فقال السيد المحروقي: «لقد نطق مولانا بالصواب، ولكني أرجو أن تسع رحمته هذا التاجر المسكين؛ إذ ليس له ولد آخر.»
فبدأ الغضب في وجه علي بك وقال محتدا: «ما هذا؟! هل كل أهل هذه البلاد مساكين ضعفاء لا يقوون على الجهاد؟ لا. لا. لقد رفضت عشرات من أمثال هذه الدعوى، ولا يمكن أن أستثني أحدا من القيام بواجب الجهاد للدفاع عن شريف مكة.»
فعاد السيد عبد الرحمن إلى البكاء والتوسل، والتفت السيد المحروقي إلى علي بك وقال: «لا أشك في صواب رأي مولانا، ولكني ألتمس من فضله وحلمه إكرام شيبتي هذه بإطلاق سراح ذلك الغلام، وأنا كفيل بأنه يقوم لمولانا بخدمات نافعة أخرى إن شاء الله.»
فقال علي بك: «قلت لك إنني قررت ألا أستثني أحدا من أهل هذه البلاد؛ لعلمي بأنهم يتهربون من الجهاد. لكني إكراما لك سأطلق سراح ذلك الولد على أن يحل أبوه محله في الحملة ويدفع عشرين كيسا.»
فخشي السيد المحروقي أن يراجعه في ذلك فيثور غضبه من جديد ويعدل عن هذا الاستبدال، وقد يأمر بأخذ الولد وأبيه معا إلى الحرب. فالتفت إلى السيد عبد الرحمن وهو لا يزال جاثيا بين يدي علي بك وقال له: «انهض وقبل يد الأمير جزاه الله خيرا، ثم سارع إلى إعداد عدتك للسفر مع الحملة الليلة، وهات معك العشرين كيسا المطلوبة. لإطلاق سراح ولدك.»
فلم يسعه إلا الطاعة، ونهض فقبل يد علي بك، ثم انصرف عائدا إلى منزله، حيث أخبر زوجته بما كان، ففرحت بنجاة ولدهما، وجزعت لحلول أبيه محله في الحملة، لكن السيد عبد الرحمن هون عليها الأمر، وأسر إليها أنه سيعمل على التخلف عن الحملة حالما تصل إلى الشام، وهناك يقيم بعكا في انتظارها ومعها ولدهما حسن بعد أن يبيعا ما بقي من ممتلكاتهما في مصر، دون أن يشعرا بذلك أي إنسان غير خادمه الخاص.
فخف جزعها ووافقته على هذا الرأي، ثم نادى خادمه الخاص وأسر إليه ما تم الاتفاق عليه، موصيا إياه بأن يبذل جهده في إتمام ذلك ثم يصحب زوجته وولده إلى عكا، فقبل الخادم يده باكيا واعدا بتنفيذ الوصية. ثم حمل الأكياس المطلوبة وسار خلفه بعد أن ودع من في المنزل إلى القلعة حيث سلم الأكياس، وتسلم ولده، ثم ودعه وحل محله في الحملة، وعاد حسن مع الخادم إلى المنزل، لتنفيذ وصية أبيه في الخفاء. •••
لبث حسن مقيما مع أمه بالمنزل يومين بعد سفر الحملة وفيها أبوه. ثم أخذ بعد ذلك يتردد إلى متجر أبيه في وكاله الليمون، متظاهرا بحلوله محله في البيع والشراء، لكنه في الحقيقة كان يبيع كل ما استطاع بيعه، دون أن يشتري شيئا، حتى كاد أن ينتهي من بيع كل ما في المتجر.
وفي الوقت نفسه أخذت أمه في بيع أمتعة المنزل إلا ما خف حمله وغلا ثمنه من الحلي والملابس وغيرها. كما باعت المنزل نفسه لأحد الجيران. وسافر الخادم إلى الريف ومعه توكيل من السيد عبد الرحمن ببيع كل ممتلكاته هناك، فأخذ في بيعها معتزما التعجيل بذلك ليعود بثمنها إلى القاهرة ويصحب حسنا وسالمة أمه في الفرار إلى عكا للحاق بسيده هناك.
وفيما كان حسن جالسا في غرفته بالمنزل بعد أيام وهو يطالع بعض الكتب المخطوطة في الطب، وأمه مشغولة بإعداد حليها وبعض الأمتعة الثمينة الخفيفة في صندوق صغير استعدادا لمغادرة مصر، سمع طرق عنيف على باب المنزل، ثم توالى الطرق وتعالت الضوضاء في الخارج، وجاء بعض الخدم يهرعون إلى حسن في غرفته وقالوا: «إن الطارقين جماعة من العساكر المماليك وهم يسبون ويلعنون ويهددون بحرق المنزل بمن فيه.»
Неизвестная страница