[المجلد الأول]
من هو الصّحابيّ؟
الصّحابيّ لغة:
مشتقّ من الصّحبة، وليس مشتقّا من قدر خاصّ منها، بل هو جار على كل من صحب غيره قليلا أو كثيرا.
كما أنّ قولك: مكلّم، ومخاطب، وضارب، مشتق من المكالمة، والمخاطبة، والضّرب.
وجار على كلّ من وقع منه ذلك، قليلا أو كثيرا. يقال: صحبت فلانا حولا وشهرا ويوما وساعة وهذا يوجب في حكم اللّغة اجراءها على من صحب النبي ﷺ ساعة من نهار.
قال السّخاويّ: «الصّحابيّ لغة: يقع على من صحب أقلّ ما يطلق عليه اسم صحبة، فضلا عمّن طالت صحبته وكثرت مجالسته» [(١)] .
الصّحابيّ عند علماء الأصول
قال أبو الحسين في «المعتمد»: هو من طالت مجالسته له على طريق التّبع له والأخذ عنه، أما من طالت بدون قصد الاتباع أو لم تطل كالوافدين فلا.
وقال الكيا الطّبريّ: هو من ظهرت صحبته لرسول اللَّه ﷺ صحبة القرين قرينه حتى يعد من أحزابه وخدمه المتصلين به.
قال صاحب «الواضح»: وهذا قول شيوخ المعتزلة. وقال ابن فورك: هو من أكثر مجالسته واختص به.
الصّحابيّ عند علماء الحديث
قال ابن الصّلاح حكاية عن أبي المظفّر السّمعانيّ أنه قال: أصحاب الحديث يطلقون اسم الصّحابة على كل من روى عنه حديثا أو كلمة، ويتوسعون حتى يعدون من رآه رؤية من
_________
[(١)] فتح المغيث للسّخاوي ٣/ ٨٦.
1 / 7
الصّحابة، وهذا لشرف منزلة النبي ﷺ أعطوا كل من رآه حكم الصّحابة [(١)] .
وقال سيّد التّابعين سعيد بن المسيّب: الصّحابي من أقام مع رسول اللَّه ﷺ سنة أو سنتين، وغزا معه غزوة أو غزوتين [(٢)] .
ووجهه أن لصحبته ﷺ شرفا عظيما فلا تنال إلا باجتماع طويل يظهر فيه الخلق المطبوع عليه الشخص كالغزو المشتمل على السّفر الّذي هو قطعة من العذاب، والسّنة المشتملة على الفصول الأربعة التي يختلف فيها المزاج.
وقال بدر الدّين بن جماعة [(٣)]: وهذا ضعيف، لأنه يقتضي أنه لا يعد جرير بن عبد اللَّه البجليّ، ووائل بن حجر وأضرابهما من الصحابة، ولا خلاف أنهم صحابة.
وقال العراقيّ: ولا يصح هذا عن ابن المسيّب، ففي الإسناد إليه محمّد بن عمر الواقديّ شيخ ابن سعد ضعيف في الحديث [(٤)] .
وقال الواقديّ: ورأيت أهل العلم يقولون: كل من رأى رسول اللَّه ﷺ وقد أدرك الحلم فأسلم وعقل أمر الدّين ورضيه فهو عندنا ممّن صحب النبيّ ﷺ ولو ساعة من نهار [(٥)] .
وهذا التعريف غير جامع، لأنه يخرج بعض الصحابة ممّن هم دون الحلم ورووا عنه كعبد اللَّه بن عبّاس، وسيّدي شباب أهل الجنّة الحسن والحسين، وابن الزبير.
قال العراقيّ: والتّقييد بالبلوغ شاذّ [(٦)] .
وقال السّيوطيّ في «تدريب الرّاوي»: ولا يشترط البلوغ على الصّحيح، وإلا لخرج من أجمع على عدّه في الصّحابة.
والأصح ما قيل في تعريف الصّحابيّ أنه «من لقي النبيّ ﷺ في حياته مسلما ومات على إسلامه.
_________
[(١)] المقدمة ص ١١٨، وفتح المغيث للعراقي ٤/ ٣، ٣١.
[(٢)] الكفاية ٦٩، وعلوم الحديث ٢٩٣، المنهل الرّويّ ١١٧، تدريب الرّاوي ٢/ ٢١١.
[(٣)] المنهل ١١٧ بتصرف، وتدريب الرّاوي ٢/ ٢١١.
[(٤)] تدريب الرّاوي ٢/ ٢١٢.
[(٥)] فتح المغيث ٤/ ٣٢ والكفاية ٥.
[(٦)] فتح المغيث ٤/ ٣٢.
1 / 8
شرح التّعريف:
(من لقي النّبيّ ﷺ: جنس في التّعريف يشمل كل من لقيه في حياته، وأمّا من رآه بعد موته قبل دفنه ﷺ فلا يكون صحابيّا كأبي ذؤيب الهذليّ الشّاعر فإنه رآه قبل دفنه.
(مسلما): خرج به من لقيه كافرا وأسلم بعد وفاته كرسول قيصر فلا صحبة له.
(ومات على إسلامه): خرج به من كفر بعد إسلامه ومات كافرا.
أما من ارتدّ بعده ثم أسلم ومات مسلما فقال العراقيّ: فيهم نظر، لأن الشّافعيّ وأبا حنيفة نصّا على أن الردّة محبطة للصّحبة السابقة كقرّة بن ميسرة والأشعث بن قيس.
وجزم الحافظ ابن حجر شيخ الإسلام ببقاء اسم الصّحبة له كمن رجع إلى الإسلام في حياته كعبد اللَّه بن أبي سرح.
وهل يشترط لقيه في حال النّبوة أو أعم من ذلك حتى يدخل من رآه قبلها ومات على الحنيفية كزيد بن عمرو بن نفيل، وكذا من رآه قبلها وأسلم بعد البعثة ولم يره؟.
قال العراقيّ: ولم أر من تعرّض لذلك، وقد عد ابن مندة زيد بن عمرو في الصّحابة.
هل من الملائكة صحابة؟
الملائكة أجسام نورانيّة قادرة على التّشكيل والظهور بأشكال مختلفة، وهي تتشكل بأشكال حسنة، شأنها الطاعة وأحوال جبريل مع النبي ﷺ حين تبليغه الوحي وظهوره في صورة دحية الكلبي تؤيد رجحان هذا التعريف للملائكة على غيره.
والملائكة لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة ولا يتوالدون، فمن وصفهم بذكورة فسق ومن وصفهم بأنوثة أو خنوثة كفر، لقوله تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ [(١)] الآية، ومسكنهم السموات ومنهم من يسكن الأرض.
وقد دل على وجودهم الكتاب والسنّة والإجماع فالمنكر كافر، وإذا فيجب الإيمان إجمالا فيمن علم منهم إجمالا، وتفصيلا فيمن علم بالشخص كجبريل وميكائيل أو بالنوع كحملة العرش والحافين من حوله والكتبة والحفظة وقد خلق اللَّه الملائكة جندا له منفذين لأوامره في خلقه فمنهم ساكن السّماوات وأفضلهم حملة العرش والحافّين من حوله وهم الكروبيون، ومنهم الموكلون بالنار وهم الزبانية مع مالك ومنهم الموكلون بالجنة لإعداد النعيم مع رضوان، ومنهم سفير اللَّه إلى أنبيائه وهو جبريل، والموكل بالمطر والسحاب
_________
[(١)] الزخرف: ١٩.
1 / 9
والرزق وهو ميكائيل، وصاحب النفخ وهو إسرافيل، والموكلون بحفظ بني آدم والكاتبون لأعمالهم، ومنهم منكر ونكير فتانا القبر، ومنهم ملك الموت وأعوانه وهو عزرائيل وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ.
عصمة الملائكة
والقول الحق أنهم معصومون يستحيل صدور الذنوب منهم كبيرة كانت أو صغيرة بدليل قوله تعالى: لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [(١)] .
وقوله: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ [(٢)] . وقوله: يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [(٣)] . وقوله: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ [(٤)] . أي أن شأنهم وحياتهم التي فطروا عليهما هي الخضوع والعبادة واللَّه أعلم وهل هم صحابة أم لا؟. أجاب الحافظ ابن حجر ﵀ فقال: وهل تدخل الملائكة محل نظر؟، وقد قال بعضهم إن ذلك ينبئ على أنه هل كان مبعوثا إليهم أو لا. وقد نقل الإمام فخر الدّين في «أسرار التّنزيل» الإجماع على أنه ﷺ لم يكن مرسلا إلى الملائكة ونوزع في هذا النقل بل رجح الشيخ تقيّ الدّين السّبكيّ أنه كان مرسلا إليهم.
هل من الجن صحابة؟!
اختلف علماء التّوحيد في بيان حقيقة الجن، فقال بعضهم بتغاير حقيقته، فعرّفوا الجن بأنها أجسام هوائية لطيفة تتشكل بأشكال مختلفة وتظهر منها أفعال عجيبة، منهم المؤمن ومنهم الكافر.
أما الشّياطين: فهي أجسام نارية شأنها إقامة النفس في الغواية والفساد.
وقال آخرون إن حقيقتها واحدة وهي أجسام نارية عاقلة قابلة للتشكل بأشكال حسنة أو قبيحة، وهم كبني آدم يأكلون ويشربون ويتناسلون ويكلفون، منهم المؤمن ومنهم العاصي، أما الشّيطان فاسم للعاصي، ويدل على ذلك قوله تعالى: وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ [(٥)] . كما يدل على تكليفهم ووجودهم قوله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ.
الآيات، وقوله: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَدًا [(٦)] . وحيث ثبت وجودهم بكلام اللَّه وكلام أنبيائه
_________
[(١)] التحريم: ٦.
[(٢)] الأنبياء: ٢٠.
[(٣)] النحل: ٥٠.
[(٤)] الأعراف: ٢٠٦.
[(٥)] الحجر: ٢٧.
[(٦)] الأحقاف: ٢٩.
1 / 10
وانعقد عليه الإجماع كان الإيمان بما ثبت واجبا ومنكره كافر.. والسؤال بعد ذلك هل هم داخلون في الصحابة الحق؟.
نعم. يدخل في الصّحابة رضوان اللَّه تعالى عليهم من رآه ﷺ أو لقيه مؤمنا به من الجنّ، لأنه ﷺ بعث إليهم قطعا وهم مكلّفون، وفيهم العصاة والطّائعون.
قال الحافظ ابن حجر، الرّاجح دخولهم، لأن النبي ﷺ بعث إليهم قطعا.
قال السّبكيّ في فتاويه: كونه ﷺ مبعوثا إلى الإنس والجن كافّة وأن رسالته شاملة للثقلين فلا أعلم فيه خلافا، ونقل جماعة الإجماع عليه.
قال السّبكيّ: والدّليل عليه قبل الإجماع الكتاب والسّنة، أما الكتاب فآيات منها قوله تعالى: لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيرًا. [(١)]
وقد أجمع المفسّرون على دخول الجنّ في ذلك في هذه الآية. ومع ذلك هو مدلول لفظها، فلا يخرج عنه إلّا بدليل.
ومنها قوله تعالى في سورة الأحقاف: فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ [(٢)] .
والمنذرون هم المخوفون مما يلحق بمخالفته لوم، فلو لم يكن مبعوثا إليهم لما كان القرآن الّذي أتى به لازما لهم ولا خوفوا به.
ومنها قولهم فيها، أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ فأمر بعضهم بعضا بإجابته دليل على أنه داع لهم، وهو معنى بعثه إليهم.
ومنها قولهم: وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ ... الآية، وذلك يقتضي ترتيب المغفرة على الإيمان به، وأن الإيمان به شرط فيها، وإنّما يكون كذلك إذا تعلّق حكم رسالته بهم، وهو معنى كونه مبعوثا إليهم.
ومنها قولهم: وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ الآية، فعدم إعجازهم وأوليائهم، وكونهم في ضلال مرتّب على عدم إجابته، وذلك أدلّ دليل على بعثته إليهم.
ومنها قوله تعالى: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ [(٣)] . فهذا تهديد ووعيد شامل لهم وارد على لسان رسوله ﷺ عن اللَّه، وهو يقتضي كونه مرسلا إليهم، وأيّ معنى للرسالة غير ذلك وكذلك مخاطبتهم في بقيّة السورة بقوله: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ، [(٤)] وغير ذلك من الآيات التي تضمّنتها هذه السورة.
_________
[(١)] الفرقان: ١.
[(٢)] الأحقاف: ٢٩.
[(٣)] الرحمن: ٣١.
[(٤)] الرحمن: ٤٦.
1 / 11
ومنها قوله تعالى في سورة الجنّ: فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَدًا [(١)]، فإن قوة هذا الكلام تقتضي أنهم انقادوا له وآمنوا بعد شركهم، وذلك يقتضي أنّهم فهموا أنّهم مكلّفون به، وكذلك كثير من الآيات التي في هذه السّورة التي خاطبوا بها قومهم.
ومنها قولهم فيها: وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ [(٢)]، وكذا قولهم: فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا [(٣)] الآيات.
ومنها قوله تعالى: قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [(٤)] .
فهذه الآية تقتضي أن النبي ﷺ منذر بالقرآن كله من بلغه القرآن جنيّا كان أو إنسيّا، وهي في الدّلالة كآية الفرقان أو أصرح، فإن احتمال عود الضّمير على الفرقان غير وارد هنا، فهذه مواضع في الفرقان تدل على ذلك دلالة قوية، أقواها آية الأنعام هذه، وتليها آية الفرقان، وتليها آيات الأحقاف، وتليها آيات الرحمن، وخطابها في عدّة آيات: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، وتليها سورة الجنّ، فقد جاء ترتيبها في الدلالة والقوة كترتيبها في المصحف، وفي القرآن أيضا ما يدلّ لذلك، ولكن دلالة الإطلاق اعتمدها كثير من العلماء في مباحث، وهو اعتماد جيد وهو هنا أجود، لأن الأمر بالإنذار، والمطلق إذا لم يتقيّد بقيد يدل على تمكن المأمور في الإتيان به في أي فرد شاء من أفراده وفي كلها، وهو ﷺ كامل الشفقة على خلق اللَّه، والنصيحة لهم والدعاء إلى اللَّه تعالى، فمع تمكنه من ذلك لا يتركه في شخص من الأشخاص، ولا في زمن من الأزمان، ولا في مكان من الأمكنة، وهكذا كانت حالته- ﷺ، ويعلم أيضا من الشريعة أن اللَّه تعالى لم يرده قوله: قُمْ فَأَنْذِرْ [(٥)] مطلق الإنذار حتى يكتفي بإنذار واحد لشخص واحد، بل أراد التّشمير والاجتهاد في ذلك، فهذه القرائن تفيد الأمر بالإنذار لكل من يفيد فيه الإنذار، والجن بهذه الصّفة، لأنه كان فيهم سفهاء وقاسطون وهم مكلفون فإذا أنذروا رجعوا عن ضلالهم فلا يترك النبي ﷺ دعاءهم، والآية بالقرائن المذكورة مفيدة للأمر بذلك فثبتت البعثة إليهم بذلك، ومنها كل آية فيها لفظ المؤمنين ولفظ الكافرين مما فيه أمر أو نهي ونحو ذلك فإنّ المؤمنين والكافرين صفتان لمحذوف، والموصوف المحذوف يتعيّن أن يكون النّاس بل المكلّفون أعمّ من أن يكونوا إنسا أو جنّا، وإذا ثبت ذلك أمكن الاستدلال بما لا يعدّ ولا يحصى من الآيات كقوله تعالى:
_________
[(١)] الجن: ٢.
[(٢)] الجن: ١٣.
[(٣)] الجن: ١٤.
[(٤)] الأنعام: ١٩.
[(٥)] المدثر: ٢.
1 / 12
فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ، أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [(١)] فالجن الذين لم يتبعوه ليسوا مفلحين، وإنما يكون كذلك، وإذا ثبتت رسالته في حقهم.
وكقوله تعالى: لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ [(٢)]، وكقوله: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [(٣)]، ونحو ذلك من الآيات أيضا قوله تعالى: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ [(٤)]، ومن الجن كذلك، ولو تتبّعنا الآيات التي من هذا الجنس لوجدناها جاءت كثيرة.
واعلم أن المقصود بتكثير الأدلة أن الآية الواحدة والآيتين قد يمكن تأويلها، ويتطرّق إليها الاحتمال فإذا كثرت قد تترقى إلى حدّ يقطع بإرادة ظاهرها، وبقي الاحتمال والتأويل عنها.
وأمّا السّنّة
ففي صحيح مسلم من حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول اللَّه ﷺ قال: (فضّلت على الأنبياء بستّ: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرّعب، وأحلّت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافّة، وخيم بي التّيسيّون) [(٥)] .
ومحل الاستدلال قوله: (وأرسلت إلى الخلق كافّة)، فإنه يشمل الجن والإنس، وحمله على الإنس خاصّة تخصيص بغير دليل فلا يجوز، والكلام فيه كالكلام في قوله تعالى: لِلْعالَمِينَ.
فإن قال قائل: على أن المراد بالخلق الناس
رواية البخاري من حديث جابر عن النبي ﷺ قال: (أعطيت خمسا لم يعطهنّ أحد من الأنبياء قبلي)
[(٦)]، فذكر من جملتها:
_________
[(١)] الأعراف: ١٥٧.
[(٢)] الأحقاف: ١٢.
[(٣)] البقرة: ٢.
[(٤)] يس: ١١.
[(٥)] أخرجه مسلم في الصحيح ١/ ٣٧١- ٣٧٢ كتاب المساجد ومواضع الصلاة (٥) حديث رقم (٥/ ٥٢٣) والترمذي في السنن ٤/ ١٠٤- ١٠٥ كتاب السير (٢٢) باب ما جاء في الغنيمة (٥) حديث رقم ١٥٥٣ وقال حسن صحيح وأحمد في المسند ٢/ ٤١٢- والبيهقي في السنن ٢/ ٤٣٢، ٩/ ٥ والبيهقي في دلائل النبوة ٥/ ٤٧٢- وذكره الهيثمي في الزوائد ٨/ ٢٦٩- والهندي في كنز العمال حديث رقم ٣١٩٣٢.
[(٦)] متفق عليه من حديث جابر بن عبد اللَّه ﵁ أخرجه البخاري في الصحيح ١/ ٤٣٥- ٤٣٦ كتاب القيم (٧) باب (١) حديث رقم (٣٣٥) - واللفظ له- ومسلم في الصحيح ١/ ٣٧٠ كتاب المساجد (٥) حديث رقم (٣/ ٥٢١) وأحمد في المسند ٣/ ٣٠٤، ٥/ ١٤٨- والدارميّ في السنن ٢/ ٢٢٤ والبيهقي في السنن ١/ ٢١٢، ٢/ ٣٢٩، ٤٣٣، ٦/ ٢٩١، ٩/ ٤٠ وأبو نعيم في الحلية ٨/ ٣١٦- وابن أبي شيبة
1 / 13
«وأرسلت إلى النّاس كافّة»،
قلنا: لو كان هذا حديثا واحدا كنا نقول: لعلّ هذا اختلاف من الرّواة، ولكن الّذي ينبغي أن يقال: إنهما حديثان، لأن حديث مسلم من رواية أبي هريرة، وفيه ست خصال، وحديث البخاريّ من رواية جابر وفيه خمس خصال.
والظّاهر أنّ النّبي ﷺ قالهما في وقتين، وفي حديث مسلم زيادة في عدة الخصال، وفي سنن المرسل إليهم فيجب إثباتها زيادة على حديث جابر، وليس بنا ضرورة إلى حمل أحد الحديثين على الآخر إذ لا منافاة بينهما، بل هما حديثان مختلفا المخرج والمعنى، وإن كان بينهما اشتراك في أكثر الأشياء، وخرج كل من صاحبي الصّحيحين واحدا منها ولم يذكر الآخر.
فهذا الحديث الّذي ذكرناه عن مسلم واستدللنا به أصرح الأحاديث الصحيحة الدالة على شمول الرّسالة للجنّ والإنس.
ومن الأدلّة أيضا أن النّبي ﷺ خاتم النبيين وشريعته آخر الشرائع وناسخة لكل شريعة قبلها، ولا شريعة باقية الآن غير شريعته، ولذلك إذا نزل عيسى ابن مريم ﷺ إنّما يحكم بشريعة محمّد ﷺ فلو لم يكن الجن مكلفين بها لكانوا إمّا مكلفين بشريعة غيرها، وهو خلاف ما تقرّر، وإمّا ألّا يكونوا مكلّفين أصلا، ولم يقل أحد بذلك، ولا يمكن القول به، لأن القرآن كله مليء بتكليفهم، قال تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ وقال قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ إلى غير ذلك من الآيات، ودخولهم النار دليل على تكليفهم، وهذا أوضح من أن يقام عليه دليل، فإن تكليفهم معلوم من الشرع بالضرورة، وتكليفهم بغير هذه الشّريعة يستلزم بقاء شريعة معها، فثبت أنّهم مكلّفون بهذه الشريعة كالإنس [(١)] .
وقال ابن حزم الظّاهريّ:
قد أعلمنا اللَّه أن نفرا من الجن آمنوا وسمعوا القرآن من النبي ﷺ ففيهم صحابة فضلاء. هذا واللَّه تعالى أعلى وأعلم.
_________
[(١١)] / ٤٣٢ والبخاري في التاريخ الكبير ٤/ ١١٤، ٥/ ٤٥٥ وذكره المنذري في الترغيب ٤/ ٤٣٣- والهيثمي في الزوائد ٨/ ٦١، ٦٢ والهندي في كنز العمال حديث رقم ٣١٩٣٠، ٣٢٠٥٩، ٣٢٠٦٠، ٣٢٠٦١، ٣٢٠٦٢.
[(١)] انظر فتاوى السبكي ٢/ ٥٩٤ وما بعدها بتصرف.
1 / 14
بم يعرف الصّحابيّ؟
يعرف الصّحابيّ بأحد الأدلّة التّالية:
أولا: التّواتر، وهو رواية جمع عن جمع يستحيل عادة تواطؤهم على الكذب، وذلك كأبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وبقيّة العشرة المبشّرين بالجنّة- ﵃.
ثانيا: الشّهرة أو الاستفاضة القاصرة عن حد التواتر كما في أمر ضمام بن ثعلبة، وعكاشة بن محصن.
ثالثا: أن يروى عن آحاد الصّحابة أنه صحابي كما في حممة بن أبي أحممة الدّوسيّ الّذي مات ب «أصبهان» مبطونا فشهد له أبو موسى الأشعريّ أنه سمع النّبي ﷺ حكم له بالشهادة، هكذا ذكره أبو نعيم في «تاريخ أصبهان» .
رابعا: أن يخبر أحد التّابعين بأنه صحابي بناء على قبول التّزكية من واحد عدل وهو الرّاجح.
خامسا: أن يخبر هو عن نفسه بأنه صحابيّ بعد ثبوت عدالته ومعاصرته، فإنه بعد ذلك لا يقبل ادّعاؤه بأنه رأى النبي ﷺ أو سمعه،
لقوله ﷺ في الحديث الصحيح: «أرأيتكم ليلتكم هذه، فإنّه على رأس مائة سنة منه لا يبقى أحد ممّن على ظهر الأرض ...» [(١)] .
يريد بهذا انخرام ذلك القرن، وقد قال النبي ﷺ ذلك في سنة وفاته، ومن هذا المأخذ لم يقبل الأئمّة قول من ادّعى الصّحبة بعد الغاية المذكورة.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر في «الإصابة» - هنا- ضابطا يستفاد منه معرفة جمع كثير من الصّحابة يكتفى فيهم بوصف يتضمّن أنهم صحابة، وهو مأخوذ من ثلاثة آثار:
أحدها: أنهم كانوا لا يؤمّرون في المغازي إلا الصّحابة، فمن تتبّع الأخبار الواردة من الرّدة والفتوح وجد من ذلك الكثير.
_________
[(١)] أخرجه البخاري في الصحيح ١/ ٢٣٥ كتاب مواقيت الصلاة باب ذكر العشاء والعتمة حديث رقم ٥٦٤ ومسلم في الصحيح ٤/ ١٩٦٥ كتاب فضائل الصحابة (٤٤) باب
قوله ﷺ لا تأتي مائة سنة وعلى الأرض نفس منفوسة اليوم
(٥٣) حديث رقم (٢١٧/ ٢٥٣٧) والترمذي في السنن ٤/ ٤٥١ كتاب الفتن (٣٤) باب (٦٤) حديث رقم ٢٢٥١- وأحمد في المسند ٢/ ٢٢١ والبيهقي في السنن ١/ ٤٥٣، ٩/ ٧ والبيهقي في دلائل النبوة ٦/ ٥٠٠ والحاكم في المستدرك ٢/ ٣٧ وذكره الهندي في كنز العمال حديث رقم ٣٨٣٤٤.
1 / 15
ثانيها: أن عبد الرّحمن بن عوف قال: كان لا يولد لأحد مولود إلا أتى به النبي ﷺ فدعا له، وهذا أيضا يوجد منه الكثير.
ثالثها: أنه لم يبق بالمدينة ولا بمكّة ولا الطّائف ولا من بينها من الأعراف إلا من أسلم وشهد حجّة الوداع، فمن كان في ذلك الوقت موجودا اندرج فيهم، لحصول رؤيتهم للنبيّ ﷺ وإن لم يرهم هو.
قال الذّهبيّ في «الميزان» في ترجمة «رتن» ٢/ ٤٥ «وما أدراك ما رتن؟! شيخ دجّال بلا ريب، ظهر بعد السّتمائة فادّعى الصّحبة، والصّحابة لا يكذبون وهذا جريء على اللَّه ورسوله، وقد ألّفت في أمره جزءا» .
حكمة اللَّه في اختيار الصّحابة
الواقع أنّ العقل المجرّد من الهوى والتعصّب، يحيل على اللَّه في حكمته ورحمته، أن يختار لحمل شريعته الختاميّة أمة مغموزة أو طائفة ملموزة تعالى اللَّه عن ذلك علوّا كبيرا، ومن هنا كان توثيق هذه الطّبقة الكريمة طبقة الصّحابة، يعتبر دفاعا عن الكتاب والسّنّة وأصول الإسلام من ناحية، ويعتبر إنصافا أدبيّا لمن يستحقونه من ناحية ثانية، ويعتبر تقديرا لحكمة اللَّه البالغة في اختيارهم لهذه المهمّة العظمى من ناحية ثالثة، كما أن توهينهم والنيل منهم يعدّ غمزا في هذا الاختيار الحكيم، ولمزا في ذلك الاصطفاء والتّكريم فوق ما فيه من هدم الكتاب والسنّة والدّين.
على أن المتصفّح لتاريخ الأمّة العربية وطبائعها ومميزاتها يرى من سلامة عنصرها وصفاء جوهرها، وسمو مميزاتها، ما يجعله يحكم مطمئنّا بأنّها صارت خير أمّة أخرجت للنّاس بعد أن صهرها الإسلام، وطهرها القرآن ونفى خبثها سيّد الأنام، ﵊.
ولكن الإسلام قد ابتلي حديثا بمثل أو بأشدّ ممّا ابتلي به قديما، فانطلقت ألسنة في هذا العصر ترجف في كتاب اللَّه بغير علم، وتخوض في السّنة بغير دليل، وتطعن في الصّحابة دون استحياء، وتنال من حفظة الشريعة بلا حجّة، وتتهمهم تارة بسوء الحفظ، وأخرى بالتزيد وعدم التثبت، وقد زوّدناك، وسلّحناك، فانزل في الميدان ولا تخش عداك.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ.
نصرنا اللَّه بنصرة الإسلام، وثبت منا الأقدام والحمد للَّه في البدء والختام
.
1 / 16
مرتبة الصّحابة
للصّحابة- ﵃ أجمعين- خصيصة، وهي أنه لا يسأل عن عدالة أحد منهم، وذلك أمر مسلّم به عند كافّة العلماء، لكونهم على الإطلاق معدلين بنصوص الشرع من الكتاب والسّنة، وإجماع من يعتدّ به في الإجماع من الأمّة.
فأمّا الكتاب:
قال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ، تَراهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانًا، سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ، ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ، وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ، فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ، وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [(١)] .
وقال تعالى: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانًا، وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ. وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ، وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا، وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ، وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [(٢)] .
وقال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [(٣)] .
وقال تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ، فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ، وَأَثابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [(٤)] .
وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [(٥)] .
وقال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ، وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَدًا، ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [(٦)] .
وقال تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [(٧)] .
_________
[(١)] الفتح: ٢٩.
[(٢)] الحشر: ٨- ٩.
[(٣)] الأنفال: ٧٤.
[(٤)] الفتح: ١٨.
[(٥)] التوبة: ١١٨.
[(٦)] التوبة: ١٠٠.
[(٧)] البقرة: ١٤٣.
1 / 17
والوسط: الخيار والعدول، فهم خير الأمم وأعدلها في أقوالهم وأعمالهم وإرادتهم ونيّاتهم، وبهذا استحقوا أن يكونوا شهداء للرّسل على أممهم يوم القيامة، واللَّه تعالى يقبل شهادتهم عليهم فهم شهداؤه، ولهذا نوّه بهم ورفع ذكرهم وأثنى عليهم، لأنه تعالى لما اتخذهم شهداء أعلم خلقه من الملائكة وغيرهم بحال هؤلاء الشهداء، وأمر ملائكته أن تصلّي عليهم وتدعو لهم وتستغفر لهم، والشّاهد المقبول عند اللَّه هو الّذي يشهد بعلم وصدق فيخبر بالحق مستندا إلى علمه به، كما قال تعالى: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [(١)] [(٢)] .
وقال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [(٣)] .
ويدخل في الخطاب الصَّحابيّ من باب أولى، فلقد شهد بأنهم يأمرون بكل معروف وينهون عن كل منكر.
وقال تعالى: وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ، وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ، وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [(٤)] .
فأخبر تعالى أنه اجتباهم، والاجتباء كالاصطفاء، وهو افتعال من «اجتبى الشّيء يجتبيه»، إذا ضمّه إليه وحازه إلى نفسه، فهم المجتبون الّذين اجتباهم اللَّه إليه وجعلهم أهله وخاصّته وصفوته من خلقه بعد النّبيين والمرسلين، ولهذا أمرهم تعالى أن يجاهدوا فيه حقّ جهاده ويبذلوا له أنفسهم ويفردوه بالمحبّة والعبوديّة، ويختاروه وحده إلها معبودا محبوبا على كل ما سواه، كما اختارهم على من سواهم، فيتخذونه وحده إلههم ومعبودهم الّذي يتقربون إليه بألسنتهم وجوارحهم وقلوبهم ومحبتهم وإرادتهم، فيؤثرونه في كل حال على من سواه كما اتخذهم عبيده وأولياءه وأحبّاءه، وآثرهم بذلك على من سواهم، ثم أخبرهم تعالى أنّه يسّر عليهم دينه غاية التّيسير، ولم يجعل عليهم فيه من حرج البتّة لكمال محبَّته لهم ورأفته ورحمته وحنانه بهم، ثم أمرهم بلزوم ملّة إمام الحنفاء أبيهم إبراهيم، وهي إفراده تعالى وحده بالعبودية والتعظيم والحبّ والخوف والرّجاء والتوكّل والإنابة والتفويض والاستسلام، فيكون تعلّق ذلك من قلوبهم به وحده لا بغيره، ثم أخبر تعالى أنه فعل ذلك
_________
[(١)] الزخرف: ٨٦.
[(٢)] أعلام الموقعين ٤/ ١٠٢.
[(٣)] آل عمران: ١١٠.
[(٤)] الحج: ٧٨.
1 / 18
ليشهد عليهم رسوله ويشهدوا هم على النّاس، فيكون مشهودا لهم بشهادة الرّسول، شاهدين على الأمم بقيام حجّة اللَّه عليهم [(١)] .
وقال تعالى: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى [(٢)] .
قال ابن عبّاس: أصحاب محمد ﷺ اصطفاهم اللَّه لنبيه ﵇ [(٣)] .
تلك آيات عظيمة نزلت من عند المولى ﷿ تشهد بفضل وعدالة جميع أصحاب النّبي ﷺ الّذين كانوا معه في المواقف الحاسمة في تاريخ الدّعوة الإسلامية ابتداء من دار الأرقم بن أبي الأرقم، وانتهاء بفتح المدائن.
فمن الأمور القطعيّة الثبوت والدّلالة أن عدالة أصحاب سيدنا رسول اللَّه ﷺ جاءت من فوق سبعة أرقعة، فلا يتصور لإنسان مهما أوتي من علم ومعرفة أن يطعن في صحابة رسول اللَّه ﷺ بعد شهادة اللَّه ﷿ لهم!! وهذا سنفرد له كلمة عن الحديث عن سيدنا «أبي هريرة» رضي اللَّه تعالى عنه.
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ، وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ [(٤)] .
وأمّا السّنّة:
وفي نصوص السّنّة النبويّة المشرّفة الشّاهدة بذلك كثرة منها:
عن أبي سعيد عن النّبي- ﵇ قال: «لا تسبّوا أصحابي، فو الّذي نفسي بيده لو أنّ أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه» [(٥)] .
_________
[(١)] أعلام الموقعين ٤/ ١٠٢.
[(٢)] النحل: ٥٩.
[(٣)] شرح السنن بتحقيقنا ٧/ ٧١ والدّليل عليه قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فاطر: ٣٢ وحقيقة الاصطفاء: افتعال من التّصفية فيكون قد صفّاهم من الأكدار والخطأ من الأكدار فيكونون مصفّين منه، ولا ينتقض هذا بما إذا اختلفوا، لأن الحق لم يعدهم، فلا يكون قول بعضهم كدرا، لأن مخالفته أكدر، وبيانه يزيل كونه كدرا بخلاف ما إذا قال بعضهم قولا ولا يخالف فيه فلو كان قولا باطلا ولم يرده راد لكان حقيقة الكدر، وهذا لأن خلاف بعضهم لبعض بمنزلة متابعة النبي ﷺ في بعض أموره، فإنّها لا تخرجه عن حقيقة الاصطفاء: أعلام الموقعين ٤/ ١٠٠.
[(٤)] التوبة: ٣٢.
[(٥)] أخرجه البخاريّ ٧/ ١٢ كتاب «فضائل الصّحابة» باب
قول النبي ﷺ «لو كنت متّخذا خليلا»
(٣٦٧٣) ومسلم ٤/ ١٩٦٧- ١٩٦٨ كتاب «فضائل الصّحابة»: باب تحريم سبّ الصحابة (٢٢٢- ٢٥٤١) وأبو
1 / 19
وهذا خطاب منه لخالد بن الوليد ولأقرانه من مسلمة الحديبيّة والفتح، فإذا كان مدّ أحد أصحابه أو نصيفه أفضل عند اللَّه من مثل أحد ذهبا من مثل خالد وأضرابه من أصحابه، فكيف يجوز أن يحرمهم اللَّه الصّواب في الفتاوى ويظفر به من بعدهم؟ هذا من أبين المحال [(١)]
وعن عبد اللَّه بن مغفّل المزنيّ قال: قال رسول اللَّه ﷺ: اللَّه اللَّه في أصحابي، اللَّه اللَّه في أصحابي لا تتّخذوهم غرضا بعدي، فمن أحبّهم فبحبّي أحبّهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى اللَّه، ومن آذى اللَّه فيوشك أن يأخذه [(٢)] .
وعن أبي موسى قال: صلّينا مع النّبيّ ﷺ المغرب، ثم قلنا: لو انتظرنا حتى نصلّي معه العشاء، فانتظرناه فخرج علينا، فقال: «ما زلتم ها هنا»، قال: قلنا: نعم يا رسول اللَّه، قلنا: نصلّي معك العشاء، قال: «أحسنتم وأصبتم»، ثم رفع رأسه إلى السّماء، وكان كثيرا ما يرفع رأسه إلى السّماء، قال: «النّجوم أمنة لأهل السّماء، فإذا ذهبت النّجوم أتى أهل السّماء ما يوعدون وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمّتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمّتي ما يوعدون» [(٣)] .
ووجه الاستدلال بالحديث أنه جعل نسبة أصحابه إلى من بعدهم كنسبته إلى أصحابه، وكنسبة النّجوم إلى السماء، ومن المعلوم أنّ هذا التّشبيه يعطي من وجوب اهتداء الأمة بهم ما هو نظير اهتدائهم بنبيّهم ﷺ ونظير اهتداء أهل الأرض بالنّجوم، وأيضا فإنه جعل بقاءهم بين الأمة أمنة لهم، وحرزا من الشّرّ وأسبابه [(٤)] .
وعن عمران بن حصين قال: قال رسول اللَّه ﷺ: «خير أمّتي القرن الّذي بعثت فيهم، ثمّ الَّذين يلونهم، ثمّ الّذين يلونهم» [(٥)] .
_________
[()] داود ٤/ ٢١٤ كتاب السنن: باب النّهي عن سب أصحاب رسول اللَّه ﷺ (٤٦٥٨) والترمذي ٥/ ٦٥٣ كتاب «المناقب»: باب فضل من بايع تحت الشجرة (٣٨٦١) .
[(١)] أعلام الموقعين لابن القيم ٤/ ١٠٥.
[(٢)] أخرجه التّرمذيّ ٥/ ٦٥٣ في المصدر السابق (٣٩٦٢) وصححه ابن حبان ذكره الهيثمي في «موارد الظّمآن» (٥٦٩) باب فضل أصحاب رسول اللَّه (٢٢٨٤) وأحمد في المسند ٤/ ٨٧.
[(٣)] أخرجه مسلم ٤/ ١٩٦١ كتاب «فضائل الصّحابة»: باب بيان أن بقاء النّبي ﷺ أمان لأصحابه (٢٠٧- ٢٥٣١) وأحمد في المسند ٤/ ٣٩٩.
[(٤)] أعلام الموقعين ٤/ ١٠٤، ١٠٥.
[(٥)] أخرجه مسلم في المصدر السابق ٢١٥١- ٢٥٣٥) والترمذي ٤/ ٤٣٤ كتاب الفتن: باب ما جاء في القرن الثالث (٢٢٢٢) وأبو داود ٤/ ٢١٤ كتاب السنة: باب في فضل أصحاب الرسول ﷺ (٤٦٥٧) وأحمد في المسند ٢/ ٢٢٢٨ والبيهقي في السنة ١٠/ ١٦٠ والطبراني في الكبير ١٨/ ٢١٣.
1 / 20
فأخبر النّبيّ ﷺ أن خير القرون قرنه مطلقا،
وذلك يقتضي تقديمهم في كل باب من أبواب الخير، وإلّا لو كان خيرا من بعض الوجوه فلا يكونون خير القرون مطلقا [(١)] .
وقد يقول قائل: إن هذه الأدلّة تتناول أصحاب رسول اللَّه ﷺ الذين كانوا معه قبل الفتح، وأمّا من أسلم بعد الفتح فلا دليل على عدالتهم، فأسوق جوابا له قول الدّكتور محمّد السّماحيّ: (وأما مسلمة الفتح والأعراب الوافدون على رسول اللَّه ﷺ فهؤلاء لم يتحملوا من السنة مثل ما تحمّل الصّحابة الملازمون لرسول اللَّه ﷺ ومن تعرّض منهم للرّواية كحكيم بن حزام، وعتّاب، وغيرهم عرفوا بالصّدق والدّيانة وغاية الأمانة على أنه ورد ما يجعلهم أفضل من سواهم من القرون بعدهم،
كقوله ﷺ: «خير القرون قرني ثمّ الّذين يلونهم ثمّ الّذين يلونهم ثمّ يفشو الكذب» [(٢)] .
وهو حديث صحيح مروي في «الصّحيحين»
وغيرهما بألفاظ مختلفة، والخيرية لا تكون إلا للعدول الذين يلتزمون الدّين والعمل به. وقال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [(٣)] .
والخطاب الشّفهيّ لصحابة رسول اللَّه ﷺ ومن حضر نزول الوحي، وهو يشمل جميعهم، وكذلك قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطًا، لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [(٤)]، وسطا: عدولا.
فالإسلام كان في أول شبابه فتيّا قويّا في قلوب من أذعنوا له واتّبعوا هداه، وتمسّكوا بمبادئه، واصطبغوا بصبغته، فكانت العدالة قوية في نفوسهم شائعة في آحادهم، حتى إننا نرى الذين وقعوا منهم في الكبائر ما لبثوا أن ساقتهم عزائمهم إلى الاعتراف وطلب الحدّ، ليطهروا به أنفسهم، وسارعوا إلى التّوبة حيث تاب اللَّه عليهم، ولا نريد بقولنا: الصحابة عدول- أكثر من أنّ ظاهرهم العدالة [(٥)] .
ثناء أهل العلم على الصّحابة
وهذا الثّناء للاستئناس وليس للتّدليل إذ لا يصحّ القول مع اللَّه ﷿ ورسوله ﷺ
_________
[(١)] أعلام الموقعين ٤/ ١٠٤.
[(٢)] أخرجه التّرمذي ٤/ ٤٧٦ (٢٣٠٣) وذكره ابن حجر في تلخيص الحبير ٤/ ٢٠٤.
[(٣)] آل عمران: ١١٠.
[(٤)] البقرة: ١٤٣.
[(٥)] المنهج الحديث في علوم الحديث ص ٦٣ نقلا عن السنة قبل التدوين د. الخطيب، وانظر السنة قبل التدوين ٤٠١، ٤٠٢.
1 / 21
حيث نص اللَّه ورسوله على عدالتهم، فهل بعد تعديل اللَّه ﷿ رسوله ﷺ تعديل؟!! فأقول وللَّه الحمد والمنّة:
قال الإمام النّوويّ: الصّحابة كلهم عدول، من لابس الفتن وغيرهم بإجماع من يعتدّ به [(١)] .
قال إمام الحرمين: والسّبب في عدم الفحص عن عدالتهم أنهم حملة الشّريعة، فلو ثبت توقّف في روايتهم لانحصرت الشّريعة على عصره ﷺ ولما استرسلت سائر الأعصار.
قال أبو زرعة الرّازيّ: إذا رأيت الرّجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول اللَّه ﷺ فاعلم أنه زنديق، وذلك أنّ الرسول حق، والقرآن حق، وما جاء به حق، وإنما أدى ذلك كله إلينا الصحابة، وهؤلاء الزّنادقة يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسّنّة فالجرح بهم أولى.
قال ابن الصّلاح: «ثم إن الأمة مجمعة على تعديل جميع الصّحابة ومن لابس الفتن منهم، فكذلك بإجماع العلماء الذين يعتدّ بهم في الإجماع إحسانا للظّنّ بهم، ونظرا إلى ما تمهد لهم من المآثر، وكأن اللَّه ﷾ أتاح الإجماع على ذلك لكونهم نقلة الشّريعة» [(٢)] .
قال الخطيب البغداديّ في الكفاية» مبوبا على عدالتهم:
ما جاء في تعديل اللَّه ورسوله للصّحابة، وأنه لا يحتاج إلى سؤال عنهم، وإنما يجب فيمن دونهم كل حديث اتّصل إسناده بين من رواه وبين النّبيّ ﷺ لم يلزم العمل به إلا بعد ثبوت عدالة رجاله، ويجب النّظر في أحوالهم سوى الصّحابي الّذي رفعه إلى رسول اللَّه ﷺ، لأن عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل اللَّه لهم، وإخباره عن طهارتهم واختياره لهم في نص القرآن.
والأخبار في هذا المعنى تتّسع، وكلها مطابقة لما ورد في نصّ القرآن، وجميع ذلك يقتضي طهارة الصّحابة والقطع على تعديلهم ونزاهتهم، فلا يحتاج أحد منهم مع تعديل اللَّه تعالى لهم، المطّلع على بواطنهم إلى تعديل أحد من الخلق له [(٣)] .
وقال الإمام مالك: من انتقص أحدا من أصحاب النبي ﷺ فليس له في هذا الفيء حق، قد قسم اللَّه الفيء في ثلاثة أصناف فقال:
_________
[(١)] التقريب ٢١٤ مع التدريب.
[(٢)] الحديث والمحدثون ١٢٩، ١٣٠.
[(٣)] الكفاية ٤٦، ٤٨.
1 / 22
لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ، يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانًا، وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [(١)] .
ثم قال:
وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ، يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ، وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا، وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [(٢)] .
وهؤلاء هم الأنصار.
ثم قال:
وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ، وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا، رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [(٣)] .
فمن تنقّصهم فلا حق له في فيء المسلمين [(٤)] .
عقيدة أهل السّنّة في تفضيل الصّحابة
أجمع أهل السّنّة على أن أفضل الصّحابة بعد النّبي ﷺ على الإطلاق أبو بكر ثم عمر، وممّن حكى إجماعهم على ذلك أبو العبّاس القرطبي، فقال: ولم يختلف أحد في ذلك من أئمّة السّلف ولا الخلف، فقال: ولا مبالاة بأقوال أهل التّشيّع ولا أهل البدع، انتهى. وقد حكى الشّافعيّ وغيره إجماع الصّحابة والتابعين على ذلك، قال البيهقيّ في كتاب «الاعتقاد»: روينا عن أبي ثور عن الشّافعيّ قال: ما اختلف أحد من الصّحابة والتابعين في تفضيل أبي بكر وعمر وتقديمهما على جميع الصّحابة، وإنما اختلف من اختلف منهم في عليّ وعثمان [(٥)] .
وقال العلّامة الكمال بن الهمّام في «المسايرة»: فضل الصّحابة الأربعة على حسب ترتيبهم في الخلافة، إذ حقيقة الفضل ما هو فضل عند اللَّه تعالى، وذلك لا يطلع عليه إلا رسول اللَّه ﷺ وقد ورد عنه ثناؤه عليهم كلهم، ولا يتحقّق إدراك حقيقة تفضيله ﵇ لبعضهم على بعض إن لم يكن سمعيّا يصل إلينا قطعيّا في دلالته إلا الشاهدين لذلك الزمان، لظهور قرائن الأحوال لهم، وقد ثبت ذلك لنا صريحا ودلالة كما في صحيح البخاريّ من حديث عمرو بن العاص حين سأله ﵇:
_________
[(١)] الحشر: ٨.
[(٢)] الحشر: ٩.
[(٣)] الحشر: ١٠.
[(٤)] الشفا للقاضي عياض ١١١١، ١١١٢.
[(٥)] فتح المغيث للعراقي ٤/ ٤١.
1 / 23
من أحبّ النّاس إليك من الرّجال؟ فقال: «أبوها» . يعني عائشة ﵂ وتقديمه في الصّلاة على ما قدّمنا مع أن الاتّفاق على أن السّنّة أن يقدم على القوم أفضلهم علما، وقراءة، وخلقا، وورعا، فثبت أنه كان أفضل الصّحابة، وصحّ من حديث ابن عمر في صحيح البخاريّ قال: كنا في زمن النّبي ﷺ لا نعدل بأبي بكر أحدا ثم عمر ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النّبي ﷺ لا نعدل بأبي بكر أحدا ثم عمر ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي ﷺ لا نفاضل بينهم،
وصحّ فيه من حديث محمّد بن الحنفيّة: قلت لأبي: أيّ النّاس خير بعد رسول اللَّه ﷺ؟ فقال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر، وخشيت أن يقول عثمان، قلت: ثم أنت قال: ما أنا إلا واحد من المسلمين،
فهذا عليّ نفسه مصرّح بأن أبا بكر أفضل النّاس، وأفاد بعد ما ذكرنا تفضيل أبي بكر وحده على الكلّ، وفي بعض ترتيب الثّلاثة، ولما أجمعوا على تقديم عليّ بعدهم دل على أنه كان أفضل من بحضرته وكان منهم الزّبير وطلحة فثبت أنه كان أفضل الخلق بعد الثلاثة.
هذا واعتقاد أهل السّنّة تزكية جميع الصّحابة والثناء عليهم، كما أثنى اللَّه ﷾ عليهم إذ قال:
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [(١)] . [(٢)] .
وقال العلّامة البغداديّ في «أصول الدّين»: [(٣)] أصحابنا مجمعون على أن أفضلهم الخلفاء الأربعة، ثم السّتّة الباقون بعدهم إلى تمام العشرة وهم: طلحة والزّبير وسعد بن أبي وقّاص وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وعبد الرّحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجرّاح، ثم البدريّون، ثم أصحاب أحد، ثم أهل بيعة الرّضوان بالحديبية، واختلف أصحابنا في تفضيل عليّ وعثمان، فقدم الأشعريّ عثمان، وبناه على أصله في منع إمامة المفضول.
وقال محمّد بن إسحاق بن خزيمة والحسين بن الفضل البجليّ بتفضيل علي ﵁ وقال القلانسيّ: لا أدري أيهما أفضل، وأجاز إمامة المفضول.
وقال العلّامة اللقانيّ في جوهرته:
وأوّل التّشاجر الرجز الّذي ورد ... إن خضت فيه واجتنب داء الحسد
_________
[(١)] آل عمران: ١١٠.
[(٢)] المسايرة ١٦٦- ١٦٨.
[(٣)] أصول الدين للبغدادي ٣٠٤.
1 / 24
فقال العلّامة البيجوريّ في شرحه عليها:
وقد وقع تشاجر بين علي ومعاوية- ﵄ وقد افترقت الصحابة ثلاث فرق:
فرقة اجتهدت، فظهر لها أن الحق مع عليّ، فقاتلت معه، وفرقة اجتهدت، فظهر لها أن الحق مع معاوية، فقاتلت معه، وفرقة توقّفت.
وقد قال العلماء: المصيب بأجرين والمخطئ بأجر، وقد شهد اللَّه ورسوله لهم بالعدالة، والمراد من تأويل ذلك أن يصرف إلى محمل حسن لتحسين الظّنّ بهم فلم يخرج واحد منهم عن العدالة بما وقع بينهم، لأنهم مجتهدون.
وقوله: (إن خضت فيه) أي إن قدّر أنّك خضت فيه فأوّله: ولا تنقص أحدا منهم، وإنما قال المصنّف ذلك لأن الشّخص ليس مأمورا بالخوض فيما جرى بينهم، فإنه ليس من العقائد الدّينية، ولا من القواعد الكلامية، وليس ممّا ينتفع به في الدّين، بل ربّما ضرّ في اليقين، فلا يباح الخوض فيه إلا للرّدّ على المتعصبين، أو للتّعليم كتدريس الكتب التي تشتمل على الآثار المتعلقة بذلك، وأما العوام فلا يجوز لهم الخوض فيه لشدّة جهلهم، وعدم معرفتهم بالتأويل. [(١)]
وقال السّعد التّفتازانيّ:
«يجب تعظيم الصّحابة والكفّ عن مطاعنهم، وحمل ما يوجب بظاهره الطّعن فيهم على محامل وتأويلات، سيّما المهاجرين والأنصار وأهل بيعة الرّضوان، ومن شهد بدرا وأحدا والحديبيّة، فقال: انعقد على علوّ شأنهم الإجماع، وشهد بذلك الآيات الصّراح، والأخبار الصّحاح» .
«وللرّوافض سيما الغلاة منهم مبالغات في بغض البعض من الصّحابة- ﵃ والطّعن فيهم بناء على حكايات وافتراءات لم تكن في القرن الثّاني والثّالث، فإياك والإصغاء إليها، فإنّها تضلّ الأحداث، وتحيّر الأوساط وإن كانت لا تؤثر فيمن له استقامة على الصّراط المستقيم، وكفاك شاهدا على ما ذكرنا أنّها لم تكن في القرون السّالفة ولا فيما بين العترة الطّاهرة، بل ثناؤهم على عظماء الصّحابة وعلماء السّنّة والجماعة، والمهديين من خلفاء الدّين مشهور وفي خطبهم ورسائلهم وأشعارهم ومدائحهم مذكور» [(٢)] .
_________
[(١)] شرح الجوهرة للقاني ١٠٤، ١٠٥.
[(٢)] المقاصد للتفتازاني ٥/ ٣٠٣، ٣٠٤.
1 / 25
وقال العلّامة المرعشيّ في «نشر الطّوالع»:
«يجب تعظيم جميع أصحاب النّبي ﷺ والكفّ عن مطاعنهم، وحسن الظّنّ بهم، وترك التّعصّب والبغض لأجل بعضهم على بعض، وترك الإفراط في محبّة بعضهم على وجه يفضي إلى عداوة آخرين منهم والقدح فيهم، فإن اللَّه تعالى أثنى عليهم في مواضع كثيرة منها قوله تعالى:
يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ.. [(١)]
الآية.
وقد أحبّهم النّبي ﷺ وأثنى عليهم وأوصى أمّته بعدم سبّهم وبغضهم وأذاهم، وما ورد من المطاعن، فعلى تقدير صحته له محامل وتأويلات، ومع ذلك لا يعادل ما ورد في مناقبهم، وحكي عن آثارهم المرضية وسيرهم الحميدة نفعنا اللَّه بمحبّتهم أجمعين [(٢)] .
قال: الإمام النّوويّ- رحمه اللَّه تعالى:
واعلم أن سبب تلك الحروب أن القضايا كانت مشتبهة، فلشدّة اشتباهها اختلف اجتهادهم وصاروا ثلاثة أقسام: قسم ظهر لهم بالاجتهاد أن الحقّ في هذا الطرف، وأن مخالفه باغ فوجب عليهم نصرته وقتال الباغي عليه فيما اعتقدوه فعلوا ذلك، ولم يكن يحل لمن هذه صفته التأخّر عن مساعدة الإمام العدل في قتال البغاة.
وقسم عكس هؤلاء ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في الطّرف الآخر، فوجب عليهم مساعدته وقتال الباغي عليه.
وقسم ثالث اشتبهت عليهم القضية وتحيّروا فيها ولم يظهر لهم ترجيح أحد الطرفين فاعتزلوا الفريقين، وكان هذا الاعتزال هو الواجب في حقهم، لأنه لا يحل الإقدام على قتال مسلم حتى يظهر أنه مستحق لذلك، ولو ظهر لهؤلاء رجحان أحد الطرفين وأن الحق معه لما جاز لهم التأخّر عن نصرته في قتال البغاة عليه.
فكلهم معذورون- ﵃ ولهذا اتّفق أهل الحق ومن يعتدّ به في الإجماع على قبول شهاداتهم ورواياتهم وكمال عدالتهم ﵃ أجمعين.
_________
[(١)] التحريم: ٨.
[(٢)] نشر الطوالع للعلامة المرعشي الشهير بساجقلي زاده ص ٣٨٥ وما بعدها.
1 / 26