إنها لمأساة عظمى، أن تقوم «الثورة» لتعهد لمن «يجمدون» الأوضاع التي كان من المفروض حتى بدون ثورة أن تتطور، يجمدون «التطوير» نفسه، فما بالك بالثورة، أعلى وأحد وأخطر أنواع التطوير؟!
أنا أزاول السياسة كصحفي
محمد حسنين هيكل
سريع الحركة، سريع الفهم، سريع الإجابة، ومن الثانية الأولى تجد نفسك منجذبا إلى ملامحه الدائمة التغير والانفعال، المشحونة بكم وافر من الاطلاع وحب الاستطلاع، وبالكاد تستطيع أن تسمعه وتتابع حديثه؛ فحديثه عاجل ناعم حاسم مستمر كدقات تلغراف مبطن بالقطيفة. وإذا أردت أن تتكلم أنت، يلمحك، فيقطع عليك التهيؤ وترتيب الأفكار وأي مقدمات قد تفكر فيها، ويقول: شوت؛ أي تكلم!
فالكلام عنده ليس بضاعة ولا يقاس بالأمتار، الكلام كرة ككرة الباسكت، يجب أن تحرك باستمرار، فإذا تلكأت احتسبت «فاول» وارتبكت أنت، وقد يستمر ارتباكك جزءا من الثانية ولكنك تحس فيه أن الوقت ثمين حاد يصفر صفارة طويلة يوقفها هو بابتسامة خاطفة وبكلمة منخفضة ناعمة أخرى، شوت. وبلا وعي تشوت، ويشوت، وتندمج، وتختفي الكلمات من فرط سرعتها، وتصبح مجرد تيار فكري متواصل يكون دائرة مغلقة بينك وبينه، دائرة تكهربك، وتدفعك لمجاراته ومتابعة أفكاره، وإذا بك بعد دقائق قد أصبحت مثله، سريع الحركة سريع الفهم سريع الأخذ والرد والإجابة والاستجابة.
ذلك هو محمد حسنين هيكل أصغر من تولى رئاسة تحرير الأهرام، وأخطرهم، وأكثرهم مشغولية؛ فمشغول هي الكلمة التي ترددها دائما الآنسة نوال سكرتيرته أدق وأبرع سكرتيرة في القاهرة وربما في الدنيا، تقولها حتى لنسمات الهواء إذا أرادت دخول حجرته؛ ولهذا فالهواء يفضل طريق النوافذ وآلات التكييف.
قلت له وأنا أكح من السيجار الذي عزم علي به، نتحدث بصراحة؟ - شوت. - ما رأيك في «الجمهورية»؟ - سؤال محرج في الحقيقة. ولكن أتريد رأيي؟ الجمهورية تمثل بحكم وضعها فكرة الثورة وهي تقوم بأخطر تجربة في الصحافة العربية، أنا لا أوافق من يقولون إن أرقام التوزيع مبالغ فيها. الأرقام فعلا حقيقية. والجمهورية ارتفع توزيعها في الفترة الأخيرة ستة أضعاف وربما سبعة، ولكن الأهرام لم تتأثر أبدا بهذه الزيادة الهائلة، بل الحقيقة أن توزيعها ارتفع هو الآخر. - وعيوبها؟ - لا لا لا. هذا كثير. لنفرض أني ذكرت بعض العيوب فهل تنشر جريدة نقدا لها على صفحاتها؟ - الجريدة القوية تفعل. - المشكلة ليست مشكلة عيوب، المشكلة هي الاحتفاظ بهذا العدد الوافر من القراء، إذا ظلت الجمهورية توزع هكذا، فلن يعتبر نجاحها هذا نجاحا لها فقط، ولكنه نجاح للصحافة العربية كلها. - كيف، ونجاح جريدة قد يغلق أخرى؟ - بالعكس، الجرائد كالمذاهب، كالأحزاب، كالآراء، لا تلغي بعضها بعضا، الواقع أنها تقوي بعضها الآخر، ونحن هنا لا زلنا في حاجة لجرائد ناجحة أخرى. - وأين تضع صحافتنا من صحافة العالم في رأيك؟ - صحافتنا متقدمة جدا، دعك من بريطانيا وخذ باقي أوروبا وآسيا وأفريقيا حتى اليابان، تجد جرائدنا ومجلاتنا لا تكاد تبارى. - في الماضي كانت صحافتنا حافلة بمعارك الهجوم والنقد، والآن تغيرت الحال، فماذا حدث؟ - تقصد الهجوم على الحكومة مثلا. أنا معك أن هذا غير موجود الآن؛ فزمان كان باستطاعتك أن تهاجم رئيس الوزراء لأنه يستغل نفوذه ويعطي تصاريح استيراد لابن أخته مثلا لأن هذا كان يحدث فعلا، أما الآن فدلني على رئيس الوزارة أو الوزير الذي يستغل نفوذه. في الماضي كانت الصحافة تهاجم الحكومات لأن الحكومات كانت تخون وتتهادن وتتهاون، أما اليوم فالحكومة على رأس الشعب في محاربة الاستعمار، وتجتث الفساد حتى قبل أن يصل خبره إلى الصحافة، فلماذا الهجوم عليها؟ النقد موجود والصحف حافلة بالانتقادات الموجهة للوزارات والمصالح التي يحدث فيها ما يستحق النقد. أعتقد أن تساؤلك هذا يدور في بعض الأذهان التي لم تستوعب التغير الذي حدث فينا ولنا، التي تفكر وكأننا لا نزال في عصر الأحرار الدستوريين والكتلة، لقد خلفنا وراءنا هذه المرحلة بمسافات طويلة جدا. إنهم لا يزالون يعيشون في أول القصة، بينما الأحداث تطورت والفصول توالت، فكيف يريدوننا أن نعود معهم لنحيا في البداية؟ - بمناسبة القصة ما رأيك في تجربة نشر قصص مسلسلة في الجرائد اليومية؟ - تجربة ناجحة تماما، بدليل أننا نشرنا أولاد حارتنا لنجيب محفوظ. - وما رأيك في أولاد حارتنا؟! - ألم أقل إني تحمست لها، ونشرتها؟! - كأستاذ لفن التحقيقات الصحفية والسياسية، وأول من كتبها في الصحافة العربية. ترى هل جاء اختيارك هذا عن عمد، أم كانت هناك نقطة تحول؟ - محاضرة استمعت إليها وألقاها مراسل حربي كان قد حضر الحرب الأهلية الإسبانية ومر بالقاهرة، بينما كان يتحدث عن العمل الصحفي في الميدان هتفت بكل ما في نفسي: هذا ما أريد أن أكونه. - وبالضبط ماذا كنت تريد؟ - الصحافة إلى ذلك الوقت (أواخر الحرب العالمية الثانية) كانت إما أخبارا يجمعها المندوبون، وإما مقالات يكتبها كتاب، أو تعليقات على الأخبار أو الأحداث يكتبها كبار الصحفيين. بالاختصار كان الخبر هو الذي ينتقل إلى الصحفي في جريدته أو مكتبه أما أن ينتقل الصحفي إلى مكان الخبر أو الحوادث ليرى ويدرس ويجمع المعلومات ثم يكتبها في تحقيق صحفي لجريدته، فنوع من الصحافة لم يكن قد عرف بعد. وهكذا حددت منذ البداية هدفي، وبدأت كمخبر حوادث، وأول سلسلة من التحقيقات الصحفية قمت بها في أخبار اليوم كانت عن الخط وعصابته المشهورة في الصعيد، وبعدها عن وباء الكوليرا، ثم عن حرب فلسطين، ثم الحرب الأهلية في شمال اليونان، ثم كوريا عام 50، والصين والهند الصينية، وإيران وتأميم البترول وعبدان وعزل مصدق، وقامت الثورة وأنا رئيس تحرير آخر ساعة فتركت المكتب وانتقلت وراء أخبارها وتحركاتها في كل مكان. - وحققت كل أحلامك؟ - بعضها. - ألم تحلم بشيء آخر غير الصحافة؟ - أبدا. - وما هي أحلامك للمستقبل؟ - الصحافة أيضا. - أليس من المحتمل أن تعمل بالسياسة؟ - لا أريد، ابتعدت في الماضي وأعتقد أن موقفي لم يتغير. - ولكنك بما تكتبه تقوم بدور سياسي فعلا؟ - أنا أزاول السياسة كصحفي، ولكني أبدا لا أزاول الصحافة كسياسي. - وما الفارق؟ - هو الفارق بين الصحافة والسياسة، وأنا لا أستطيع أن أعمل إلا بالصحافة؛ فهي ليست بالنسبة إلي مجرد عمل، أو هواية، أو أكل عيش، إنها حياتي، إنها أنا.
قابلت سارتر في «الكافتريا»
سارتر
قاعة «الكونزرت هاوس» في فيينا. مؤتمر وناس قادمون من جميع أنحاء العالم ولجان تجتمع وتتخاصم، وحركة دائبة بأعلام جميع الدول، والشعارات الزرقاء وملابس الرجال والنساء كأنها كرنفال، والوجوه والملامح متحف حي متحرك يعرض صورا للإنسان في كل مكان من قشرة الأرض.
Неизвестная страница