وهو نقش حجري من عهد الملكة «حتشبسوت» التي حكمت بعد جيلين أو ثلاثة من طرد الهكسوس، وتقول فيه الملكة: «إن مقر ربة كيس قد تحول إلى أنقاض، وابتلعت الأرض حرمها المقدس، ولعب الأطفال فوق معبدها. وقد أزلت عنه ما تراكم، وأعدت بناءه ... فقد كان هناك عامو في وسط الدلتا، وفي حاوار (حواريس عاصمة الهكسوس)، وكانوا هم دمروا كل المباني القديمة، وحكموا البلاد غير مؤمنين بالإله رع.» ويعقب «فليكوفسكي»: «إن السطور السابقة تحمل الدليل على أن تلك المعابد قد ابتلعتها الأرض ... وصحيح أن الهكسوس قد دمروا المباني، لكنهم لم يدفنوها في الأرض.» وهو بذلك إنما يشير إلى كارثة طبيعية ليست في رأيه شيئا آخر سوى كارثة الخروج.
وينهي الباب الأول من القسم الأول بعبارة تلخص نظريته تماما، وتقول: «لو كانت كل المقارنات السابقة، والنتائج المترتبة عليها، صحيحة، فإن خروج الإسرائيليين يكون قد سبق غزو الهكسوس لمصر بأسابيع أو بأيام قليلة.» (3) إمبراطورية الهكسوس العربية
وربما الأمر هنا لا يشبه مجموعة الوثائق التي جمعها «فليكوفسكي» للتدليل على صدق أحداث الخروج كما وردت بالكتاب المقدس، إنما هي مجموعة شهادات عربية على القسم الثاني من نظريته، والذي يذهب إلى أن الهكسوس كانوا من عرب شبه الجزيرة العربية؛ فهو يلتقط طرف الخيط من «مانيتون» في شذرة تقول : «البعض قالوا إنهم كانوا عربا.» وهم من أطلق عليهم المصريون اسم «آمو». وكان الهكسوس من الشعوب التي تشربت حتى النخاع بروح التدمير والتحطيم، وعلى قدر ما هو معروف، لم يترك الهكسوس أثرا أو نصبا تذكاريا ذا قيمة تاريخية أو فنية طوال فترة حكمهم، وأن هؤلاء الهكسوس ليسوا سوى التسمية المصرية لمن ذكرهم سفر الخروج باسم العمالقة، حيث «أتى عماليق وقاتلوا إسرائيل عند رفيديم.» في طريق الخروج بسيناء، لذلك قال الرب لموسى: «اكتب هذا تذكارا في الكتاب وضعه في مسامع يشوع، فإني سوف أمحو ذكر عماليق من تحت السماء» (17: 14).
وإن هؤلاء العماليق في هجرتهم انقسموا خطين عظيمين: الأول احتل كل منطقة شرقي المتوسط، بينما احتل الثاني مصر، وعند خروج بني إسرائيل من مصر وقت انهمار سيول العمالقة على المنطقة، «وبسبب وجود العماليق في جنوب فلسطين، اضطر الإسرائيليون للبقاء في الصحراء على مدى جيل كامل»، وبذلك يفسر «فليكوفسكي» مسألة التيه أربعين عاما في سيناء.
ولتأكيد فروضه حول كون الهكسوس هم ذاتهم العمالقة، وأنهم كانوا من غرب شبه الجزيرة، فإنه يؤكد أن ما حدث للطبيعة من هياج مفاجئ في مصر، قد حدث أيضا على الضفة الأخرى من البحر الأحمر في جزيرة العرب.
وبصبر غريب ينقب الرجل عن كل ما يدعمه في كتب التراث الإسلامية، وما جاء فيها من تاريخ جزيرة العرب في عصورها الأولى. ومعلوم أن حديث العماليق من الأحاديث المتواترة في كتبنا الإخبارية بحسبان العماليق من أشهر قبائل العرب البائدة، وأنهم بادوا كما جاء في مستندات «فليكوفسكي» بنصوص من «المسعودي» وصف فيها الغضب الإلهي الذي حاق بهم، وكيف أرسل عليهم الله سيلا هربوا على إثره من البلاد متتبعين سحبا قادتهم إلى أماكن دمارها أشد هولا. يقول المسعودي: «ودمرت مكة في ليلة واحدة بضجيج يصم الآذان، وتحولت كل المنطقة إلى صحراء بلقع، وأصبحت كل الأرض من الحجون إلى الصفا قفرا ... وصل العماليق إلى سوريا ومصر وامتلكوا البلاد، وكان طغاة سورية وفراعنة مصر من أولئك العماليق، ... وقدم ملك العماليق الوليد بن دوما من سوريا وغزا مصر وقهرها واستولى على العرش ... وغزا العماليق مصر بعد أن عبروا حدودها وبدءوا في نهب البلاد، وحطموا أعمالها الفنية وخربوا كل آثارها (ويلفت فليكوفسكي نظرنا إلى تشابه تعبيرات المسعودى مع نص حتشبسوت). كذلك طعم مستنداته بأسانيد من شهادة الطبري «ثم مات ملك مصر، وارتقى ملك آخر عرش البلاد وكان من العماليق، كان يدعى قابوس بن مصعب بن مويا بن نمير بن سلواز بن عمرو بن عماليق.» ومن شهادة أبي الفدا «كان هناك فراعنة مصريون من أصل عماليقي.» ومن شهادة أبي الفرج الأصبهاني «إن العماليق انتهكوا حدود الحرم فحلت عليهم نقمة الله، فتركوا مكة ... وساقهم الله إلى منشئهم حيث أغرقهم بالطوفان.»
وحسب «مانيتون»، فقد أنشأ الهكسوس لهم عاصمة شرقي الدلتا باسم «حواريس »، وكان أول ستة ملوك منهم يشكلون الأسرة الأولى من الفراعنة الهكسوس، وأشهر هم الملك الرابع في هذه الأسرة «أبوفيس». وهنا يصدر فليكوفسكي بعض الأحكام من قبيل «وكان حكم الهكسوس قاسيا، ولم تدرك قلوبهم شفقة ولا رحمة.» ثم يضيف «ولم تقتصر هيمنة الآمو الهكسوس على مصر وحدها فقد وجدت جعارين وأختام رسمية في العديد من البلدان تحمل اسم الملك المصري «أبوب = أبو فيس» والملك «خيان»، كما وجد اسم خيان أيضا على تمثال لأبي الهول اكتشف في بغداد، وعلى غطاء آنية في «كونسوس» بجزيرة «كريت». كما وجد نقش يعود للملك «أبوب» ذكر فيه، أن أبوب الملك، ست رب حواريس، قد أخضع كل البلاد تحت قدميه ... ووجد بعض المؤرخين أنفسهم مجبرين على قبول حقيقة أن الهكسوس كانوا أصحاب إمبراطورية كبرى، ولو لفترة محددة من الزمن ... وطبقا لمانيتون ... كان آخر ملوك الفراعنة الهكسوس ملكا قويا يدعى أبوب الثاني.»
ولأن الإسرائيليين غادروا مصر وقت دخول الهكسوس، ولأنهم لقوهم في سيناء، ولأن تلك النظرية لا تجد نصا توراتيا واضحا بشأنها، فإن «فليكوفسكي» يعثر على ذلك النص، ويكتشف أن الإسرائيليين قد عرفوا بالفعل الكارثة الحادية عشرة التي حلت بمصر ممثلة في غزو الهكسوس. والنص في سفر المزامير، ويقول: «أرسل الله عليهم حمو غضبه سخطا ورجزا وضيقا، جيش ملائكة أشرار» (78: 49). ويكتشف أن تعبير «ملائكة أشرار» خطأ في القراءة والترجمة؛ حيث «ملائكة» و«ملوك» تتشابهان في العبرية، ثم تأتي زيادة حرف «ألف» إلى كلمة «رعاة» فتحولها إلى كلمة «أشرار»؛ ومن ثم فقد كان الأصل: «أرسل الله عليهم جيش ملوك رعاة، وهو الاصطلاح المأخوذ من كلمة هكسوس.»
وتأسيسا على كل تلك القرائن، وإعمالا لتلك الشواهد الغزيرة، ينتهي «فليكوفسكي» إلى «إعادة التزامن الصحيح للتاريخ، ويعيد إليه أربعمائة سنة مفقودة بين نهاية الدولة الوسطى وبداية الدولة الحديثة، إضافة للمائتي عام المفترضة من قبل المؤرخين لتلك الفترة الزمنية» وهو الفرض غير المقبول منطقيا. ليصبح الزمن ما بين سقوط الأسرة الثانية عشرة آخر أسر الدولة القديمة، وبين الأسرة الثامنة عشرة أولى أسر الدولة الحديثة ، ستة قرون كاملة؛ «ومن ثم يكون زمن التيه، ويشوع، والقضاة، الذي استغرق في تاريخ إسرائيل أربعة قرون، يقع في توقيت واحد مع حكم الهكسوس العماليق لمصر»، وتبقى المائتا سنة الأولى لأسر مصرية متهالكة فيها تعرف بالعصر المتوسط الثاني.
ومن هنا يستمر «فليكوفسكي» في دعم فرضيته ليسوق المزيد من الأدلة على صدقها، ويقف مع نص العراف «بلعام» بالتوراة، والذي يمتدح فيه إسرائيل ويقول: «يجري ماء من دلائه، ويكون زرعه على مياه كثيرة، ويتسامى في ملكه على أجاج وترتفع مملكته ... ثم رأى عماليق فنطق بمثله وقال: عماليق أول الشعوب وأما آخرته فإلى هلاك» (عدد، 24: 7، 20). ويستنطق «فليكوفسكي» ذلك النص بما لم يخطر ببال أحد حتى اليوم؛ فعماليق أول الشعوب تشير أن العمالقة كانوا أصحاب إمبراطورية عظمى، لكن آخرته ستكون الهلاك على يد بني إسرائيل، و«أجاج» الملك بالنص ليس سوى «أبوب الثاني» آخر ملوك تلك الإمبراطورية؛ حيث كانت العبرية القديمة تحمل تشابها يؤدي إلى اللبس بين حرفي «ج» و«ب».
Неизвестная страница