إسعاف الأخيار بما اشتهر ولم يصح من الأحاديث والآثار والقصص والأشعار
إسعاف الأخيار بما اشتهر ولم يصح من الأحاديث والآثار والقصص والأشعار
Издатель
مكتبة الأسدي-مكة المكرمة
Номер издания
الأولى
Год публикации
١٤٣٢ هـ - ٢٠١١ م
Место издания
السعودية
Жанры
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢)﴾
﴿آل عمران: ١٠٢﴾
﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (١)﴾
﴿النساء: ١﴾
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (٧١)﴾ ﴿الأحزاب: ٧٠ - ٧١﴾.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد:
الحمد لله الذي ميَّز الخبيث من الطيب، وجعل الخبيث كالزبد يذهب جفاء، وجعل الصحيح كالوابل الصيب، وهو سبحانه طيِّب لا يقبل إلا طيِّبًا، والصلاة
1 / 5
والسلام على من بعثه ربه فرقانًا بين الحق والباطل، وعلى آله وأصحابه الأبطال البواسل، الذين ذبوا عن الإسلام وحاربوا كل باطل، فبقت الأمة الإسلامية برهة من الزمن على مثل البيضاء، ليلها كنهارها؛ ثم لما طال العهد، وقلَّ العلم، وكثر الجهل، انتشرت الأباطيل، والإشاعات والدعايات والانحرافات، والكذب على الله سبحانه وعلى رسوله ﷺ، وعلى الناس، ولكن أكثر الناس لا يشعرون، فانتشرت، واشتهرت، وصالت، وجالت الأحاديث والآثار الضعيفة والموضوعة، والقصص الواهية، بل والأشعار المهزوزة والمكذوبة، وتسربت من خلالها الأفكار المنحرفة، والعقائد الضالة، فتأثرت العامة والخاصة بهذا الكمِّ الهائل من الأباطيل في جوانب شتى، منها:
(١) ترك العمل بالأحاديث الصحيحة الثابتة، والانشغال بالموضوعة والضعيفة (^١)، وأخطر من ذلك العمل بالأحاديث المخالفة للأحاديث
_________
(^١) والحديث الضعيف لا يُعمل به مطلقًا على القول الصحيح من أقوال أهل العلم، وقد قال بهذا القول: ابن العربي المالكي، والشوكاني، وصديق حسن خان، والشهاب الخفاجي، ويحيى بن معين، والظاهر أنه مذهب البخاري ومسلم، وهو مذهب ابن حزم، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والألباني، وشيخنا مقبل الوادعي. وانظر "القول المنيف في حكم العمل بالحديث الضعيف" (ص: ٢٠ - ٢٧) وكتابي "الملخص النفيس الميسر في مصطلح الحديث والأثر" (ص: ٥٨).
وقد ذهب جمهور أهل العلم: إلى أنه يُعمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال بشروط:
(١) أن لا يكون شديد الضعف. (٢) أن يندرج تحت أصل ثابت. (٣) أن يعمل به في خاصة نفسه ولا يدعو الناس إليه. (٤) لا يعتقد عند العمل به ثبوته عن النبي ﷺ. "تدريب الراوي" (١/ ٢٩٨ - ٢٩٩) و"قواعد في علوم الحديث" (ص: ٩٢ - ٩٥). وعند التحقيق تجد أن من يعمل بالحديث الضعيف لا يُطبق هذه الشروط التي ذكرها الجمهور.
1 / 6
الثابتة، مثل حديث: (لا سلام على طعام). وقد حث الإسلام على السلام ولم يستثنِ حالة الطعام.
(٢) الوقوع في بعض الاعتقادات الفاسدة، مثل حديث: (لو اعتقد أحدكم بحجر لنفعه). فالحديث فيه دعوة إلى عبادة الأحجار دون الواحد القهار. ومثل البيت المكذوب المنسوب للأخطل النصراني: قد استوى بشر على العراق من غير سيف أودمٍ مهراق فيؤولون الاستواء في قوله تعالى ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ ﴿طه: ٥﴾. فيقولون (استوى) بمعنى استولى، وهذا باطل.
(٣) صرف الناس عن التوسل المشروع، ودعوتهم إلى التوسل الممنوع، مثل حديث: (توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم).
(٤) إثبات بعض الأسماء لله تعالى لم تثبت في الكتاب والسنة، مثل اسم (الجليل)، وذلك في الأثر الضعيف المشهور عن علي ﵁: (التقوى الخوف من الجليل … إلخ).
(٥) صرف الناس عن الصلاة والعبادة إذا حصل منهم شيء من التقصير، مثل الحديث الضعيف: (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له).
(٦) انتشار البدع واندثار السنن، مثل حديث: (من شم الطيب فليصلِّ عليَّ) فأصبح من شم طيبًا، أو ريحانًا، يقول: اللهم صل على محمد، ولم يكن هذا من هديه ﵊. وحديث: (إذا طنَّت
1 / 7
أذن أحدكم فليذكرني، وليصلِّ عليَّ، وليقل: ذكر الله من ذكرني بخير). وحديث: (من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني).
(٧) إدخال ما ليس من الإيمان في الإيمان، مثل حديث: (حب الوطن من الإيمان).
(٨) تأصيل أصول مخالفة لأصول الشريعة، مثل الحديث الذي لا أصل له: (اختلاف أمتي رحمة) وهو مخالف للنصوص التي تذم الاختلاف.
(٩) تحريم أشياء أحلَّها الله ﷿، مثل حديث: (أبغض الحلال إلى الله الطلاق).
(١٠) تشويه صور الصحابة رضوان الله عليهم، مثل القصة المفتراة على الصحابي الجليل ثعلبة بن حاطب ﵁ في منعه للزكاة، وتركه للصلاة. وقصة رمي حسَّان بن ثابت ﵁ بالجبن، وقصة رحيل بلال من الشام إلى المدينة، وأذانه وتمرغه بقبر الرسول ﷺ بعد موته.
وهذا الانتشار الواسع في جوانب شتى من الدين دليل على خطر داهِم، حتى أصبح كثير من هذه الأباطيل المكذوبة، والأخبار الموضوعة من المُسَلَّمات، ومن الثوابت الصحيحة التي لا يُقبل فيها الجدال والنقاش عند كثير من الناس، بل إن الواحد منهم يُصاب بالدهشة ودوران الرأس ويتعجب كل العجب! إذا قيل له: هذا حديث ضعيف، أو هذا أثر لا يثبت عن فلان، أو هذه قصة ليس لها إسناد، أو سندها ساقط، أو هذه الأبيات التي يترنم بها الشعراء والأدباء والمثقفون، ويرمون بها بريئًا لا
1 / 8
تثبت نسبتها إليه، يُصدم بهذا الخبر، ويرتج عليه، ويُشده؛ لأنك هدمت له يقينًا لا شك فيه، ومعلومات عاشت معه دهورًا مديدة، وأعوامًا عديدة، فجئته أنت بفائدة جديدة، وبمعلومة فريدة، أفسدت عليه ثقافته التليدة، والصحيح أنك أصلحت وما أفسدت، وبنيت وما هدمت، وصفَّيت وما كدرت، والحق أحق أن يُتبع، وماذا بعد الحق إلا الضلال، ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾ ﴿الأنبياء: ١٨﴾.
ثم اعلم أن هذا الانتشار الكبير، لهذه الأحاديث والآثار والقصص والأشعار، في جميع مستويات وطبقات الناس، من الرجال والنساء، والصغار والكبار، بل على مستوى بعض الدعاة، وخطباء المساجد، والمثقفين، والمدرسين، سببه ما يلي: …
(١) الجهل.
(٢) القنوات التي تبث برامج دينية.
(٣) الإذاعات الإسلامية.
(٤) الجرائد والمجلات.
(٥) الكتب التي لا يعتني مؤلفوها بالصحيح والضعيف.
(٦) خطباء المساجد والمحاضرون، الذين لا يميزون بين الصحيح والضعيف.
1 / 9
(٧) بعض المناهج الدراسية المقررة على الطلاب والطالبات في المدارس.
(٨) عدم سؤال العلماء العالمين بهذا الفن عن تلك الأحاديث التي سمعها من هذه المصادر، وهناك مصادر أخرى انتشرت من خلالها الأحاديث والآثار والقصص والأشعار الواهية، اكتفيت بما أشرت إليه خشية الإطالة.
خطة البحث:
فلهذه الأسباب وغيرها حرصت منذ سنين أن أقوم بجمع بعض المشتهرات، من الأحاديث والآثار والقصص والأشعار، التي كثر انتشارها واشتهارها في أوساط الناس في عصرنا هذا، وحرصت أن لا أذكر في كتابي هذا إلا أخبارًا ساقطة، بأسانيد واهية، أو لا أصل لها، أو أجمع أهل العلم بالنقل على بطلانها، أو ذهب أكثر المحققين من أهل العلم بالحديث إلى تضعيفها، وأما غير ذلك فقليل نادر، ممالم أجد من تكلم عليه إلا آحاد العلماء من المتقدمين أو المتأخرين، وحاولت أن أجمع ما أمكن بين المتقدمين والمتأخرين في الحكم على الحديث (^١)، أو الأثر، أو القصة، أو الأبيات الشعرية، وبخاصة علماء الدعوة السلفية المعاصرين،
_________
(^١) قد يقول قائل: لقد أكثرت من النقل عمن لم يشتهر بعلم الحديث كالعجلوني وابن الديبع والبيروتي وغيرهم؟. والجواب: إنما فعلت ذلك لاتحاد موضوع كتابي مع موضوع كتبهم، وهو جمع الأحاديث المشتهرة.
1 / 10
وذلك لجهودهم المبذولة المشهورة، والمشكورة في خدمة الإسلام والمسلمين، كيف لا وهم المقيَّضون لحراسة قلعة السنة من عبث العابثين، وإفساد المفسدين.
ولِما جعل الله لهم من القبول في قلوب الناس، والتسليم لأحكامهم وفتاويهم، وكذلك ليرتبط الناس بخير خلف لخير سلف. مثل: خاتمة المحدثين، وصيرَفي الحديث، من وُصف بطول الباع، وسعة الاطلاع، وقوة الإقناع، العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني، وكذا الإمام حقًا، وشيخ الإسلام صدقًا، سماحة العلامة عبد العزيز بن باز، وشيخنا العلامة المجاهد سيف السنة، وقامع البدعة، محدث الديار اليمنية، والجزيرة العربية، مقبل بن هادي الوادعي (^١)، والعلامة المتفنن البارع بحر العلوم، شيخنا محمد بن صالح العثيمين، واللجنة الدائمة المبجلة حرسها الله.
أولئك أشياخي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا أُخي المجامع
رحم الله من مات منهم وسقاهم من سلسبيل الجنة، وحفظ الله من بقي ومتع به.
_________
(^١) فقد كان يقول ﵀: (يا حبذا لو ألَّفَ طالب علم في الأحاديث المشتهرة العصرية التي لم تكن في زمن المتقدمين). "السير الحثيث شرح اختصار علوم الحديث" (ص: ٣٠١).
1 / 11
وقد قمت بتقسيم البحث إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: الأحاديث.
القسم الثاني: الآثار (^١).
القسم الثالث: القصص.
_________
(^١) قال العلامة الألباني ﵀ جوابًا على رسالة أبي إسحاق الحويني، حيث قال أبو إسحاق: توقفت طويلًا في الحكم على الآثار التي يوردها ابن كثير: هل أخضعها لقواعد المحدثين من النظر في رجال السند، واعتبار ما قيل فيهم من جرح وتعديل، أم أتساهل في ذلك، وأدَّاني البحث والتأمل أنه لابد من إخضاع كل ذلك لقواعد المحدثين، إذ الكل نقلٌ، وأصول الحديث إنما وضعها العلماء لذلك. ولأني أشعر بخطورة الأمر عرضت ما وصلت إليه على من أثق بعلمه ورأيه من شيوخي وإخواني، فكتبت لشيخنا الشيخ الإمام حسنة الأيام أبي عبد الرحمن ناصر الدين الألباني حفظه الله تعالى ومتع به أذكر له ما انتهى إليه بحثي، وما اخترته منهجًا لي في العمل، وذلك في آخر شوال ١٤١٥ هـ فأجابني إلى ما أردت برغم مرضه الشديد - آنذاك - عافاه الله ورفع عنه. …
وهاك رسالة شيخنا حفظه الله: … وإذا كان من المعلوم ومن المتفق عليه أنه لا سبيل إلى معرفة الصحيح المنقول من ضعيفه، سواء كان الحديث مرفوعًا أو أثرًا موقوفًا إلا بإسناد، ولذلك قال بعض السلف: لو لا الإسناد لقال من شاء ما شاء، فكيف يصح أن ينُسب إلى ابن تيمية وغيره من المحققين أنهم لا يعتبرون الأسانيد في نسبة الأقوال إلى قائليها؟ وكيف يمكن معرفة الصحيح من غيره إلا بالإسناد، لا سيما وفي الآثار قسم كبير له حكم الرفع بشروط معروفة، لا مجال الآن لذكرها، من أهمها أن لا يكون من الإسرائيليات.
وختامًا: فإني أرى أنه لا بد من إخضاع أسانيد التفسير كلها للنقد العلمي الحديثي، وبذلك نتخلص من كثير من الآثار الواهية التي لاتزال في بطون كتب التفسير، وما كان سكوت العلماء عنها إلا لكثرتها وصعوبة التفرغ لها، وعليه أقترح حصر النقد بما لا بد منه من الآثار المتعلقة بالتفسير بما يعين على الفهم الصحيح، أو يصرف غيره تصحيحًا وتضعيفًا، والإعراض عما لا حاجة لنا به من الآثار … وكتبه محمد ناصر الدين الألباني. "تحقيق تفسير ابن كثير" (١/ ٨) للحويني ط. ابن الجوزي.
1 / 12
القسم الرابع: الأشعار (^١).
• وقد ذكرت مصادر البحث والتحقيق من باب الأمانة والتوثيق، إلا ما ندر، أو كان سماعًا من شيخنا الوادعي ﵀.
• واستخدمت في حكمي على الحديث كلمة (ضعيف)، أو (موضوع) أو (لا أصل له)، أو (منكر)، أو (ليس بحديث)، أو ما شابهها من المصطلحات المعروفة عند كثير من القراء تسهيلًا لهم، مع أن الحديث قد يكون معضلًا، أو مرسلًا، أو منقطعًا، … فأُبيِّن ذلك في الكلام على علة الحديث.
• وقد أذكر أحيانًا تحت حديث الباب بعض الأحاديث الضعيفة التي في معناه.
• وقد قمت بالتعليق بعد التخريج والتحقيق على كل حديث بما يُناسبه، فإن كان معناه صحيحًا نصرته وبينته، وأتيت بما
_________
(^١) قد يقول قائل: حتى الأبيات الشعرية يُنظر في سندها، وفي صحة نسيبتها إلى قائلها؟!
والجواب: نعم يُنظر في سندها، وفي صحة نسبتها إلى قائلها. قال شيخنا العلامة المحدث وصي الله عباس: ثم إن المساجلات الشعرية والمكاتبات الافتخارية التي تَنْتَحِل بعض كتب الأدب والتاريخ إلى علي ﵁ ومعاوية ﵁ لهي من أبشع ما يُنقل ويُنسب إليهما. ولا شك أن كثيرًا من أمثال هذه الروايات يُنقل بدون خُطُم ولا أزِمَّة وبدون أسانيد وإن كانت مسندة فلا تجدها إن شاء الله سالمة من متهم بالكذب، أو منكر الحديث .... ثم قال حفظه الله: فيجب أن لا تقبل الروايات من أي نوعٍ كانت إلا ما ثبت منها برواية ثقات عدول على ميزان نقد المحدثين في قبول الروايات عامة. اهـ. "المسجد الحرام تاريخه وأحكامه" (ص: ٨، ٩).
1 / 13
يُؤيده ويُغني عنه من الأحاديث الصحيحة، وإن لم يكن معناه صحيحًا نبهت على ذلك، وبيَّنت وجه الصواب فيه، فجاء الكتاب بفضل الله الملك الوهاب معالجًا لأمراض شتى، من بيان الصحيح من الضعيف في الحكم على الأحاديث والآثار، والقصص والأشعار، وبيان ما تحمله بعض هذه الأخبار من عقائد فاسدة، ومفاهيم خاطئة، وسلوكيات شاذة، وانحرافات مخالفة للكتاب والسنة، شوهت جمال الإسلام عند غير أهله، كل ذلك تجده بإذن الله في التعليق على الأحاديث.
والحق أن هذا التعليق يحمل علمًا غزيرًا، وفقهًا وفيرًا، جمعت فيه ما تفرق من الفوائد والشوارد، فأصبح كالعذب الزلال لكل شارب ووارد، أوكأزهار متناثرة في حدائق ذات بهجة فيها من كل زوج بهيج، التقطتها ليستفيد منها القريب والبعيد، فهو كتاب عجيب له من اسمه أعظم نصيب.
وإذا أردت منازلَ الأشَرَافِ فاقرأ هُدِيتَ الرشدَ في الإسعَافِ
وانهل من العذبِ الزلالِ مواردا وانأ بنفسك عن ذوي الإجحافِ
فيا أيها الناظر فيه لك غنمه وعليَّ غرمه، ولك صفوه وعليَّ كدره، وهذه بضاعتنا المزجاة تُعرض عليك، وبنات أفكارنا تُزف إليك، فإن
1 / 14
صادفت كفؤًا كريمًا لم تعدم منه إمساكًا بمعروف، أو تسريحًا بإحسان، وإن كان غير ذلك فالله المستعان (^١).
وقديمًا قال الصولي: المتصفح للكتاب أبصر بمواقع الخلل فيه من مُنشئه.
ورحم الله العماد الأصفهاني القائل: إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتابًا في يومه إلا قال في غده: لو غيرت هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن، ولو قُدِّم هذا لكان أفضل، ولو تُرِكَ هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر.
وقال المزني ﵀: قرأت كتاب "الرسالة" على الإمام الشافعي ﵀ ثمانين مرة، فما من مرة إلا وكان يقف على خطأ، فقال الشافعي: هيه -أي حسبك واكْفُفْ- أبى الله أن يكون كتاب صحيحًا غير كتابه (^٢).
قال أحدهم: …
كم من كتابٍ قد تصفَّحتُهُ … وقلتُ في نفسي أصلحتُهُ
حتى إذا طالعته ثانيًا … وجدتُ تصحيفًا فصححتُهُ
وإني لمعترف بالتقصير في تناول هذا الموضوع سلفًا، وهذا جهد بشري يعتريه الخطأ والنقص. (وأفضل الصدقة جهد المقل) (^٣).
_________
(^١) مقتبس من كلام ابن القيم ﵀. "حادي الأرواح" (ص: ١٢).
(^٢) صحيح "جامع بيان العلم وفضله" (ص: ٨٠).
(^٣) أخرجه أبو داود والبغوي وانظر "الصحيحة" رقم (٥٦٦) و"الإرواء" (٨٩٧).
1 / 15
والله أسأل أن يبارك في كل من ساهم في إنجاز هذا السَّفْر المبارك، وأسأله سبحانه أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، طاهرًا من شوائب الإحباط، وأن ينفع به طالبي الحق، ورواد الحقيقة، والباحثين عنها، وأتضرع إلى من إليه يصعد الكلم الطيب، والعمل الصالح يرفعه، أن يجعله من الأعمال التي لا ينقطع نفعها عني بعد إدراجي في الأكفان، ومفارقة الأهل والأوطان، كما أسأله سبحانه باسمه الأعظم الذي إذا سُئل به أعطى، وإذا دُعي به أجاب، أن يجعل هذا العمل حجابًا لي في الحياة من مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وحجابًا من النار يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وله سبحانه وبحمده الشكر عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته على ما وفق وأسدى، وعلى نعمه التي لا تُعد ولا تُحصى، وصلى الله وسلم وبارك على عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله المرتضى، وعلى آله وأصحابه مصابيح الدجى، وأئمة الهدى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. …
كتبه الفقير إلى رحمة ربه ورضوانه
أبو عمار محمد بن عبد الله باموسى
اليمن - الحديدة - مركز السلام العلمي
1 / 16
القسم الأول (الأحاديث)
1 / 18
(١) حديث: (آخر الدواء الكي)
(ليس بحديث)
لقد اشتهر هذا الكلام على ألسِنة كثيرٍ من الناس على أنه حديث نبوي وليس كذلك، وإنما هو من أمثال العرب، وانظر:
(١) "فتح الباري" (١٠/ ١٤٥) قال الحافظ: إنما هو من أمثال العرب.
(٢) "فيض القدير" (٤/ ٢٣٢) تحت حديث رقم (٤٩٤١).
(٣) "المقاصد الحسنة" رقم (١).
(٤) "التمييز" (ص: ٦).
(٥) "الجد الحثيث في بيان ماليس بحديث" رقم (١).
(٦) "الشذرة في الأحاديث المشتهرة" رقم (١).
(٧) "المصنوع في معرفة الحديث الموضوع" رقم (١٠).
(٨) "كشف الخفاء" رقم (٧).
(٩) "النوافح العطرة" رقم (٧).
(١٠) "تحذير المسلمين" رقم (٣٦٦).
(١١) "معجم الأمثال العربية" (١/ ٤٢).
1 / 20
التعليق:
قلت: لكن جاء ذكر الكي في بعض النصوص الصحيحة، في آخر مرحلة للعلاج كما في قوله ﷺ: (الشفاء في ثلاثة: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية بنار، وأنهى أمتي عن الكي) أخرجه البخاري (^١).
وقال العلامة ابن القيم (^٢) ﵀: وأما النهي عن الكي، فهو أن يكتوي طلبًا للشفاء، وكانوا يعتقدون أنه متى لم يكتوِ هلك، فنهاهم عنه لأجل هذه النية. وقيل: إنما نهى عنه عمران بن حصين ﵄ خاصةً، لأنه كان به ناصور، وكان موضعه خطرًا، فنهاه عن كيه، فيشبه أن يكون النهي منصرفًا إلى الموضع المخوف منه، والله أعلم.
وقال ابن قتيبة ﵀: الكي جنسان:
الأول: كي الصحيح لئلا يعتلَّ، فهذا الذي قيل فيه: (لم يتوكل من اكتوى)، لأنه يريد أن يدفع القدر عن نفسه.
والثاني: كي الجرح إذا نَغِلَ، والعضو إذا قُطِعَ، ففي هذا الشفاءُ.
وأما إذا كان الكي للتداوي الذي يجوز أن ينجع، ويجوز أن لا ينجع فإنه إلى الكراهة أقرب. اهـ.
_________
(^١) "الفتح" (١٠/ ١٤٣) رقم (٥٦٨٠) كتاب الطب، وغيره.
(^٢) "زاد المعاد" (٤/ ٦٥).
1 / 21
وثبت في الصحيح في حديث السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب: (هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون) أخرجه البخاري ومسلم (^١).
فقد تضمَّنت أحاديث الكي أربعة أنواع:
أحدها: فعله؛ لما رواه جابر ﵁ قال: (رُمي سعد بن معاذ في أكحله قال: فحسمه النبي ﷺ بيده بمشقص …) حسمه، أي: كواه. رواه مسلم.
الثاني: عدم محبته له؛ لما رواه جابر ﵁ عن النبي ﷺ قال: (إن كان في شيء من أدويتكم … وما أحب أن أكتوي) رواه البخاري ومسلم.
الثالث: الثناء على من تركه.
الرابع: النهي عنه.
ولا تعارض بينها بحمد الله تعالى، فإن فعله يدل على جوازه، وعدم محبته له لا يدل على المنع منه، وأما الثناء على تاركه، فيدل على أن تركه أولى وأفضل، وأما النهي عنه فعلى سبيل الاختيار والكراهة، أو عن النوع الذي لا يحتاج إليه فيفعل خوفًا من حدوث الداء. والله أعلم.
وقد تكلم على هذه المسألة الحافظ ابن حجر-﵀ في "الفتح"، والعلامة الألباني ﵀ في "الصحيحة" تحت حديث: (من اكتوى أو استرقى فقد برئ من التوكل)، بكلام نفيس فارجع له إن شئت (^٢).
_________
(^١) "البخاري مع الفتح" (١٠/ ٢٧٩)، ومسلم (٢٢٠).
(^٢) "الفتح " (١٠/ ١٦٤)، و"الصحيحة" (٢٤٤).
1 / 22
(٢) حديث: (آفة العلم النسيان …).
(ضعيف) …
(١) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (٦/ ١٩٠) كتاب الأدب رقم (٧) عن الأعمش مرسلًا، ورواه الدارمي (ص: ١٧٠) رقم (٦٢٨) مرسلًا كما في "مشكاة المصابيح" (١/ ٨٨) رقم (٢٦٥).
(٢) والبخاري في "التاريخ الكبير" (١/ ٢٦٤ - ٢٦٥) رقم (٨٤٤) عن ابن مسعود ﵁ قال: (لكل شيء آفة، وآفة العلم النسيان). قال محمد: لم يكن في العراق هذا الحديث عند أحد من أصحاب سفيان، سألني عنه عباس العنبري.
(٣) والبيهقي في "الشُّعب" (٤/ ١٥٧) رقم (٤٦٤٧)، وقال: تفرد به محمد بن عبد الله الحبطي عن شعبة وليس بالقوي.
(٤) قال السخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص: ٢٣): سنده ضعيف.
(٥) قال العجلوني في "كشف الخفاء" (١/ ١٦): سنده ضعيف.
(٦) قال العلامة الألباني في "الضعيفة" (١٣٠٣): رواه أبو سعيد الأشج في حديثه (٢٢٢/ ١) حدثنا أبو أسامة عن الأعمش قال: قال رسول الله ﷺ فذكره. ورواه أيضًا أبو الحسين الأبنوسي في "الفوائد" (٢٤/ ٢) عن علي بن الحسين قال: حدثنا أبو داود عن
1 / 23
الأعمش قال: كان يُقال: فذكره ولم يرفعه، والوقف أصح، والمرفوع ضعيف معضل. وقال ﵀: هذا الحديث معضل فإن الأعمش لم يسمع من أحد من الصحابة، ولا من أنس وإنما رآه فقط. (^١).
التعليق:
قلت: تبين لك أخي الكريم ضعف هذا الحديث، لكنه صحيح المعنى، كما ذكر ذلك السخاوي والعجلوني وغيرهما من أهل العلم؛ وقد وردت آثار كثيرة عن السلف تدل على ذلك.
وقال ابن عبد البر (^٢) ﵀: (آفة العلم وغائلته وإضاعته، وكراهية وضعه عند من ليس بأهل):
عن الزهري ﵀ قال: إن للعلم غوائل، فمن غوائله أن يُترك العالم حتى يذهب بعلمه؛ ومن غوائله النسيان؛ ومن غوائله الكذب فيه وهو شر غوائله.
وعنه قال: إنما يُذهِب العلمَ النسيان وترك المذاكرة.
وعن ابن بريدة قال: قال لي عليٌ: تذاكروا هذا الحديث، فإنكم إن لم تفعلوا يُدْرس. رواه الدارمي.
_________
(^١) وانظر كذلك "المشكاة" (١/ ٨٨) حاشية، و"ضعيف الجامع" (١٠).
(^٢) "جامع بيان العلم وفضله" (١٢٥ - ١٢٨).
1 / 24
وعن عبد الله بن بريدة أن دغفل بن حنظلة قال لمعاوية ﵁ في حديث ذكره: إن غائلة العلم النسيان.
وقال الحسن ﵀: غائلة العلم النسيان وترك المذاكرة. رواه الدارمي.
وعن معاوية بن صالح قال: حدثني أبو فروة أن عيسى ابن مريم ﵇ كان يقول: لا تمنع العلم أهله فتأثم، ولا تضعه عند غير أهله فتجهل، وكن طبيبًا رفيقًا يضع دواءه حيث يعلم أنه ينفع.
وقال الحسن ﵀: لولا النسيان لكان العلم كثيرًا.
وقال عكرمة ﵀: إن لهذا العلم ثمنًا، قيل: وما ثمنه؟ قال: أن تضعه عند من يحفظه ولايضيعه.
فإن قال قائل: إن بعض الحكماء كان يحدث بعلمه صبيانه وأهله ولم يكونوا لذلك بأهل. قيل له: إنما فعل ذلك من فعله منهم لئلا ينسى.
وعن الأعمش-﵀: أن إسماعيل بن رجاء كان يجمع صبيان الكتاب يحدثهم لئلا ينسى حديثه.
وعن سعيد بن عبد العزيز: أن خالد بن يزيد بن معاوية كان إذا لم يجد أحدًا يحدثه يحدث جواريه، ثم يقول: إني لأعلم أنكنَّ لستنَّ له بأهل يريد بذلك الحفظ. اهـ.
1 / 25
(٣) حديث: (أبغض الحلال إلى الله الطلاق)
(ضعيف)
أخرجه أبو داود (٢١٧٧، ٢١٧٨)، وابن ماجه رقم (٢٠١٨)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (١٤٨٩٤، ١٤٨٩٥، ١٤٨٩٦)، والحاكم في "المستدرك" (٢٨٥٣)، وابن عدي في "الكامل" (٨/ ٢٢٢).
قلت: وهذا الحديث على شهرته الكبيرة في أوساط الناس ضعيف كما نصَّ على ذلك أئمة هذا الشأن، فقد اختلفوا في وصله وإرساله، ورجَّح جمع من الحفاظ إرساله، منهم:
(١) الدارقطني.
(٢) البيهقي.
(٣) أبو حاتم. "التلخيص الحبير" (٣/ ٢٠٥).
(٤) قال السخاوي في "المقاصد" (ص: ٣٠): صحح البيهقي إرساله -كما في "سننه" (١٤٨٩٥) -، وقال: إن المتصل ليس محفوظًا، ورجَّح أبو حاتم الرازي المرسل.
قلت: وفي الحديث علة أخرى غير علة الإرسال، وهي عبيد الله بن الوليد الوصافي، وهو متروك.
1 / 26