ثم يوجه يوسف النصيحة للفرعون: «فالآن لينظر فرعون رجلا بصيرا وحكيما يجعله على أرض مصر في سبع سنين الشبع ... ويأخذ خمس غلة الأرض ... فيجمعون جميع طعام هذه السنين الجيدة القادمة، ويخزنون قمحا تحت يد فرعون ... فيكون الطعام ذخيرة للأرض لسبع سني الجوع.»
وكانت نتيجة موهبة يوسف الفريدة في تفسير الأحلام أن قدرت له تحقيق أحلامه هو بعد ذلك، وهو ما سجلته رواية المقدس في قولها: «فحسن الكلام في عيني فرعون، وفي عيون جميع عبيده، فقال فرعون لعبيده: هل نجد مثل هذا رجلا فيه روح الله؟ ثم قال فرعون ليوسف: بعدما أعلمك الله كل هذا، ليس بصير وحكيم مثلك، أنت تكون على بيتي، وعلى فمك يقبل جميع شعبي، إلا أن الكرسي أكون فيه أعظم منك، ثم قال فرعون ليوسف: انظر، قد جعلتك على كل أرض مصر، وخلع فرعون خاتمه من يده وجعله في يد يوسف، ... وأركبه في مركبته الثانية، ونادوا أمامه: اركعوا. وقال فرعون ليوسف ... بدونك لا يرفع إنسان يده ولا رجله في كل أرض مصر، ودعا فرعون يوسف صفنات فعنيح، وأعطاه بنت فوطي فارع كاهن أون زوجة ...» (تكوين، 41).
وكان تولي يوسف أمر خزانة مصر وشئونها الاقتصادية، مدعاة لدخول تغييرات جوهرية على الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية المعمول بها في البلاد؛ فبعد أن كان الناس أحرارا، ليس لملكهم عليهم سوى سلطان مركزية الدولة، وبعد أن كانوا يملكون أراضيهم وغلالهم أحرارا فيها. «اشترى يوسف كل أرض مصر لفرعون إذ باع المصريون كل واحد حقله؛ لأن الجوع اشتد عليهم، فصارت الأرض لفرعون، أما الشعب فنقلهم إلى المدن من أقصى مصر إلى أقصاه ... فقال يوسف للشعب: إني اشتريتكم اليوم وأرضكم لفرعون، هو ذا لكم بذار فتزرعون الأرض، ويكون عند الغلة أنكم تعطون خمسا لفرعون ... فقالوا: أحييتنا، ليتنا نجد نعمة في عيني سيدي، فنكون عبيدا لفرعون، «فجعلها يوسف فرضا على أرض مصر إلى هذا اليوم»» (تكوين، 48: 20-26). وكان من المفهوم كيف تحول بعد ذلك فرعون مصر أو الفراعين عموما، وبعدما كان الفرعون يشهد لله، وبأن الإله هذا هو الذي يمنح العبد علمه «بعدما أعلمك الله كل هذا»، فامتلك الفرعون الناس والأرض، تغيرت الأحوال، من سلطان محكوم بالقواعد، إلى سلطان مطلق النفوذ، يدعي الألوهية فيما بعد، وهو أمر يترتب على رواية التوراة، وإن كان التوراة، لا ينبني على حقائق التاريخ.
أما كيف تحققت أحلام الصبي بعد اليفوع، وكيف سجد له الأحد عشر كوكبا، فهو ما تخبرنا به رواية المقدس، التي تؤكد أن الجوع لم يكن في مصر وحدها، والتي أمنت على نفسها بالحكمة اليوسفية، إنما كان الجوع شاملا؛ فقد حل القحط بيعقوب وبنيه في بداوتهم، وحل بهم الشظف في سني المجاعة السبعة «فلما رأى يعقوب أنه يوجد قمح في مصر، قال يعقوب لبنيه: إني قد سمعت أنه يوجد قمح في مصر، انزلوا هناك واشتروا لنا من هناك لنحيا ولا نموت، فأتى بنو إسرائيل ليشتروا بين الذين أتوا؛ لأن الجوع كان في أرض كنعان» (التكوين، 42).
وبنزولهم مصر كان اللقاء مع سيد الخزانة، ثم التعارف، ثم إعلان يوسف لإخوته الذين بغوا عليه صغيرا «أنا يوسف، أحي أبي بعد؟ ... أنا يوسف أخوكم الذي بعتموه إلى مصر ... فالآن ليس أنتم أرسلمتوني إلى هنا، بل الله، وهو جعلني أبا لفرعون وسيدا لكل بيته ومتسلطا على أرض مصر. أسرعوا وأصعدوا إلى أبي، وقولوا له هكذا ابنك يوسف: قد جعلني الله سيدا لكل مصر، انزل إلي فتسكن في أرض جاسان قريبا مني ... وقال فرعون ليوسف قل لإخوتك ... خذوا أباكم وبيوتكم وتعالوا إلي فأعطيكم خيرات أرض مصر، وتأكلوا دسم الأرض ... ولا تحزن عيونك على أثاثكم؛ لأن خيرات جميع أرض مصر لكم» (تكوين، 45)، «وكانت جميع نفوس بيت يعقوب التي أتت إلى مصر سبعون» فأسكن يوسف «أباه وإخوته وأعطاهم ملكا في أرض مصر، في أفضل الأرض، في أرض رعمسيس، كما أمر فرعون» (تكوين، 47).
وفي مصر، أنجب يوسف من زوجته المصرية «أسنات» ولديه «منسي وإفرايم» (تكوين، 41)، وبعد زمن مات يعقوب «وأمر يوسف عبيده الأطباء أن يحنطوا أباه، فحنط الأطباء إسرائيل، وكمل له أربعون يوما؛ لأنه هكذا تكمل أيام المحنطين وبكى عليه المصريون سبعين يوما» (تكوين، 50).
وعاش يوسف مائة وعشر سنين «وقال يوسف لإخوته: أنا أموت، لكن الله سيفتقدكم ويصعدكم من هذه الأرض إلى الأرض التي حلف لإبراهيم وإسحاق ويعقوب، واستحلف يوسف بني إسرائيل قائلا: الله سيفتقدكم، فتصعدون عظامي من هنا، ثم مات يوسف وهو ابن مائة وعشر سنين، فحنطوه ووضعوه في تابوت في مصر» (تكوين، 50). وبموت يوسف ينتهي الطور الإبراهيمي المرتبط بالإله الأكبر «إيل».
وهنا ملحوظات سبق أن نبهنا إليها؛ لأنها أثارت بعد ذلك عددا من الإشكاليات؛ ففي قصة التوراة نجد ذكرا لأسماء مصرية مثل «فوطي فارع»، وهو اسم مركب يدخل فيه اسم إله الشمس المصري الأكبر «رع»، كذلك نعلم من الرواية أن «فوطي فارع» كان كاهنا لمدينة «أون» كذلك يرد اسم مدينة «رعمسيس»، ومثل تلك الإشارة أضفى على رواية التوراة بعض المصداقية، ويشير إلى معرفة واضحة للنص التوراتي لمصر في عهدها القديم، أو على الأقل معرفة كاتب ذلك الجزء من التوراة بمصر في عصرها الذهبي. وهي الإشارات التي أدت بنا في بحث بين أيدينا الآن «النبي موسى ...» مع إشارات أخرى كثيرة، إلى تأكدنا اليقين من دخول بني إسرائيل إلى مصر وخروجهم منها، دون أي شك في ارتكابنا خطأ علميا بهذا اليقين.
والمسألة بالطبع، ولاتخاذ ذلك الموقف، لم تكن بالبساطة التي في عجالتنا هنا؛ حيث كانت الإشكاليات الشديدة التعقيد، والكثيفة الروافد والمتشابكات، وربما كان أبرزها وأشدها إثارة للتضارب بين المدارس البحثية، هو أن التوراة رغم استخدامها اصطلاحات وأسماء مصرية قديمة، وذكرها لعادات مصرية لم نكن على علم بها قبل كشف رموز اللغة القديمة، كطقوس الدفن، وعدد أيام التحنيط، وعدد أيام ندب الميت ... إلخ، فإن التوراة جاءت عند أمور هامة وخطيرة وتجاوزتها، وبشكل يفصح عن جهل تام ومطبق بها، رغم أنها أكثر المسائل حدية وفصلا وقطعا في أهم نقاط التاريخ الفاصلة، وذلك مثل عدم ذكرها لاسم فرعون الدخول (فرعون يوسف)، ولا اسم فرعون الخروج (فرعون موسى)، ولا سنة الدخول، ولا عام الخروج، ولا أي علامات يمكن تزمينها وفك دلالاتها، رغم اهتمامها بذكر ما هو أقل أهمية بالمقارنة ، مثل اسم وزير الشرطة أو كاهن أون وابنته. والأمر كله مرهون بما يمكن أن نصل فيه إلى رأي يمكن الإفصاح عنه عند الانتهاء من البحث في كتابنا المشار إليه، أو بما يمكن أن ينتهي إليه باحث مجتهد قبلنا. (9) أحداث الخروج (في الطور اليهوي الموسوي)
ينقلنا المقدس التوراتي هنا نقلة أخرى فاصلة ومتميزة تماما في مضامينها ودلالاتها وتحولاتها التاريخية والعقدية، بادئا بالإشارة الهامة «بنو إسرائيل أثمروا وتوالدوا ونموا كثيرا وامتلأت الأرض منهم، ثم قام ملك جديد على مصر لم يكن يعرف يوسف، فقال لشعبه: هو ذا إسرائيل شعب أكثر وأعظم منا، هلم نحتال لهم لئلا ينموا، فيكون إذا حدثت حرب أنهم ينضمون إلى أعدائنا، ويحاربوننا، ويصعدون من الأرض، فجعلوا عليهم رؤساء تسخير لكي يذلوهم بأثقالهم، فبنوا لفرعون مدينتي مخازن فيثوم ورعمسيس» (خروج، 1: 1-11).
Неизвестная страница