مُقَدّمَة الْمُحَقق
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الِاجْتِهَاد إِن الْحَمد لله نحمده ونستعينه وَنَسْتَغْفِرهُ ونعوذ بِاللَّه من شرور أَنْفُسنَا وَمن سيئات أَعمالنَا من يهده الله فَلَا مضل لَهُ وَمن يضلل فَلَا هادي لَهُ وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ وَأشْهد أَن مُحَمَّد عَبده وَرَسُوله ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله حق تُقَاته وَلَا تموتن إِلَّا وَأَنْتُم مُسلمُونَ﴾ آل (عمرَان ١٠٢) ﴿يَا أَيهَا النَّاس اتَّقوا ربكُم الَّذِي خَلقكُم من نفس وَاحِدَة وَخلق مِنْهَا زَوجهَا وَبث مِنْهُمَا رجَالًا كثيرا وَنسَاء وَاتَّقوا الله الَّذِي تساءلون بِهِ والأرحام إِن الله كَانَ عَلَيْكُم رقيبا﴾ النِّسَاء ١ ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله وَقُولُوا قولا سديدا يصلح لكم أَعمالكُم وَيغْفر لكم ذنوبكم وَمن يطع الله وَرَسُوله فقد فَازَ فوزا عَظِيما﴾ الْأَحْزَاب ٧٠ ٧١ أما بعد فَإِن خير الحَدِيث كتاب الله وَخير الْهَدْي هدي مُحَمَّد ﷺ وَشر الْأُمُور محدثاتها وكل محدثة بِدعَة وكل بِدعَة ضَلَالَة وكل ضَلَالَة فِي النَّار لقد قدر الله ﷿ لشريعة الْإِسْلَام خلودها وكفاءتها وصلاحيتها
1 / 3
لكل زمَان وَمَكَان فَأوحى إِلَى عَبده وَرَسُوله مُحَمَّد بن عبد الله النَّبِي الْأُمِّي ﷺ الْقُرْآن الْمجِيد ذَلِك الدستور الْكَامِل الخالد للبشرية جَمْعَاء قَائِلا ﴿وَإنَّهُ لكتاب عَزِيز لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه تَنْزِيل من حَكِيم حميد﴾ فصلت ٤١ ٤٢ وَأمر رَسُوله ببيانه وَشَرحه حَيْثُ قَالَ ﴿وأنزلنا إِلَيْك الذّكر لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم ولعلهم يتفكرون﴾ النَّحْل ٤٤ وَأوجب طَاعَة رَسُوله على الْأمة فِي كل مَا يَأْمر وَينْهى قَائِلا ﴿وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا وَاتَّقوا الله إِن الله شَدِيد الْعقَاب﴾ الْحَشْر ٧ فَجعل الله ﷿ كِتَابه الْكَرِيم مَعَ سنة نبيه ﷺ الْمصدر الأساسي لِلْإِسْلَامِ فِي العقائد وَالْأَحْكَام والعبادات والمعاملات وَجَمِيع أُمُور المعاش والمعاد مَعَ هَذَا لم يهمل الله ﷾ عقول هَذِه الْأمة الَّتِي أخرجت للنَّاس تَأمر بِالْمَعْرُوفِ وتنهى عَن الْمُنكر وتؤمن بِاللَّه وَلم يعطل مداركها وَلم يجمد أفكارها فَتكون متحيرة مشدوهة أَمَام الْمسَائِل الْجُزْئِيَّة الَّتِي تستجد مَعَ تغير الْعَصْر بل دَفعهَا إِلَى التفكير الدَّائِم فِي الْإِنْسَان والكون والحياة وحثها على الْعَمَل الدؤب لصالح الْأمة وَحملهَا على الِاجْتِهَاد المنشود لاستنباط الجزئيات المستحدثة من الكليات المقررة وَالْأُصُول الثَّابِتَة من الْكتاب وَالسّنة ﴿وَإِذا جَاءَهُم أَمر من الْأَمْن أَو الْخَوْف أذاعوا بِهِ وَلَو ردُّوهُ إِلَى الرَّسُول وَإِلَى أولي الْأَمر مِنْهُم لعلمه الَّذين يستنبطونه مِنْهُم وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته لاتبعتم الشَّيْطَان إِلَّا قَلِيلا﴾ النِّسَاء ٨٣ لما كَانَ إِعْمَال الْفِكر فِي نُصُوص الْكتاب وَالسّنة وَسِيلَة التعرف على الْأَحْكَام
1 / 4
غير الْمَنْصُوص عَلَيْهَا وَكَانَ الِاجْتِهَاد طَرِيقا حتميا للوقوف على مرامي الشَّرِيعَة وسبيل الْحفاظ على خلودها وصلاحيتها ومرونتها فتح الْإِسْلَام بَاب الِاجْتِهَاد على مصراعيه إِلَى مَا شَاءَ الله أَمَام عُلَمَاء الْأمة الْأَكفاء البررة العاملين بِالْكتاب وَالسّنة وَذَلِكَ لتغطية حاجات النَّاس حسب تجدّد الْمصَالح وَتغَير الْأَعْرَاف وَتقدم الزَّمن فأحببنا أَن نقدم بَين يَدي كتاب إرشاد النقاد إِلَى تيسير الِاجْتِهَاد بحثا يتَعَلَّق بِهَذَا الْمَوْضُوع الْهَام وَهَذَا الْبَحْث يحتوي على بَابَيْنِ الأول حكم الإجتهاد فِي الْمسَائِل الْفِقْهِيَّة بعد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَالثَّانِي حكم الإجتهاد فِي الحكم على الحَدِيث فِي الْأَعْصَار الْمُتَأَخِّرَة
1 / 5
ﷺ َ - الْبَاب الأول حكم الإجتهاد فِي الْمسَائِل الْفِقْهِيَّة ﷺ َ -
الإجتهاد فِي اللُّغَة
الإجتهاد فِي اللُّغَة مَأْخُوذ من الْجهد بِفَتْح الْجِيم وَضمّهَا وَهُوَ الْمَشَقَّة والإجتهاد والتجاهد بذل الوسع والمجهود والتجاهد بذل الوسع كالإجتهاد وعَلى هَذَا يُقَال اجْتهد فِي الْأَمر أَي بذل وَسعه وطاقته فِي طلبه ليبلغ إِلَى نهايته سَوَاء كَانَ هَذَا الْأَمر من الْأُمُور الحسية كالمشي وَالْعَمَل أَو الْأُمُور المعنوية كاستخراج حكم أَو نظرية عقلية أَو شَرْعِيَّة أَو لغوية فَيُقَال بذل طاقته ووسعه فِي تَحْقِيق أَمر من الْأُمُور الَّتِي تَسْتَلْزِم كلفة أَو مشقة فَقَط وَلَا يُقَال اجْتهد فِي حمل قلم أَو كِتَابَة سطر أَو سطور عَمَّا لَيْسَ فِيهِ مشقة
الإجتهاد فِي اصْطِلَاح الْأُصُولِيِّينَ
قد عرفه عُلَمَاء الْأُصُول بتعريفات تخْتَلف عباراتها وتتحد مَعَانِيهَا فِي
1 / 7
الْجُمْلَة ومغزاها فِيمَا يَلِي الإجتهاد هُوَ استفراغ الوسع وبذل المجهود فِي طلب الحكم الشَّرْعِيّ عقليا كَانَ أَو نقليا قَطْعِيا كَانَ أَو ظنيا على وَجه يحس من النَّفس الْعَجز عَن الْمَزِيد عَلَيْهِ
شُرُوط الإجتهاد
إِن شُرُوط الإجتهاد الَّتِي قررها الأصوليون فِيهَا بعض الِاخْتِلَاف من حَيْثُ الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان وَيُمكن لنا أَن نقسم هَذِه الشُّرُوط قسمَيْنِ حَتَّى يحتويا كل مَا ذكر فِيهَا بالإيجاز الْقسم الأول الشُّرُوط الْعَامَّة شُرُوط التَّكْلِيف وَهِي ١ الْإِسْلَام ٢ الْبلُوغ ٣ الْعقل
1 / 8
الْقسم الثَّانِي الشُّرُوط التأهيلية وَهِي تتنوع إِلَى نَوْعَيْنِ الأول الشُّرُوط الأساسية وَهِي ١ معرفَة الْكتاب ٢ معرفَة السّنة ٣ معرفَة اللُّغَة ٤ معرفَة أصُول الْفِقْه ٥ معرفَة مَوَاضِع الْإِجْمَاع الثَّانِي الشُّرُوط التكميلية وَهِي ١ معرفَة الْبَرَاءَة الْأَصْلِيَّة ٢ معرفَة مَقَاصِد الشَّرِيعَة
1 / 9
٣ - معرفَة الْقَوَاعِد الْكُلية ٤ معرفَة مَوَاضِع الْخلاف ٥ الْعلم بِالْعرْفِ الْجَارِي فِي الْبَلَد ٦ معرفَة الْمنطق ٧ عَدَالَة الْمُجْتَهد وصلاحه ٨ حسن الطَّرِيقَة وسلامة المسلك ٩ الْوَرع والعفة ١٠ رصانة الْفِكر وجودة الملاحظة ١١ الإفتقار إِلَى الله تَعَالَى والتوجه إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ ١٢ ثقته بِنَفسِهِ وَشَهَادَة النَّاس لَهُ بالأهلية ١٣ مُوَافقَة عمله مُقْتَضى قَوْله
1 / 10
أهمية الإجتهاد
إِن الإجتهاد فِي الْإِسْلَام أقوى دَلِيل على أَن ديننَا الحنيف هُوَ الدّين الشَّامِل الخالد الوحيد الَّذِي يُسَايِر ركب الحضارة الإنسانية عبر العصور والأجيال ويرحب بِكُل التغيرات الطارئة والمشاكل الناجمة من تجدّد الظروف والمصالح على اخْتِلَاف المجتمعات الإنسانية فِي مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا ويعرض لَهَا حلولا مُنَاسبَة فِي ضوء الْأَحْكَام الْكُلية وَالْأُصُول الثَّابِتَة من الْكتاب وَالسّنة
الإجتهاد منحة إلهية مستمرة
إِن مسَائِل الْعَصْر تتجد ووقائع الْوُجُود لَا تَنْحَصِر ونصوص الْكتاب وَالسّنة محصورة محدودة فَكَانَ الإجتهاد فِي الْأُمُور المستحدثة حَاجَة إسلامية ملحة لمسايرة ركب الْحَيَاة الإنسانية تَلْبِيَة لهَذِهِ الْحَاجة قد قَامَ الصَّحَابَة ﵃ وَمن بعدهمْ من التَّابِعين وأتباعهم وأئمة الْإِسْلَام وفقهاء الْأمة بالإجتهاد فِي الْمسَائِل المستجدة فِي عصورهم وَصَارَ الإجتهاد منحة ربانية مستمرة يتمتع بهَا الْمُسلمُونَ بجهود الْمُجْتَهدين الْأَكفاء فِي كل زمَان وَمَكَان وَلم تكن خَاصَّة بعصر دون عصر وبمصر دون مصر حَتَّى يفهم ونعوذ بِاللَّه تَعَالَى أَن رَحْمَة الله ﷿ صَارَت عقيمة بعد ذَلِك وانقطعت عَن الْعلمَاء الْمُتَأَخِّرين المتأهلين وَلَا شكّ أَن هَذَا الإعتقاد بإنتهاء الإجتهاد والمجتهدين تحجر رَحْمَة الله الواسعة وَحكم على قدره وقضائه بِدُونِ علم يشبه بصيحة فِي وَاد وَنفخ فِي رماد أَمَام قَول الله ﷿ ﴿وَآخَرين مِنْهُم لما يلْحقُوا بهم وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم﴾ الْجُمُعَة ٢ ٣
1 / 11
وَعَن أنس بن مَالك ﵁ أَن النَّبِي ﷺ قَالَ مثل أمتِي مثل الْمَطَر لَا يدرى أَوله خير أم آخِره هَذَا وَلَا يسوغ لأحد أَن يَدعِي أَن الْأَئِمَّة الْمُجْتَهدين الْمُتَقَدِّمين استوعبوا كل مَا هُوَ كَائِن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة لِأَن اسْتِيعَاب مَا كَانَ وَمَا يكون من صِفَات الله ﷿ الَّتِي لَا يُشَارِكهُ فِيهَا أحد غَيره ﴿وَعِنْده مفاتح الْغَيْب لَا يعلمهَا إِلَّا هُوَ وَيعلم مَا فِي الْبر وَالْبَحْر وَمَا تسْقط من ورقة إِلَّا يعلمهَا وَلَا حَبَّة فِي ظلمات الأَرْض وَلَا رطب وَلَا يَابِس إِلَّا فِي كتاب مُبين﴾ الْأَنْعَام ٥٩ وَلأَجل هَذَا لم يكن الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ يجتهدون فِي الْمسَائِل الخيالية بل كَانُوا يكْرهُونَ الْكَلَام فِيمَا لم يَقع ويمتنعون من الْإِجَابَة عَن الإفتراضات عَن مَسْرُوق بن الأجدع قَالَ سَأَلت أبي بن كَعْب عَن شَيْء فَقَالَ أَكَانَ بعد قلت لَا قَالَ فاصبر حَتَّى يكون فَإِن كَانَ اجتهدنا لَك رَأينَا وَعَن عمر بن الْخطاب ﵁ قَالَ إيَّاكُمْ وَهَذِه العضل فَإِنَّهَا إِذا نزلت بعث الله لَهَا من يقيمها ويفسرها
1 / 12
كل هَذَا التوقي من الْكَلَام فِي الإفتراضات كَانَ إِيمَانًا بِأَن الجهود الإنسانية مهما بذلت فِي تدوين الْمسَائِل الخيالية والوقائع الْفَرْضِيَّة لَا تستوعبها وَأما عِنْد وُقُوعهَا فَالله الْقَادِر الْقَدِير عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة يقيض من يحلهَا ويجتهد فِيهَا
مدى حريَّة التفكير والإجتهاد عِنْد الْأَئِمَّة وَاخْتِلَاف أَصْحَابهم مَعَهم
إِن الْأَئِمَّة ﵏ كَانُوا يبذلون أقْصَى جهودهم للوصول إِلَى الْحق فِي الْمسَائِل الإجتهادية وَمَعَ هَذَا لم يَكُونُوا يقطعون بِأَن إجتهادهم هُوَ مسك الختام وَالْأَمر الآخر الَّذِي لَا يجوز خِلَافه قطعا بل كَانُوا يحتاطون احْتِيَاطًا لَازِما عِنْد إبداء آرائهم فِي الْمسَائِل وَيَخَافُونَ فِي ذَلِك مُخَالفَة النُّصُوص الصَّرِيحَة من الْكتاب وَالسّنة وَلأَجل هَذَا نصوا على الرُّجُوع إِلَى السّنة عِنْد ظُهُور مخالفتهم إِيَّاهَا وأوصوا تلاميذهم وأصحابهم بترك أَقْوَالهم الْمُخَالفَة لَهَا وَهِي مستفيضة فِي مَكَانهَا
1 / 13
وَكَذَلِكَ لَا يتَصَوَّر أَن إِمَامًا من الْأَئِمَّة الْأَعْلَام مهما بلغ من الْعلم وَالْحِفْظ والضبط والإتقان وَالْفضل والوجاهة يسْتَقلّ بالحكم على الشَّيْء ويستبد بِرَأْيهِ ويفرضه على الآخرين فرضا قَالَ الله ﷿ ﴿نرفع دَرَجَات من نشَاء وَفَوق كل ذِي علم عليم﴾ يُوسُف ٧٦ ﴿وَقَالَ﴾ ﴿قل الرّوح من أَمر رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ من الْعلم إِلَّا قَلِيلا﴾ الْإِسْرَاء ٨٥ وَإِنِّي أعتقد وأدين بِأَن الْأَئِمَّة كَانُوا أبعد من أَن يتصفوا بِهَذِهِ الصّفة الكريهة من الاستبداد بِالرَّأْيِ وفرضه على الآخرين وَكَانُوا يدورون حَيْثُ دَار الْحق بِكُل أَمَانَة وإخلاص فَالْحق لَيْسَ محصورا فِي رَأْي أحد قطعا إِلَّا النَّبِي الْمَعْصُوم ﷺ وَمَا أحسن مَا ورد عَن الإِمَام أبي حنيفَة من قَوْله عِنْد الْإِفْتَاء هَذَا رَأْي النُّعْمَان بن ثَابت يَعْنِي نَفسه وَهُوَ أحسن مَا قدرت عَلَيْهِ فَمن جَاءَ بِأَحْسَن مِنْهُ فَهُوَ أولى بِالصَّوَابِ وَنقل عَن الإِمَام الشَّافِعِي أَنه قَالَ مَا ناظرت أحدا إِلَّا قلت اللَّهُمَّ أجر الْحق على قلبه وَلسَانه فَإِن كَانَ الْحق معي اتبعني وَإِن كَانَ الْحق مَعَه اتبعته انطلاقا من هَذَا المبدأ الْعَادِل من حريَّة التفكير وَتَقْدِير رَأْي الآخرين اخْتلفت الْأَئِمَّة فِيمَا بَينهم فِي الْأُصُول وَاخْتلف أَصْحَابهم مَعَهم أَيْضا فِي الْأُصُول كَمَا اخْتلفُوا مَعَهم فِي الْفُرُوع
1 / 14
فقد اخْتلف أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد بن الْحسن الشَّيْبَانِيّ مَعَ شيخهما الإِمَام أبي حنيفَة حَتَّى فِي الْأُصُول قَالَ السُّبْكِيّ فَإِنَّهُمَا يخالفان أصُول صَاحبهمَا وَقَالَ ابْن خلكان فِي تَرْجَمَة أبي يُوسُف كَانَ الْغَالِب عَلَيْهِ مَذْهَب أبي حنيفَة وَخَالفهُ فِي مَوَاضِع كَثِيرَة وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيّ استنكف مُحَمَّد بن الْحسن وَأَبُو يُوسُف عَن مُتَابَعَته فِي ثُلثي مذْهبه ووافقا الشَّافِعِي ﵏ فِي أَكثر الْمسَائِل وَقَالَ السُّيُوطِيّ وَكَذَلِكَ ابْن وهب وَابْن الْمَاجشون والمغيرة بن أبي حَازِم ومطرف بن كنَانَة لم يقلدوا شيخهم مَالِكًا فِي كل مَا قَالَ بل خالفوه فِي مَوَاضِع واختاروا غير قَوْله وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الْمُزنِيّ وَأبي عبيد بن حربويه وَابْن خُزَيْمَة وَابْن سُرَيج فَإِن كلا مِنْهُم خَالف إِمَامه فِي أَشْيَاء وَاخْتَارَ مِنْهَا غير قَوْله يَتَّضِح من هَذَا أَن اجْتِهَاد الْمُجْتَهد ورأيه لَا يُمكن أَن يكون بِمَثَابَة حكم الله ﷿ وَلَو كَانَ كَذَلِك لما سَاغَ لأَصْحَاب الْأَئِمَّة أَن يخالفوا آراء شيوخهم
1 / 15
وَهَكَذَا كَانَ الْفِقْه الإسلامي فِي الْقُرُون الْمَشْهُود لَهَا بِالْخَيرِ فِي ازدهار مُسْتَمر ونمو متواصل وَتقدم دَائِم وَكَانَت اجتهادات الْأَئِمَّة بَين الْأَخْذ وَالعطَاء وَالرَّدّ وَالْقَبُول حَتَّى فِي أوساط أَصْحَابهم إِلَى أَن فَشَا التَّقْلِيد فِي نصف الْقرن الرَّابِع وَبَدَأَ التعصب المذهبي يبيض ويفرخ ويصور الْحَكِيم ولي الله الدهلوي مَا حدث فِي النَّاس بعد الْمِائَة الرَّابِعَة قَائِلا وَلم يَأْتِ قرن بعد ذَلِك إِلَّا وَهُوَ أَكثر فتْنَة وأوفر تقليدا وَأَشد انتزاعا للأمانة من صُدُور الرِّجَال حَتَّى اطمأنوا بترك الْخَوْض فِي أَمر الدّين وَبِأَن يَقُولُوا ﴿إِنَّا وجدنَا آبَاءَنَا على أمة وَإِنَّا على آثَارهم مقتدون﴾ الزخرف ٢٢ وَإِلَى الله المشتكى وَهُوَ الْمُسْتَعَان وَبِه الثِّقَة وَعَلِيهِ التكلان
بَاب محزن من تأريخ الْمذَاهب الْفِقْهِيَّة
نظرة على كتب الْمذَاهب الْفِقْهِيَّة وسير الْأَئِمَّة المتبوعين وكتابات عُلَمَاء الْمذَاهب لتقويم مذاهبهم وترجيحها على الْمذَاهب الْأُخْرَى تكشف مَا بَينهَا من أحقاد متأصلة واتهامات متبادلة وحروب متطاولة وهجمات عنيفة حَتَّى على الْأَئِمَّة وَحط أقدارهم وتسفيه آرائهم مَا يَجْعَل الْإِنْسَان الْمُسلم الْمنصف الْعَادِل يتَيَقَّن أَن قَول مقلدة الْمذَاهب الشَّائِع بَينهم إِن الْمذَاهب كلهَا حق وعَلى الصَّوَاب من الدعاوي الْمُجَرَّدَة الَّتِي لَا دَلِيل عَلَيْهَا وَالْوَاقِع التأريخي يصدق ذَلِك مُنْذُ نشوء التعصب الْأَعْمَى للمذاهب حَتَّى يَوْمنَا هَذَا وإليكم بعض الْأَدِلَّة على مَا قُلْنَاهُ على سَبِيل الْمِثَال لَا الْحصْر
١ - كل حزب بِمَا لديهم فَرِحُونَ
كل من مقلدة الْمذَاهب يَدعِي أَن الْحق مَا هُوَ عَلَيْهِ وَمَا عَلَيْهِ غَيره فَبَاطِل وجوبا
1 / 16
قَالَ الحصفكي وَهُوَ من أشهر المؤلفين الأحناف فِي الْفِقْه الْحَنَفِيّ وفيهَا أَي فِي الْأَشْبَاه إِذا سئلنا عَن مَذْهَبنَا وَمذهب مخالفنا قُلْنَا وجوبا مَذْهَبنَا صَوَاب يحْتَمل الْخَطَأ وَمذهب مخالفنا خطأ يحْتَمل الصَّوَاب وَإِذا سئلنا عَن معتقدنا ومعتقد خصومنا قُلْنَا وجوبا الْحق مَا نَحن عَلَيْهِ وَالْبَاطِل مَا عَلَيْهِ خصومنا وَأَيْضًا نسب الحصفكي أَبْيَات إِلَى عبد الله بن الْمُبَارك فِي مدح الإِمَام أبي حنيفَة وَمِنْهَا ... فلعنة رَبنَا أعداد رمل ... على من رد قَول أبي حنيفَة ... وَنسب إِلَى أبي الْحسن الْكَرْخِي الْحَنَفِيّ أَنه قَالَ كل آيَة تخَالف مَا عَلَيْهِ أَصْحَابنَا فَهِيَ مؤولة أَو مَنْسُوخَة وَحَدِيث كَذَلِك فَهُوَ مؤول أَو مَنْسُوخ وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيّ الشَّافِعِي نَحن ندعي أَن يجب على كَافَّة العاقلين وَعَامة الْمُسلمين شرقا وغربا بعدا وقربا انتحال مَذْهَب الشَّافِعِي وَيجب على الْعَوام الطغام والجهال الأنذال أَيْضا انتحال مذْهبه بِحَيْثُ لَا يَبْغُونَ عَنهُ حولا وَلَا يُرِيدُونَ بِهِ بَدَلا
1 / 17
وَهَكَذَا كل وَاحِد يعظم إِمَامه ويرجح مذْهبه وَيَدْعُو إِلَى التقيد بِهِ ويسفه مَذَاهِب الآخرين ويبالغ فِي حط أقدارهم وَيرْفَع إِمَامه إِلَى منزلَة لم يبلغ بهَا أحد من أَصْحَاب النَّبِي ﷺ
إقتداء المقلدين بَعضهم لبَعض فِي الصَّلَاة
وصل الْخلاف المذهبي بَين المقلدين إِلَى أَن كثيرا من فُقَهَاء الأحناف قد أفتوا بِبُطْلَان صَلَاة الْحَنَفِيّ وَرَاء إِمَام شَافِعِيّ قَالَ ابْن الْهمام قَالَ أَبُو الْيُسْر اقْتِدَاء الْحَنَفِيّ بشافعي غير جَائِز لما روى مَكْحُول النَّسَفِيّ فِي كتاب لَهُ سَمَّاهُ الشعاع أَن رفع الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاة عِنْد الرُّكُوع وَالرَّفْع مِنْهُ مُفسد بِنَاء على أَنه عمل كثير وَمِنْهُم من قيد جَوَاز الِاقْتِدَاء بِهِ كقاضيخان بِأَن لَا يكون متعصبا وَلَا شاكا فِي إيمَانه ويحتاط فِي مَوْضُوع الْخلاف وَقد رد الشَّافِعِيَّة على هَذِه التهجمات الْحَنَفِيَّة بِأَن ألفوا كتبا ينتقصون فِيهَا مَذْهَب الْحَنَفِيَّة وَمن أشهرها كتاب مغيث الْخلق فِي تَرْجِيح القَوْل الْحق لأبي الْمَعَالِي عبد الملك الْجُوَيْنِيّ الشهير بِإِمَام الْحَرَمَيْنِ ت ٤٧٨ هـ فقد عَابَ فِيهِ مَذْهَب الإِمَام أبي حنيفَة فِي الصَّلَاة وَقَالَ وَهُوَ يصور الصَّلَاة الَّتِي جوزها الْحَنَفِيَّة فَإِن من انغمس فِي مستنقع نَبِيذ وَلبس جلد كلب غير مدبوغ وَأحرم بِالصَّلَاةِ مبدلا بِصِيغَة التَّكْبِير تَرْجَمته تركيا أَو هنديا ويقتصر فِي الْقُرْآن على تَرْجَمَة قَوْله ﴿مدهامتان﴾ ثمَّ يتْرك الرُّكُوع وينقر النقرتين لَا قعُود بَينهمَا وَلَا يقْرَأ التَّشَهُّد ثمَّ يحدث عمدا فِي آخر صلَاته بدل التَّسْلِيم وَلَو انفلت مِنْهُ بِأَن سبقه
1 / 18
الْحَدث يُعِيد الْوضُوء فِي أثْنَاء صلَاته وَيحدث بعده فَإِن لم يكن قَاصِدا فِي حَدثهُ الأول تحلل عَن صلَاته على الصِّحَّة ثمَّ قَالَ وَالَّذِي يَنْبَغِي أَن يقطع بِهِ كل ذِي دين أَن مثل هَذِه الصَّلَاة لَا يبْعَث الله بهَا نَبيا وَمَا بعث مُحَمَّد بن عبد الله صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ لدعاء النَّاس إِلَيْهَا وَهِي قطب الْإِسْلَام وعماد الدّين وَقد زعم أَن هَذَا الْقدر أقل الْوَاجِب فَهِيَ الصَّلَاة الَّتِي بعث بهَا النَّبِي ﷺ وَمَا عَداهَا آدَاب وَسنَن فَإِذن تدقيق الشَّافِعِي ﵁ يلائم الأَصْل وَيُوَافِقهُ فَكَانَ أولى من تدقيق أبي حنيفَة ﵁ لِأَنَّهُ يُخَالف الأَصْل
المحاريب الْأَرْبَعَة
من أَسْوَأ آثَار التَّقْلِيد على الْأمة مَا وَقع من تَقْسِيم الْقَضَاء والإفتاء والتدريس على عُلَمَاء الْمذَاهب الْأَرْبَعَة وَتَخْصِيص قَاض لَك مَذْهَب من الْمذَاهب يصور المقريزي هَذِه الظَّاهِرَة تصويرا محزنا فَيَقُول فَلَمَّا كَانَت سلطنة الْملك الظَّاهِر بيبرس البند قداري ولي بِمصْر والقاهرة أَرْبَعَة قُضَاة وهم شَافِعِيّ ومالكي وحنفي وحنبلي فاستمر ذَلِك من سنة خمس وَسِتِّينَ وسِتمِائَة حَتَّى لم يبْق فِي مَجْمُوع أَمْصَار الْإِسْلَام مَذْهَب يعرف من مَذَاهِب أهل الْإِسْلَام سوى هَذِه الْمذَاهب الْأَرْبَعَة وعقيدة الْأَشْعَرِيّ وعملت لأَهْلهَا الْمدَارِس والخوانك والزوايا والربط فِي سَائِر ممالك الْإِسْلَام وعودي من تمذهب بغَيْرهَا وَأنكر عَلَيْهِ وَلم يول قَاض وَلَا قبلت شَهَادَة أحد وَلَا قدم للخطابة
1 / 19
والإمامة والتدريس أحد مَا لم يكن مُقَلدًا لأحد هَذِه الْمذَاهب وَأفْتى فُقَهَاء هَذِه الْأَمْصَار بطول هَذِه الْمدَّة بِوُجُوب اتِّبَاع هَذِه الْمذَاهب وَتَحْرِيم مَا عَداهَا وَلم ينْتَه الْأَمر بِوُجُوب تَقْلِيد الْمذَاهب الْأَرْبَعَة بل صَار كل مَذْهَب مِنْهَا كَدين مُسْتَقل ونصوا على بطلَان الصَّلَاة خلف مُخَالف الْمَذْهَب كَمَا مضى وبالتالي كَانَ إنْشَاء المقامات للمذاهب الْأَرْبَعَة فِي الْحرم الْمَكِّيّ أمرا حتميا قَامَ بِهِ أشر مُلُوك الجراكسة فرج بن برقوق فِي أَوَائِل الْمِائَة التَّاسِعَة وَكَانَ الْأَمر على ذَلِك حَتَّى جمعهم الْملك الإِمَام عبد العزيز آل السُّعُود خلف إِمَام وَاحِد وَهدم ابْنه الْملك سعود بن عبد العزيز هَذِه المقامات الْأَرْبَعَة عِنْد الْبناء الْجَدِيد لبيت الله الْحَرَام فجزاهما الله خيرا وللأسف الشَّديد حَتَّى الْآن تُوجد الْمَسَاجِد الْخَاصَّة بأصحاب الْمذَاهب فِي بعض الْبلدَانِ وخاصة فِي شبه القارة الْهِنْدِيَّة
الزواج بَين المقلدين
لقد وصل الْخلاف إِلَى أَن منع بعض الْفُقَهَاء الأحناف تزوج الْحَنَفِيّ من الْمَرْأَة الشَّافِعِيَّة ثمَّ صدرت فَتْوَى من فَقِيه آخر ملقب بمفتي الثقلَيْن فَأجَاز تزوج الْحَنَفِيّ بالشافعية وَعلل ذَلِك بقوله تَنْزِيلا لَهَا منزلَة أهل الْكتاب وَقَالَ الْعَلامَة رشيد رضَا وَقد بلغ من إِيذَاء بعض المتعصبين لبَعض فِي
1 / 20
طرابلس الشَّام فِي آخر الْقرن الْمَاضِي أَن ذهب بعض شُيُوخ الشَّافِعِيَّة إِلَى الْمُفْتِي وَهُوَ رَئِيس الْعلمَاء وَقَالَ لَهُ اقْسمْ الْمَسَاجِد بَيْننَا وَبَين الْحَنَفِيَّة فَإنَّا فلَانا من فقهائهم يعدنا كَأَهل الذِّمَّة بِمَا أذاع فِي هَذِه الْأَيَّام من خلافهم فِي تزوج الرجل الْحَنَفِيّ بِالْمَرْأَةِ الشَّافِعِيَّة وَقَول بَعضهم لَا يَصح لِأَنَّهَا تشك فِي إيمَانهَا يَعْنِي أَن الشَّافِعِيَّة وَغَيرهم يجوزون أَن يَقُول الْمُسلم أَنا مُؤمن إِن شَاءَ الله وَقَول آخَرين بل يَصح نِكَاحهَا قِيَاسا على الذِّمِّيَّة
التناحر بَين الْمذَاهب
قد حصل التناحر العجيب بن الْمذَاهب بِحَيْثُ لم يكن يحب صَاحب مَذْهَب أَن تبقى الْمذَاهب الْأُخْرَى وَذَلِكَ تَحت رِعَايَة الدولة يَقُول المقريزي وَكَانَت الأفريقية الْغَالِب عَلَيْهَا السّنَن والْآثَار إِلَى أَن قدم عبد الله بن فروج أَبُو مُحَمَّد الْفَارِسِي بِمذهب أبي حنيفَة ثمَّ غلب أَسد بن الْفُرَات بن سِنَان قَاضِي أفريقية بِمذهب أبي حنيفَة ثمَّ أَن الْمعز بن باديس حمل جَمِيع أهل إفريقية على التَّمَسُّك بِمذهب مَالك وَترك مَا عَداهَا من الْمذَاهب فَرجع أهل إفريقية وَأهل الأندلس كلهم إِلَى مَذْهَب مَالك إِلَى الْيَوْم رَغْبَة فِيمَا عِنْد السُّلْطَان وحرصا على طلب الدُّنْيَا فَكَانَ الْقَضَاء والإفتاء فِي جَمِيع تِلْكَ المدن وَسَائِر الْقرى لَا يكون إِلَّا لمن تسمى بالفقه على مَذْهَب مَالك فاضطرت الْعَامَّة إِلَى أحكامهم وفتاواهم فَفَشَا هَذَا الْمَذْهَب هُنَاكَ فشوا طبق تِلْكَ الأقطار كَمَا فَشَا مَذْهَب أبي حنيفَة بِبِلَاد الْمشرق وَذكر الْحَافِظ أَبُو الْفِدَاء إِسْمَاعِيل بن كثير الدِّمَشْقِي أَن الْملك الْأَفْضَل ابْن
1 / 21
صَلَاح الدّين ت ٥٩٥ هـ كَانَ قد عزم فِي السّنة الَّتِي توفّي فِيهَا على إِخْرَاج الْحَنَابِلَة من بَلَده وَأَن يكْتب إِلَى بَقِيَّة إخْوَته بإخراجهم من الْبِلَاد وَذكر أَيْضا أَن عبد الغني الْمَقْدِسِي تعرض إِلَى مَسْأَلَة صِفَات الله ﷿ فِي دمشق فَغَضب عَلَيْهِ أَتبَاع الْمذَاهب الْأُخْرَى فَأمر الْأَمِير صارم الدّين برغش بنفيه من الْبَلَد وَأرْسل الْأُسَارَى من القلعة فكسروا مِنْبَر الْحَنَابِلَة وتعطلت يَوْمئِذٍ صَلَاة الظّهْر فِي محراب الْحَنَابِلَة
مدى انتشار الحروب وخراب الْبِلَاد بَين المتمذهبين
لم تكن الخلافات والنزاعات بَين المقلدين مقتصرة على الآراء الْفِقْهِيَّة فَقَط بل بلغ بهم التعصب إِلَى الحروب الطاحنة فِيمَا بَينهم يرْوى لنا التأريخ الشي الْكثير من ذَلِك قَالَ ياقوت الْحَمَوِيّ وَهُوَ بصدد ذكر مَدِينَة أَصْبَهَان وَقد فَشَا الخراب فِي هَذَا الْوَقْت وَقَبله فِي نَوَاحِيهَا لِكَثْرَة الْفِتَن والتعصب بَين الشَّافِعِيَّة وَالْحَنَفِيَّة والحروب الْمُتَّصِلَة بَين الحزبين فَكلما ظَهرت طَائِفَة نهبت محلّة الْأُخْرَى وأحرقتها وخربتها لَا يَأْخُذهُمْ فِي ذَلِك إل وَلَا ذمَّة وَمَعَ ذَلِك فقد قل أَن تدوم بهَا دولة سُلْطَان أَو يُقيم بهَا فيصلح فاسدها وَكَذَلِكَ الْأَمر فِي رساتيقها وقراها الَّتِي كل وَاحِدَة مِنْهَا كالمدينة وَهَذَا غيض من فيض مِمَّا وَقع بَين أَتبَاع الْمذَاهب الَّذِي يندى لَهُ جبين التعصب أعاذنا الله جَمِيعًا من هَذَا الدَّاء العضال الَّذِي أصَاب الْأمة الإسلامية
1 / 22
المتلاحمة ففرقها ولنختم هَذَا الْمَوْضُوع بِمَا أوردهُ اللكنوي فِي كتاب الْفَوَائِد البهية فِي تَرْجَمَة عِيسَى بن سيف الدّين أبي بكر بن أَيُّوب فقد قَالَ فِيهِ كَانَ متغاليا فِي التعصب لمَذْهَب أبي حنيفَة قَالَ لَهُ وَالِده يَوْمًا كَيفَ اخْتَرْت مَذْهَب أبي حنيفَة وَأهْلك كلهم شافعية فَقَالَ أترغبون عَن أَن يكون فِيكُم رجل وَاحِد مُسلم
رمتني بدائها وانسلت
بعد هَذَا الاستعراض لتأريخ التناحرات المذهبية المقيتة آمل أَن تتبلور حَقِيقَة دَعْوَى أَن الْمذَاهب كلهَا حق وعَلى الصَّوَاب وتنكشف نوايا المقلدة الخبيثة ضد الْأَئِمَّة الآخرين وحربهم الشعواء على الْمذَاهب الْأُخْرَى مُؤمنين إِيمَانًا جَازِمًا بِأَن الْمَذْهَب الَّذِي هم عَلَيْهِ هُوَ الْحجَّة الشَّرْعِيَّة الوحيدة على كل فَرد من أَفْرَاد الْأمة وَلَا يجوز لأحد أَن يخرج عَنهُ من المؤسف المحزن المخزي أَن الجذوة التقليدية الجائرة لم تخمد حَتَّى الْآن فِي أوساط أَتبَاع الْمذَاهب فِي كثير من الْبلدَانِ وَلَو كَانَ الْأَمر بِأَيْدِيهِم لأخذوا الْجِزْيَة من أَتبَاع الْمذَاهب الْأُخْرَى كَمَا قَالَ مُحَمَّد بن مُوسَى البلاساغوني المبتدع قَاضِي دمشق الْمُتَوفَّى ٥٠٦ هـ لَو كَانَ لي أَمر لأخذت الْجِزْيَة من الشَّافِعِيَّة يتقطع الْقلب حزنا وأسى على رضاهم عَن تِلْكَ الداهية الدهياء والمصيبة الصماء الَّتِي شتت شَمل الْأمة أَسْوَأ تشتيت فِي الْمَاضِي وتمزقها فِي الْمُسْتَقْبل شَرّ ممزق
1 / 23