Истишрак
نقد الاستشراق وأزمة الثقافة العربية المعاصرة: دراسة في المنهج
Жанры
ولأضرب مثلا بكتاب عن الاستشراق لواحد من ممثلي هذه الفئة، ليس بالقطع أفضل ما ظهر عن الموضوع، ولكنني اخترته لأنه من أحدث هذه الكتب فحسب؛ فمؤلف كتاب «أضواء على الاستشراق»
1
يذهب صراحة إلى أن أفضل المستشرقين هم الذين اعتنقوا الدين الإسلامي، وأسوأهم هم «اليهود والماركسيون والمبشرون»، أما القيمة العلمية لأعمال هؤلاء فلا تهمه في كثير أو قليل، بل إنها قد تكون سببا لمهاجمة المستشرق (كما حدث في حالة مرجليوث وجب وجلود تسيهر)؛ لأن تفوق المستشرق علميا يضفي على آرائه مزيدا من قابلية التصديق، على حين أن هدفه الأصلي هو التشكيك في الإسلام، بل إنه يدين مؤلفين امتدحهم معظم الكتاب العرب بعد أن أحدثوا ضجة دعائية كبيرة بمؤلفات كانت توصف عادة بأنها «منصفة»، أي قريبة من وجهة النظر الإسلامية، كما حدث في حالة توينبي، الذي لم يغفر له المؤلف تفسيراته «الدنيوية» لكثير من الحقائق والوقائع الدينية الإسلامية، على الرغم من إعجاب الكثيرين به بسبب مواقفه الصريحة المعادية للصهيونية.
2
ومثل ذلك يقال عن موقف المؤلف من «زيجريد هونكه»، مؤلف كتاب «شمس الله (أو شمس العرب) تسطع على الغرب»، وهو الكتاب الذي لا يكف المؤلفون العرب في السنوات الأخيرة عن الاقتباس منه بوصفه شهادة من الغرب على أمجادنا الحضارية وضخامة الدين الذي تدين به الحضارة الغربية للعلم والفكر الإسلامي. فهو يهاجمها بدورها لأنها ربطت في بعض المواضع بين الإسلام وبين العقائد القديمة، ولأنها نسبت إلى ابن زكريا الرازي أقوالا فيها هرطقة ضد الإسلام (ولم يكلف المؤلف نفسه مشقة التحقق من مدى صحة هذه الأقوال). وهكذا يدرجها ضمن أولئك الذين «دسوا السم» في إطار من الإنصاف، لكي «يمرروا» أحكامهم الباطلة من خلال موضوعيتهم الظاهرية.
3
وإذا كان هذا الناقد قد هاجم بعض المستشرقين الذين قدموا أحكاما إيجابية عن الإسلام، على أساس أنهم حاولوا مهاجمة الإسلام من الأبواب الخلفية، واتخذوا من مدحهم وسيلة لتسريب تفسيرات علمانية لموضوعات العقيدة الإسلامية، فإن هناك ناقدا آخر يسير في الاتجاه العكسي، ولكنه يعبر عن الموقف الأساسي نفسه. ففي كتاب «المستشرقون والإسلام» يرى المؤلف «زكريا هاشم» أن هناك أقلية من «المنصفين» بين المستشرقين، على حين أن غالبيتهم «يكيدون» للإسلام بوحي من الاستعمار والتبشير (لاحظ المزج بين العامل الديني والسياسي). ثم يضع المؤلف، ضمن المنصفين الذين يستحقون المدح، المستشرق الإنجليزي المعروف «جون فيلبي» لأنه أشهر إسلامه.
هنا يظهر التشويه الفكري بأجلى صوره؛ فالمعيار الأوحد الذي تطبقه هذه الفئة من ناقدي الاستشراق هو، كما قلنا، موقف المستشرق من الإسلام كعقيدة. وهكذا يكون أفضل المستشرقين، بالطبع، هم الذين يدخلون في دين الإسلام. ولكن هذا المعيار ينظر إليه منفصلا عن جميع المعايير الأخرى؛ مثل مدى تعمق المستشرق أو نوع منهجيته أو أهمية إنتاجه. بل إن الكاتب الذي نتحدث عنه يؤكد أن الاستعمار يكيد للإسلام، ولا يتورع بعد قليل عن امتداح واحد من أعمدة الاستعمار البريطاني، وهو الجاسوس المشهور جون فيلبي، الذي يرجح أنه اعتنق الإسلام لكي ينال قبولا أفضل لدى المسلمين؛ أي لكي يؤدي مهمته الأصلية بمزيد من الفعالية. فالدفاع عن الإسلام، واعتناقه أحيانا، قد يكون في بعض الأحيان أكثر فائدة للاستعمار من مهاجمته (هل تذكر «إسلام» نابوليون؟) وليس هذا إلا مثلا واحدا يكشف عن السذاجة الفكرية الشديدة لأولئك الذين يقيسون عمل أي مستشرق بمدى «دفاعه» عن الإسلام.
لقد وقع الغرب المسيحي في أخطاء فادحة ولا شك عندما وجد نفسه في موقف الضعف والانهيار أمام الحضارة الإسلامية الفتية، منذ القرن السادس الميلادي حتى عهد الحروب الصليبية، وربما حتى عهد فتح القسطنطينية، فقد وصل الإسلام، في زمن وجيز بصورة مذهلة، إلى قلب القارة الأوروبية، وكان من الطبيعي أن ترى فيه الحضارة المسيحية تهديدا خطيرا لها، وكان رد فعلها المتوقع هو أن تشوه صورة الدين الجديد وتهاجم نبيه وكتابه المقدس بقسوة شديدة لا تقيم وزنا لأبسط الحقائق التاريخية. ومن هنا نشأت تلك الصورة المهتزة المختلة التي كونتها أوروبا المسيحية عن الإسلام في العصور الوسطى، والتي كان الخيال المشوب بالخوف والعداء والتعصب يلعب فيها دورا يفوق بكثير دور المعرفة الفعلية. هذه الصورة المشوهة حقيقة تاريخية يعترف بها كثير من الباحثين في الشرق والغرب بدءا من «نورمان دانيل»
4
Неизвестная страница