تكونان في جوف الأرض على مر الزمن الطويل من العناصر الأساسية: النار والهواء ... إلخ، وما من معدن بعد ذلك إلا وهو تركيب من زئبق وكبريت بنسب مختلفة؛ وعمل الكيموي في تحويل المعادن هو نفسه عمل الطبيعة في تكوينها، لولا أن الطبيعة قد استغرقت آمادا طوالا في تكوين ما كونته من ذهب وفضة ونحاس وغيرها، على حين يستطيع العالم بتجاربه أن يختصر الزمن إلى برهة وجيزة - وكيمياء جابر هي تفصيل القول في هذه التجارب.
لكن جابرا لم يكن كيمويا وكفى، بل كان كذلك فيلسوفا، يتصور الأمور كما يتصورها الفلاسفة من حيث محاولتهم أن يجمعوا أشتات الكون في بنية واحدة، يبحثون لها عن مبدأ أول ثم يفرعون منه الفروع، وهكذا فعل جابر، فله محاولة من هذا القبيل يدعمها بجدل فلسفي من الطراز الأول.
وقد قسمت هذا الكتاب تسعة فصول لأصور بها جابرا من شتى نواحيه، تصويرا تعتمد فيه الأجزاء بعضها على بعض؛ فحاولت في الفصل الأول أن أعرف شيئا عن شخصه متى عاش، وبمن تأثر، وأي كتب ألف؟ وفي الفصل الثاني والفصل الثالث معا ألقيت الضوء على منهجه العلمي، حتى تسهل المقارنة بعد ذلك بينه وبين فلاسفة المناهج العلمية الذين ألفنا دراستهم في هذا الباب؛ وفي الفصل الرابع تحدثت عن فلسفته اللغوية لأهميتها الشديدة بالنسبة إلى نظرياته الكيموية؛ وذلك لأن الرأي عند ابن حيان هو أن الاسم دال على طبيعة مسماه، فالعلاقة وثيقة بين اللغة من جهة والطبيعة من جهة أخرى، فلا مندوحة لمن أراد تصريف الأشياء الطبيعية عن معرفة الأسماء والعبارات التي جاءت لتدل على تلك الأشياء، وهي لم تجئ جزافا، بل جاءت من إملاء العقل الذي اهتدى بطبيعة المسمى قبل أن يضع له اسما يدل عليه؛ فإذا ما فرغنا من فلسفته اللغوية، خرجنا إلى حيث الكون الخارجي، وقد جعلنا الفصل الخامس مجالا لذكر فلسفة جابر الكونية، وألحقناه بالفصل السادس عن البروج والكواكب التي فضلا عن كونها جزءا من الكون واجب الدراسة لذاته، لكنها أيضا ضرورية لدراسة طبائع الأشياء نفسها، ما دامت البروج والكواكب تحدد الزمن، والزمن أمر حيوي في تكوين أي شيء مهما كانت طبيعته. وهنا نجد الطريق قد مهد تمهيدا صالحا لنبدأ الحديث في أخص خصائص جابر بن حيان، ألا وهو علم الكيمياء عنده، وقد تحدثنا عنه في الفصل السابع؛ وأردفناه بفصل يصور جابرا الفيلسوف، ثم ختمنا الكتاب بفصل تاسع وأخير يبين كيف لم يسلم هذا العالم من شطحات الخيال.
وأنه لواجب علينا في هذا المقام أن نحيي ذكرى «بول كراوس» الذي لولا ما قدم إلينا من مخطوطات لجابر، جمعها من مختلف المكتبات في أوروبا، ونشرها في كتاب «مختار رسائل جابر بن حيان»، وذلك بالإضافة إلى مجلدين ألفهما في جابر بن حيان، تحدث فيهما حديثا مستفيضا عن كتبه ومذهبه، أقول إنه لولا هذه الآثار العلمية الجليلة التي تركها «كراوس»، لكانت الكتابة عن ابن حيان - بالنسبة لي على الأقل - ضربا من المحال؛ فقد اعتمدت كل الاعتماد على مجموعة المختارات التي نشرها من رسائل جابر، بالإضافة إلى ما هو موجود من رسائله في دار الكتب بالقاهرة مما لم ينشره «كراوس»، وهو قليل.
فلست أطمع في أن يعد كتابي هذا عن جابر بن حيان أكثر من محاولة متواضعة لإلقاء يسير من الضوء على حقيقته، وهي - فيما أعلم - أول محاولة من نوعها لمؤلف عربي.
زكي نجيب محمود
Неизвестная страница