بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ الإمام شيخ الإسلام قدس الله روحه ونور ضريحه: بالله أستعين، وإياه أحمد، وعليه أتوكل، ومنه استهدي، وبه ألوذ، وفيه أجاهد، له الفضل والثناء الأسنى، وله الصفات العلى والأسماء الحسنى، اللهم كن لنا ولا تكن علينا، وأعذنا من هواجس أنفسنا، ومضلات أرائنا وخواطرنا، وأمدنا بلطفك العزيز، وأقبل علينا بوجهك الكريم (اللهم اجعل صدري خزانة توحيدك، ولساني مفتاح تمجيدك، وجوارحي في حرم طاعتك، فإنه لا عز إلا في الذل لك، ولا غنى إلا في الفقر إليك، ولا أمن إلا في الخوف منك، ولا قرر إلا في القلق نحوك، ولا روح إلا في الكرب لوجهك، ولا راحة إلا في الرضا بقسمتك، ولا عيش إلا في جوار المقربين عندك)، اللهم اجعل سعينا فيما يقرب إليك، وكدنا فيما يوجب رضاك، وقد بزمامنا من حولنا وقوتنا على حولك وقوتك، وأهدنا الأرشد والأوفق فالأوفق والألطف فالألطف.
اللهم ونسألك أن تهدي إلى رسولك وصفيك وخيرتك من خلقك من الصلوات أفضلها وأزكاها، وأتمها، وأنماها وأعدلها وأوفاها، واجعلها وسيلة لنا إلى نيل شفاعته والوصول إلى كريم وجهه، إنك أنت الجواد المنان والرحيم الرؤوف.
1 / 39
أما بعد:
فقد سبق مني كتاب جمعته من الخلافيات سميته «البرهان» وبلغت فيه غاية ما رمته على ما اتفق لي من إقامة الدلائل وإيضاح البراهين وإزاحة الشبهات وكشف المعاني غير أن الكتاب طال جدًا، فإني لم أكن شرعت فيه شروع طالب للاختصار والإيجار بل قصدت فيه قصد الاستيفاء والاستقصاء وأردت أن يكون ذلك عمدة المدرس لا عدة الحافظ، نعم، وحين طال بي المراس في المسائل، وتردد القول في سبرها وسبكها جدالًا مع المخالفين ومذاكرة مع الأصحاب، وعرضتها على فكرى مرة بعد أخرى وكرة بعد أولى، عرضت في خلال ذلك طرق متينة ومعاني محكمة وأسرار عجيبة ونكت معجبة، ورأيت عجز المعترضين دونها وتضأل المخالفين عندها، وتعظم المتدافعين عند جانبها فعند ذلك رأيت أن أسعى في مجموع آخر للأصحاب خاصة، ولكل من طلبه عامة سعى من طب لمن حب، ألفت فيه بنات صدري وأجمع له كدي وجدي وأبلغ فيه الغاية بجهدي وأجعله زبدة عمري ونهاية فكري، وقصدت فيه قصد الإيجاز والاختصار وهو كتاب لم يطل ذلك الطول المفرط الذي يسأم منه الناظر ولم يقصر قصور العجز عن بلوغ المراد، واعتنيت في المسائل التي أعضلت على فحول النظر زيادة اعتناء، وكشفت عن حقائقها زيادة كشف.
ونصصت على المعاني التي يمكن الاعتماد عليها، ونبهت على كثير من مجازفات المتفقهة وتجوزاتهم وتمسكهم بطرق حقها الإطراح، وغفلتهم عن معاني حقها القبول والإتباع، وذكرت حجج المخالفين بأتم لفظ وأوجز معنى، وأثبت بما يعتمد الأئمة منهم في الوقت، ولم أشتغل بالمستسقط من كلام مشايخهم إلا أشياء لابد من إيرادها والانفصال عنها، وسميت الكتاب «كتاب الإصطلام» لإصلامه كلام المخالفين لنا ابتلاء ولإطراحه
1 / 40
كثير من كلام مشايخنا المتقدمين توهينًا وضعفًا، وعندي أن من نظر في هذا الكتاب نظر بتأمل غائص في معانيه فهم لحقائقه معرض عن طريقة التعصب والتقليد راي كل كتاب صورة في هذا الفن للمتقدمين والمتأخرين في صورة المطرح المستغني ..... أن يشكر سعيي وتعبي فيه، ويعرف حق قيامي بأعبائه ويمدني بالدعاء .....، والله تعالى يعصم من الإعجاب بالقول ويرشد إلى الأصوب والأهدى/ من الأمور بمنه وفضله وعميم طوله.
* * *
1 / 41
كتاب الطهارة
(مسألة)
لا يجوز إزالة النجاسة بمائع سوى الماء عندنا، وهذا قول محمد، وزفر من أصحابهم.
وعند أبي حنيفة، وأبي يوسف يجوز.
لنا:
إن الماء طهور شرعًا لا لمعنى، فلو ألحق به غيره في الطهورية كان لمعنى، فإذا كان ثبوته لا لمعنى إلحاق غيره به.
والدليل على أن الماء طهور لا لمعنى، الحكم والحقيقة:
أما الحكم فلأن طهورية الماء في الحدث لا لمعنى كذلك في النجاسة، وهذا لأن عمل هذا الوصف بنفي محلين، فإذا لم يكن لمعنى في أحد الملحين فكذلك في الآخر.
1 / 42
وأما الحقيقة فلأنه لو كان معلولًا كان معلولًا بعلة الإزالة، وهذا لا يجوز، لأن معنى الطهور هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره، وصفة تطهيره لغيره إنما توجد عند اتصاله بذلك الغير، كقولنا: ضارب للغير وشاتم للغير ومكلم للغير، إنما يوصف بهذا عند اتصاله شتمه وضربه بالغير، وإذا اتصل بالمحل النجس امتزج بالنجس، والماء الممتزج بالنجس نجس، وما لا يكون طاهرًا في نفسه لا يكون مطهرًا لغيره فدل تعليل الطهورية به بالإزالة باطل، فبقى أنه طهور شرعًا لا لمعنى، وبطل إلحاق سائر المائعات به.
فإن قالوا: إذا قلتم إن الماء بامتزاجه بالنجس يصير نجسًا فكيف يزيل النجاسة؟ وبالإجماع إنه يزيل النجاسة عند استعماله في المحل غسلا.
قلنا: إنما يزيل النجاسة شرعًا لا لمعنى الإزالة، على هذا إن عندنا يبقى الماء طهورًا بعد وروده على النجاسة ثبوت صفة الطهورية له.
والحرف أن الطهورية منصوص عليها للماء، ووقت ظهور الطهورية عند غسل المحل النجس فبقيت هذه الصفة للماء وإن امتزج بالنجس ليحصل العمل بالنص ولا يتعطل، ولم يكن لمعنى حتى يلحق غيره به.
وهذا لأن الضرورة ارتفعت بالماء فبقى غيره على أصل ما عقلنا من المعنى وهو أن المائع الوارد امتزج بالنجس وتنجس وإزالة النجاسة بالنجس غير معقول، ولأن غير الماء ليس في معنى الماء حتى يلحق به، لأن الماء خلق ليكون طهورًا، وقد ورد الإنزال بمعنى الخلق في القرآن مثل قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَاسٌ شَدِيدٌ﴾.
ومثل قوله: ﴿وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾.
1 / 43
وغير الماء من المائعات لم يخلق ليكون طهورًا.
ولهذا يكره استعمال ماء الورد والخل في إزالة النجاسة، ويعد سفهًا وتضيعًا للمال، ولأن الماء يسهل وجود ويعم إصابته وللناس بلوى في طهارة الأحداث والأنجاس فشرع إزالة ما يعم به البلوى بما يسهل وجوده تسهيلًا للأمر على الناس وتيسيرًا، ومعنى سهولة الوجود وعموم الإصابة لا يوجد في سائر المائعات، وإذا كان غير الماء يخالف الماء في هذين المعنيين المؤثرين لم يجز إلحاقه به.
وأما حجتهم:
قالوا: أجمعنا على أن الماء طهور والطهور هو الطاهر بنفسه المطهر لغيره، والتعليل واجب ما أمكن، لأن القياس دليل الله وأمر الله يتصل بإظهار دليل الله ليبني عليه حكم الله، ثم الدليل على أن التعليل في مسألتنا واجب ممكن أن إمكان التعليل بإظهار علة مؤثرة وهو موجود في مسألتنا، وذلك بالتعليل بالإزالة، والدليل على أن الطهورية معللة بالإزالة أن ما لم يوجد الإزالة لا يطهر بطهارة المحل، ولم لم يكن العلة هي الإزالة كان ينبغي أن يكفي مجرد استعمال الطهور.
يدل عليه أن استعمال الطهور غسلًا في هذا المحل مفيد طهارة المحل فلا يخلو إما أن يكون إفادته طهارة المحل بتبديله النجس طاهرًا أو بإزالته النجاسة، ولا يجوز الأول، لأن استعمال الماء لا يتبدل النجس طاهرًا فدل أن طاهرت المحل بإزالته النجاسة عن المحل.
1 / 44
والدليل على التأثير أن نجاسة المحل لما كانت هي النجس الذي حله فلابد أن يكون زواله مخيلًا في إفادة الطهارة.
وقالوا: ولا يجوز أن يقال إن النجاسة إن زالت حقيقة بقيت حكمًا، لأن الحكم مع الحقيقة، فإذا زالت حقيقة زالت حكمها، فمن قال بزوالها حقيقة وبقائها حكمًا فعليه/ إقامة دليل قادح في ذلك وإلا فسد مجرد الدعوى. قالوا: وأما الذي قلتم إن الماء يتنجس بأول الملاقاة. قال: ليس كذلك، لأن الطهورية صفة ثابتة للماء في الأصل بالنص.
ومعنى قولنا: إنها صفة ثابتة له في الأصل بالنص، أنها ثابتة قبل الاستعمال والدليل على ثبوتها له قبل الاستعمال أنه يوصف بها قبل الاستعمال، ولو كانت صفة ضرورية لا صفة أصلية لم يوصف بها قبل الاستعمال كالحلية للميتة لما كانت صفة ضرورية لم يوصف بها قبل الأكل.
وقولكم «إن المطهر للغير إنما يكون عند اتصاله بالغير».
قال: هذا في الحسيات فأما الطهورية صفة حكمية فيجوز أن يوصف بها وإن لم يتصل بالغير، وإذا ثبت أن الطهورية صفة أصلية، وهي معللة بالإزالة بقيت هذه الصفة للماء عند الإزالة ليظهر عمله، وأعرض عن الامتزاج الحاصل ثم إذا انفصل عن الثوب حكم بنجاسة الغسل مثل ما يحكم للماء بالاستعمال عند الانفصال عن العضو، ولا يحكم له بذلك قبل الانفصال، كذلك هاهنا.
1 / 45
يدل عليه أنه لو كانت الطهورية بالضرورة وجب أن يكون بقدر الضرورة، والضرورة تزول بالماء الجاري، والماء العذب. فينبغي ألا تثبت هذه الصفة للماء الراكد والماء الأجاج، وحين تثبت لجميع أنواع المياه عرفنا أنها غير ثابتة ضرورة.
قالوا: وأما طهارة الحدث فغير معللة بالإزالة، لأنه ليس هناك عين تزال إنما هي حكم بلا عين.
فإن قلتم: فيبطل إذا تعليلكم للطهورية بالإزالة.
قال: لا يبطل، لأن الحكم إذا ثبت في محل النص وعلل وعدى الحكم إلى فرع فالحكم في الفرع يثبت بالمعنى، وفي الأصل بالنص لا غير.
وهذا لأن النص مغنى عن طلب المعنى في محل النص، وإنما ظهور عمل المعنى في الفرع فحسب.
قالوا: وكذلك نقول في الأشياء الستة مع فروعها، وهذا لأن التعليل ليس إلا التعدية، وطلب الحكم في الفرع، ولهذا نقول: إن العلة التي لا تكون متعدية لا تكون علة، وإذا عرف هذا الأصل فالطهورية للماء ثابتة بالنص فحسب، والتعليل لإثبات هذا الحكم فيما وراءه فيكون ثبوته في الفرع أعني المائعات لعلة الإزالة وفي الأصل بالنص لا غير، وإذا كان ثباتًا في الأصل لا بعلة الإزالة ظهر عمله في موضع الإزالة وغير موضع الإزالة، وذلك في طهارة الحدث.
وأما الخل وماء الورد لما ثبتت الطهورية فيهما بعلة الإزالة عمل في موضع الإزالة ولم يعمل في غير موضع الإزالة.
1 / 46
قالوا: ولا يلزم المرق والدهن، لأن الإزالة لا توجد بهما فإذا لم يعتصر بالعصر بقي النجس في الثوب حتى لو كان بحيث يعتصر بالعصر يحصل به إزالة النجاسة.
قالوا: وأما قول مشايخكم إن غير الماء لا يطهر بالمكاثرة فلا يطهر غيره بالمباشرة بخلاف الماء فرق ممنوع، فإن عند جماعة من أصحابنا إذا كثر الخل أو ماء الورد وصار بحيث لا يخلص بعضه إلى البعض مثل الماء، ولئن سلما الفرق فإنما دفع الماء النجاسة عن نفسه عند الكثرة لبلوى الناس وحاجتهم، ولهم بلوى في الماء وذلك في الحياض والأدوية والغدرانات ولا بلوى فيما وراءه، لأنه لا يكون في الجوابي والأواني مصونًا في البيوت .. إلى هذا الموضع انتهت طريقة أبي زيد ذكرناها بزيادة شرح وبسط.
وقد تعلق مشائخهم بالاستنجاء حيث لا يختص بالحجر، وقالوا: جنس له أثر في إزالة النجاس فلا يختص بشيء منه دون شيء، دليله الجامد، والتعليل للماء، وتعلقوا أيضًا بالدن الذي فيه الخمر حيث يطهر
1 / 47
بانقلاب الخمر خلًا من غير استعمال لماء وكذلك دباغ الجلد يحصل به طهارته من غير ماء أصلًا.
الجواب:
أما قولهم: «إن التعليل واجب ما أمكن».
قلنا: لا إمكان في مسألتنا.
وقولهم: «إنه معلل بالإزالة».
قلنا: لو كان كذلك لم يكن طهورًا في الحدث، لأنه لا إزالة هناك، وتعليل الطهورية بالإزالة بلا وجود إزالة، محال.
وقد قال بعض مشايخهم: إنا نعلل الوضوء بالوضاءة والحسن.
قلنا: فعدوا ذلك إلى كل ما يحصل به هذا المعنى ما ماء الورد وغيره.
فأما قولكم في العذر عن طهارة الحدث إنها طهارة حكمية غير/ معلولة بالإزالة وهي حكم بلا عين.
قلنا: ففذا يبطل التعليل بالإزالة، لأن الماء طهور في الحدث نصًا ولا إزالة فيه، فبطل تعليلهم بالإزالة.
وأما قولهم: «إن الحكم ثبت في الأصل بنص لا بعلبة».
قلنا: التعليل لطلب علة الأصل، فأما إذا كان المعنى المستخرج من الأصل ساقطًا في تعليل الأصل به لم يتصور التعدية.
وقولهم: «إن النص مغنى عن التعليل».
قلنا: بلى في ثبوت الحكم لكن من ضرورة ثبوت الحكم في الفرع بالمعنى ثبوت الحكم في الأصل بذلك المعنى، ويجوز أن يكون الحكم ثابتًا
1 / 48
بالنص والمعنى جميعًا كقوله ﷺ في الهرة: «إنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم والطوافات». نص على نفي النجاسة ونص على التعليل فكان الحكم ثابتًا بالنص والمعنى، وعلى أن الحكم إن كان لا يثبت في الأصل بالمعنى فلابد من وجود المعنى في الأصل، كما في علة الأشياء الستة على المذهبين، وطهورية الماء في الحدث أصل، فإذا كانت الطهورية معللة بالإزالة، فلابد من وجودها في الأصل ليمكن التعليل.
وقد بينا إنه لا وجود، وفصل طهارة الحدث في نهاية الإشكال عليهم إذا قرر على هذا الوجه، وعلى أنا بينا بطريق التحقيق أن التعليل بالإزالة متعذر غير ممكن بحال.
وأما قولهم: «إن الطهورية صفة أصلية ثابتة بالنص».
قلنا: فإذا كانت صفة أصلية تكون ثابتة بذاتها لا بنص الشارع ثم قد بينا أن الطهورية صفة لا يمكن إثباتها حقيقة إلا عند اتصالها بالغير.
وقولهم: «قد وصف من قبل».
قلنا: هذا على طريق المجاز لا على طريق الحقيقة.
وقولهم: «إن الطهورية صفة حكمية».
قلنا: وإن كانت حكمية لكنها صفة متعدية، لأنه لا يتصور وجودها إلا بعد اتصالها بالغير، وهذا موضع ضيق الخناق عليهم، لأن إثبات
1 / 49
الطهورية حقيقة في غير وقت الاستعمال لا مطمع فيه للخصوم وقد سموا هذا الموضع مزل القدم، وهو مزل قدمهم بلا إشكال.
وأما قولهم: «إن الضرورة ترتفع بالماء الجاري أو بالماء العذب».
قلنا: النص وارد في طهورية الماء المطلق وهو يشتمل على جميع أنواع المياه عذبها وملحها وراكدها وجاريها وصافيها وكدرها.
وأما تعلق مشايخهم بفصل الاستنجاء فيقال لهم: لا إزالة للنجاسة في الاستنجاء.
فإن قالوا: إن لم تكن إزالة فقد وجب التخفيف فتعتبر طهارة الإزالة بطهارة التخفيف.
قلنا: التخفيف رخصة، والرخص بابها على السهولة والسعة، والإزالة عزيمة، والعزائم بابها على الاستقصاء والمضايقة، وجواز استبدال الحجر بغيره من باب السعة والسهولة، ووجوب الاقتصار على شيء واحد مثل باب المضايقة واعتبار العزائم بالرخص فيما يرجع إلى السعة والمضايقة اعتبار باطل.
1 / 50
وأما تخريج فصل الاستنجاء على الطريقة التي اعتمدناها هو أن التخفيف أمر حسي لم يبن على استعمال طهور، فإذا وجد بأي آلة حصل التخفيف.
فأما الطهارة في مسألتنا مبنية على استعمال الطهور، وقد بينا أن الطهور هو الماء لا غير لأنه معنى ثابت شرعًا لا لمعنى، فاتبعانا موضع الشرع على ما سبق. وقد أجاب المشايخ: وقالوا إنما جاز العدول من الحجر إلى غيره في الاستنجاء بالنص فإنه روى في بعض الروايات: «ثلاث أعواد، وثلاث حثيات من تراب وثلاث مسحات».
وعندي: إن الاعتماد على التخريج الذي قلنا، لأن هذا الخبر فيه نظر.
وأيضًا فإنه لا يشتمل على جميع ما يستنجى به.
وأما فصل الدن والدباغ فيخرج على ما قلنا، لأنه ليس طهارة الجلد والدن باستعمال طهور، إنما هو في الخمر بانقلابها خلًا، وفي الجلد بطيبه وزوال النجاسة عنه. فلم يكن المثال نظير مسألتنا بوجه ما فسقط إلحاقه به.
* * *
1 / 51
(مسألة)
لا يجوز التوضئ بالماء الذي تغير أحد أوصافه بمخالطة شيء إياه، وإن كان المخالط طاهرًا
وعندهم يجوز إذا لم يكن غالبًا عليه.
وموضع الخلاف إذا تغير بالزعفران أو العصفر وما يشبه ذلك.
وقد قال بعض أصحابنا: إنه إنما لا يجوز إذا تفاحش/ التغير، فأما إذا كان التغير يسيرًا فإنه يجوز.
وقد قال بعض أصحابهم مثل ذلك.
فعلى هذا لا خلاف، وقد ذكر المتقدمون المسألة على الاختلاف الذي ذكرناه وأطلقوها إطلاقًا من غير تقييد وتفصيل فنتكلم عن ذلك فنقول:
1 / 52
الوضوء شرع ورد إقامته بالماء المطلق في الكتاب والسنة فإذا أقامه لا بالماء المطلق لم يجز. لأن المقيد غير المطلق، وهذا لأنه إذا كان غيره فالدليل الوارد في أحدهما لا يكون واردًا في الآخر وإنما قلنا: إن هذا الماء ليس بماء مطلق الاسم والمعنى. أما من حيث الاسم فلأنه يقال له «ماء الزعفران» فيقيد اسمه بالزعفران ولا يطلق إطلاقًا.
وأما من حيث المعنى فلأنه يقصد ويطلب لخلطه لا لعينه وهذا مخيل جدًا لأنه إذا طلب ماء الزعفران فصار هو المقصود، وكان الماء الذي هو محله كالتابع له، وصار هذا كماء الورد والمرق، فإنه لما طلب لرائحته صار المقصود، والمرق لما طلب لدسمه كان هو المقصود أيضًا، كذلك هاهنا.
وأما حجتهم:
قالوا: لم يوجد إلا مجرد التغير، وتغير الماء لا يسلب وصف الطهورية منه- كما لو تغير بطول المكث، وكما لو تغير بالطين أو الطحالب أو الورق.
قالوا: وبهذا نعترض على قولكم: إنه ليس بماء مطلق، لأنه مجرد التغير لا يزيل اسم الماء على الإطلاق بدليل ما قدمنا.
وأما قولكم: «إنه يقال ماء الزعفران» فمعناه الماء الذي وقع فيه الزعفران وعلى أنه كما يقال: ماء الزعفران يقال: ماء الكبريت وماء البير وماء البحر فتقيد بهذه الأشياء ومع ذلك يجوز التوضئ به.
وقولكم: «إنه يقصد لخلطه» فيرد عليه ماء الكبريت، والماء المسخن فإنه يطلب لصفته لا لذاته ومع ذلك كان بمنزلة سائر المياه.
1 / 53
قالوا: وأما ماء الورد والمرق فليس بماء بل هو طيب، وطعام سنة أنه تعمل النار فيه استجد اسمًا آخر.
فدل أن الاسم الأول فات منه بخلاف مسألتنا، فإنه مستبق على الاسم الأول غير أنه تقيد بالزعفران ليدل على الواقع فيه، والمخالط إياه مثل ما قدمنا.
وقال بعضهم: لو كان تغيره بالواقع فيه يمنع جواز الوضوء لكان نفس الوقوع مانعًا أيضًا، كالواقع النجس.
الجواب:
أما قولهم: «لم يوجد إلا مجرد التغير».
قلنا: عندنا نفس التغير غير مانع من التوضئ به إنما المانع زوال اسم الماء على الإطلاق، ويمكن أن يقال: إن السالب للطهورية تغير مزيل لإسم الماء المطلق.
وقولهم: «إن هذا ماء مطلق».
قلنا: كيف يصح هذا واسمه ماء الزعفران لا الماء المجرد، والمعنى المطلوب منه المقصود فيه الزعفران، لا أنه الماء لذاته وعينه على ما سبق.
وقولهم: «إنه يقال ماء الزعفران أي الماء الذي وقع فيه الزعفران».
قلنا: فقولوا مثل هذا في ماء الورد وهو أنه الماء الذي أغلى بالورد.
وأما قولهم: «إن هناك تجدد له اسم آخر».
قلنا: وهاهنا إذا تفاحش التغير فتجدد له اسم آخر فيسمى المتغير بالزعفران صبغًا وبالزاج حبرًا، وعلى أن المانع هو التقييد الذي قلناه.
1 / 54
وقد ذهب الاسم المطلق منه وعرض التقييد، وأما ماء الكبريت وماء الآبار والبحار فهو إضافة له إلى مواضعه، وهذا لا يوجب زوال اسم الماء المطلق منه.
وأما المسخن والأجاج والكدر والعذب فهذه الأشياء صفات الماء المطلق مثل الحسن والقبح والبياض والسواد صفات الآدمي المطلق.
ألا ترى أن الماء في الأصل منوع إلى هذه الأنواع ويوجد على هذه الصفات بخلاف الصفة التي تنازعنا فيها.
وأما التراب والطحلب والورق فهذه الأشياء لا يمكن صون الماء منها على ما عرف فأعرض عن التغير الحاصل بها، أو يقال: يعفى عن التغير بها لعموم البلوى مثل ما يعفى عن دم البراغيث لعموم البلوى.
وقد قيل: إن التراب ليس له مع الماء مخالطة حقيقة، ألا ترى أنه بمضي الزمان ينزل إلى قراره ويصفو الماء الذي هو محله.
وقد قال الأصحاب: إن المخالط للماء على ثلاثة أصناف:
ما هو موافق له في صفتي الطهارة والطهورية كالتراب، ومخالف فيهما كالنجاسة، وموافق في الطهارة مخالف في الطهورية كمواضع الخلاف في مسألتنا، فالمخالف في صفتيه يسلبهما/ والموافق في صفتيه لا يسلبهما، والموافق في إحدى الصفتين دون الأخرى يسلب الصفة المخالفة دون الموافقة والاعتماد على ما سبق.
1 / 55
وقولهم: «إن بنفس الوقوع لا يزول الطهورية».
قلنا: لأنه لا يزيل اسم الماء المطلق بخلاف ما إذا تغير، وعلى أنه ينتقض بالماء الكثير والماء الجاري فإن تغيره بالنجاسة يسلب صفة الطهورية بخلاف نفس الوقوع. والله أعلم بالصواب.
* * *
1 / 56
(مسألة)
لا يجوز التوضئ بنبيذ التمر عندنا.
وعند أبي حنيفة يجوز التوضئ به على الرواية الظاهرة.
وروى عنه أنه رجع إلى ما قلناه.
وقول أبي يوسف مثل قولنا.
لنا:
قوله تعالى: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾.
وهذا لم يجد الماء فتيمم، وموضع الاحتجاج إذا عدم الماء ومعه نبيذ التمر.
1 / 57
فإن قالوا: نحمل الآية على عدم الماء والنبيذ.
قلنا: نص الآية اقتضى شرط عدم الماء للنقل إلى التيمم ف حسب فمن ضم إليه عدم النبيذ فقد خالف النص، ولأن عندكم يتيمم لعدم النبيذ لا لعدم الماء. ألا ترى أنه إذا وجد النبيذ وعدم الماء يتوضأ بالنبيذ، ولأن الطهارة لا تتأدى إلا بطهور والطهور هو الماء بنص الشارع، وقد عرف الشرع الماء، ولا غير فما لا شرع فيه لا طهورية له.
وأما حجتهم:
تعلقوا بحديث ابن مسعود المعروف في الباب، قالوا: وأبو فزارة هو راشد بن كيسان العبسي الزاهد، وأبو زيد هو
1 / 58