وهو أمر ما كان ممكن التحقق لو كان أولئك الآسيويين هم الهكسوس الذين احتلوا المنطقة كلها بما فيها فلسطين ومصر. وأما الملك «خيتي» فيسجل قبل ذلك بزمان، في العصر المتوسط الأول «عامو التعساء إن سوء الطالع يحل حيث يحلون ... إنهم يقومون بالمعارك منذ عهد حورس (يعني منذ فجر التاريخ)، ومع ذلك فإنهم لا ينتصرون مطلقا، وهم كذلك لا يغلبون.»
30
ثم يوجه النصح لولده «مري كارع» قائلا: «الآسيوي التعس لا تزعج نفسك به، إن هو إلا آسيوي.»
31
وهي بالطبع صورة لا تلتقي أبدا مع الهكسوس المحتلين أصحاب الإمبراطورية. (5-5) تزييف دلالات مقياس سمنة
فيما وراء الجندل الثاني في أقصى الجنوب، وفي وقت ما من التاريخ المصري القديم، أرسى المصريون حدودهم الجنوبية عند قلعتين منيعتين تواجه كل منهما الأخرى على القمم الصخرية على ضفتي النيل، واحدة اسمها «قمة» والأخرى اسمها «سمنة»، ومن هناك نحو الجنوب، ومع بدء الصخور، تبدأ أرض «كوش» بلاد الزنج، وعلى الصخور المقام عليها قلعة سمنة حفروا مقياسا لمياه النيل، ليتمكنوا من التنبؤ بالفيضان المرتفع أو المنخفض، قياسا على الأثر الذي يتركه ماء الأعوام الماضية من أثر، دون حاجة لفرعون حلوم، كما قصت علينا التوراة. وبناء على ملاحظة «ليبسوس» لآثار المياه التي تركها على المقياس، بما يسجل ارتفاعا يزيد عن اثنين وعشرين قدما على القياسات المعاصرة، يقدم «فليكوفسكي» وثيقته السادسة الدالة على الكارثة، حيث يزعم أن ذلك يعني هبوطا في التكوين الصخري وطبقات الأرض في مصر آنذاك بمقدار اثنين وعشرين قدما؛ لأنه لو كانت الأرض هي الثابتة، وأن التغير حدث في كمية الماء المتدفق بالنيل، فذلك لا شك يعني أن عددا من المعابد والمساكن في السنوات الأسبق كان من المفروض أن تغطي بالمياه بانتظام كل عام زمن الفيضان.
ولا مشاحة أن الرجل هنا يمتلك قدرة التقاط عظيمة، وصبرا على التفتيش وراء كل ما يدعم مذهبه، لكنه ربما لم يلتفت إلى النتائج التي تترتب على هبوط صخور المقياس، والتي لا بد أن تؤدي إلى هبوط المقياس بدوره بذات القدر؛ حيث إنه تم تسجيله حفرا في شكل خطوط عرضية على خط رأسي على الجرف الصخري عند «سمنة».
وحجته هنا كما هو واضح واهية تماما، لكنه على أية حال يسوقها ضمن مجموعة قرائن متضافرة، بحيث لا يظهر هذا الضعف إلا عند انهيار القرائن الأخرى، أما ما نعرفه نحن أبناء هذا الوادي يقينا بالمعايشة والمعاينة، وفي طفولتنا قبل بناء السد العالي، أن الفيضان كان يأتي في بعض المواسم مرتفعا إلى حد نتحول فيه جميعا إلى طوارئ من لون خاص بمصر، طوارئ الريف المصري الذي يتحرك أبناؤه فورا، وكل يعرف دوره تماما دون تنظيم رسمي، للردم حول القرى لحماية البيوت المتطرفة، التي ستتعرض - بحكم الدراية - خلال أسابيع للغرق الكامل. وكان الماء يرتفع إلى حدود هائلة، ولم يكن ذلك ليبهرنا نحن أبناء النيل كما أبهر الروسي/البولندي «فليكوفسكي»؛ حيث كنا معتادين - في غير فصل الفيضان - على التطلع من فوق أسطح منازلنا، على الأطراف العليا البعيدة لأشرعة المراكب النيلية تحتنا، وكنا معتادين أيضا - في فصل الفيضان - على الصعود إلى أسطح تلك المراكب واللعب فوقها عندما ترسو عند أبواب بيوتنا، أما المساعدة في حمل «قفف» الأتربة والأحجار للبالغين وهم يقيمون الردم حول البيوت المتطرفة، فكانت مجالا لسعادة طفولتنا وهذرها ومرحها؛ كانت لونا من اللهو الدوري الجميل الذي - لا شك - لا يعرف «فليكوفسكي » طعمه، ولا علاقته بحميمية أبناء هذا الوادي وبعضهم، وبينهم وبين نيلهم الذي كأن يتجرأ عليهم إلى حد التدمير، لكنهم كانوا دوما أسعد الناس به، وأشد من في الكون فرحا بجبروت فيضانه. أما أجدادنا فكانوا يحكون لنا في طفولتنا عن ارتفاع أشد قسوة للماء لم نحظ نحن بمعايشته، وكان يحدث قبل إقامة سد أسوان الذي يبعد عن السد العالي إلى الشمال بمقدار سبعة كيلومترات. وكان الأجداد يشيرون إلى مواقع بيوتنا ويقولون: ما كان ممكنا أن تقام هذه البيوت هنا قبل إقامة سد أسوان؛ حيث كان الماء يغطي هذه الأرض وقت الفيضان. أما أهل بعض المناطق وخاصة في وسط الدلتا فقد أقاموا قراهم بكاملها فوق ردم مرتفع، جعل لتلك القرى الآن لونا غريبا لكنه بديع، وعلى الردم أقام الأهلون السلالم الحجرية التي كانت تسمح للفلاحات بحمل أواني الطهو والملابس لغسلها أمام أبواب البيوت مباشرة في مياه النيل وقت فيضانه، بدلا من جهد حملها الطويل أيام التحاريق الصيفية إلى مجرى النهر البعيد. (5-6) تزييف دلالات نقش حتشبسوت الحجري
يسوق «فليكوفسكي» نص هذا النقش كالآتي: «إن مقر «ربة كيس» قد تحول إلى أنقاض، وابتلعت الأرض حرمها المقدس، ولعب الأطفال فوق معبدها، وقد أزلت عنه ما تراكم وأعدت بناءه، واستعدت ما كان أنقاضا، وأكملت ما كان قد ترك بلا بناء، فقد كان هناك آمو في وسط الدلتا، وفي حواريس، وكانوا هم من دمرت قبائلهم كل المباني القديمة، وقد حكموا البلاد غير مؤمنين بالإله رع.»
وعندما يورد «فليكوفسكي» ذلك النص مباشرة، بعد حديثه عن مقياس سمنة الذي يقع أقصى الجنوب ودون أن يحدد أين يقع المعبد المهدم، معتمدا على أنه مكان يسمى «كيس». حيث إن المعبد كان معبد «ربة كيس»، إنما يقوم بتزييف آخر يذهب بالقارئ إلى مكان اسمه «كيس» قرب «سمنة» جنوبي أسوان. وهنا لا شك سيراود القارئ وهو يبني تصوراته أن الهكسوس قد حكموا مصر بكاملها حتى وصلوا حدودها الجنوبية قرب «سمنة»، حتى يلائم ذلك أربعة قرون حكموا فيها مصر. ولن يكون مستساغا أن يحكموا أربعة قرون دون احتلال لكل شبر فيها، لكن الحقيقة أن الهكسوس لم يصلوا إلى أبعد من «أشمون» الحالية في أبعد التقديرات، بل ربما لم يصلوها إطلاقا، إنما رضوا من حكامها بالجزية التي ستسمح لهم بالمرور شمالا إزاء إغلاقهم للحدود الشمالية على البحر المتوسط والشرقية بسيناء. كما أن التعبير «ربة كيس» فيه تلاعب واضح؛ لأنه في أصله الصادق «مقر الربة كيس» وليس «مقر ربة كيس»، والنص عبارة عن نقش أمرت بكتابته الملكة حتشبسوت على واجهة معبد إقليمي، يوعز لنا «فليكوفسكي» أنه كان في سيناء ليتيسر له الزعم بهبوطه تحت الأرض أثناء الكارثة. رغم المعلوم أن المعبد المذكور في منطقة إسطبل عنتر الحالية بمصر القديمة (أحد أحياء جنوب القاهرة الحالية)، وهو الذي أطلق عليه اليونان اسم «سيبيوس أرتميدس»، ويبدو أن معبد الإلهة «كيس» أهمل زمنا أتاح للرمال أن تتراكم عليه «أزلت ما تراكم عليه»، وهي ظاهرة نعرفها في بلادنا. أما التعبير الوحيد الذي استند إليه صاحبنا في انخفاض الأرض المتزلزلة بفعل رب التوراة وقت الكارثة، وهو تعبير مجازي واضح يشير إلى تراكم الرمل على المعبد، يقول: «ابتلعت الأرض حرمها المقدس.» وليس هناك أية إشارة لانخفاض الأرض وإلا أشارت «حتشبسوت» للأمر بوضوح. أما كوننا نذهب إلى عدم تجاوز الهكسوس لسيناء وشرقي الدلتا، فهو واضح في قول حتشبسوت: «كان الآسيويون في «حواريس في شمال البلاد»، وكانت من بينهم حشود تقوم بهدم ما سبق تشييده، كانوا يحكمون بغير مشورة رع.»
Неизвестная страница