Истишрак
نقد الاستشراق وأزمة الثقافة العربية المعاصرة: دراسة في المنهج
Жанры
14
ومن هذا كله يتضح أن مسألة تحامل اليونانيين، ثقافيا، على الشرق القديم ليست بالبساطة التي يعرضها بها إ. سعيد كيما تدخل في القالب العام الذي حدده لصورة الشرق لدى الغرب، فالصورة ليست تشويها خالصا، وإنما يوجد إلى جانب هذا التشويه تمجيد واضح. (3)
أما فكرة «الشرق المختلف» أو «الشرق المتشابه» فهي أيضا من الأفكار التي يحرص الاستشراق على إبرازها، ولكنها بدورها جزء كبير من ظاهرة أوسع بكثير. إن الشرق يفهم، في كتابات كثير من المستشرقين، على أنه هو «المختلف» عن الغرب أو نقيضه. ولكن الشرق هو أيضا المشابه للغرب، الذي يعاد تحويله بحيث يدرك من خلال مفاهيم غربية، ويعاد تمثله بطريقة تقربه إلى الغرب.
15
وفي وسع المرء أن يعترض على هذا النوع من النقد اعتراضا شكليا، فكيف ينقد الاستشراق إذا صور الشرق بأنه هو «الآخر» أو «المختلف» أو «المضاد»، ثم ينقد أيضا إذا صوره بأنه «المشابه» الذي لا يفهم إلا بمقولات الغرب؟ ما هي الصورة التي تريحنا، كشرقيين، ونقبلها من الدارسين الغربيين، إذا كانت صورة الاختلاف تثير اعتراضنا، وصورة التشابه لا تعجبنا؟ ومتى يكون المستشرقون في نظرنا منصفين؛ إذا صورونا بأننا مختلفون عنهم ومضادون لهم، أم بأننا مشابهون لهم؟
ولكن هذا الاعتراض الشكلي يمكن أن يجاب عنه بالقول إن التشابه والاختلاف معا يمكن أن ينظر إليهما على أنهما وجهان لعملة واحدة، هي التركز حول الذات لدى الباحثين الغربيين. فمن مظاهر هذا التركز حول الذات أن يفهم الشرق بمقولات غربية، وينظر إليه على أنه «غرب ناقص أو غير مكتمل»، كما أن من مظاهره أن يصور الشرق بما ليس في الغرب، فيقال إنه هو السحري أو اللاعقلاني أو العاطفي في مقابل عقلانية الغرب، ويقال إنه هو المتحجر، في مقابل ديناميكية الغرب، ... إلخ.
وفي هذه الحالة سنجد أن الماركسية ذاتها لم تخل من هذا النوع من المركزية الأوروبية، ففيها افتراض ضمني هو أن هناك خطا واحدا لتطور المجتمعات، هو الخط الذي سار عليه التاريخ الأوروبي من العبودية إلى الإقطاع إلى الرأسمالية. وإذا كان هذا الخط مفتقدا في المجتمعات الشرقية، فإنها تشكل نموا ناقصا لم يكتمل لكي يصل إلى المجتمع الصناعي الديمقراطي الذي وصل إليه الغرب. ولقد حدثت محاولة لتعويض هذه المركزية الأوروبية في إشارات ماركس إلى «نمط الإنتاج الآسيوي»، ولكنه لم يحاول أن يتوسع في الفكرة إلى الحد الذي تكون معه نظرية تقف إلى جانب النظرية الخاصة بالتطور الاجتماعي الأوروبي. وهكذا يظل هناك افتراض ضمني هو أن المقاييس الغربية هي الوحيدة التي يمكن الاعتراف بها، وأن تاريخ الشرق ليس إلا سلسلة من النواقص أو السلبيات، مثل عدم وجود طبقة وسطى فعالة يبنى على أكتافها نظام رأسمالي، وعدم وجود حقوق سياسية، وعدم وجود ثورات اجتماعية بالمعنى الصحيح.
16
وهكذا يختلف الموقف الماركسي جزئيا عن الموقف الاستشراقي التقليدي الذي يرجع تخلف المجتمعات الشرقية إلى سمات سلبية كامنة في هذه المجتمعات، بينما ترجع الماركسية هذا التخلف إلى طبيعة العلاقات الاقتصادية وتقسيم العمل العالمي، الذي يجعل المجتمعات الرأسمالية المتقدمة في حاجة إلى مجتمعات هامشية ذات إنتاج مبعثر قوامه المواد الخام التي يقوم الغرب بتصنيعها. ولكن الموقفين يشتركان معا في أن مركز الإشارة يظل هو الغرب، ولا تفهم المجتمعات الشرقية إلا في علاقتها بهذا المركز، سواء أكانت علاقة تضاد أم علاقة نمو ناقص متخلف عاجز عن اللحاق بالأصل.
هذا التحليل الذي يقدمه نقاد الاستشراق العرب هو إذن صحيح في جوهره، ولكنه تحليل ناقص؛ ففي مواجهة اتهام الغربيين للشرق بأنه غرب مضاد أو غرب لم يكتمل، يتهم العرب هؤلاء الغربيين بأنهم متمركزون حول ذاتهم وعاجزون عن الخروج عن إطار مقولاتهم. وكلا الصورتين يمكن أن تكون صحيحة في ذاتها، ولكنهما معا مظهران لحقيقة أعمق، هي الحدود التي لا يمكن أن يتعداها التفاعل بين الحضارات. وأبسط دليل على ذلك هو أن الشرق، في نظرته إلى الغرب، يقع في أخطاء منهجية مشابهة إلى حد بعيد لتلك التي نلاحظها لدى بعض المستشرقين.
Неизвестная страница