ورجل اتخذ علمه وسيلة إلى منافعه العاجلة، ورفض الآجلة ينافس به العلماء، ويناوي به العظماء، ويفاخر به ويكاثر، ويماري به ويكابر، ويدخل به كل مدخل، ويقضي به كل أرب، وهو لأجل علمه عارف بركاكة حاله، ومستشعر بخسة مقصده، فهذا من الهالكين والحمقاء المغترين، وهو ممن وصفه الله تعالى بقوله: {مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم [الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين]}(2) وفي قوله: {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم [لذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون]} (3) هذه الآية نزلت في قصة بلعام بن باعوراء(4) وكان عالما يعلم الاسم الأعظم فلما أخلد إلى الدنيا واتبع الهوى أنسيه فمثل الله عالم السوء المائل إلى الدنيا والراكن عليها بالكلب لأنه لا يكاد يرتدع عن غيه متى تظاهر به، بل يستخف بمن يذكره، ويتهاون به ويحتج لنفسه في حكمه ويدعي أنه عامل بعلمه كالكلب الذي لا يزال يلهث سواء طردته أو تركته، وهذا الصنف والذي قبله هما اللذان حذر عنهما النبي بقوله: (اتقوا العابد الجاهل والعالم الفاسق) (1) وانما حذر عنهما لعظيم اجترامهما، فإن الزاهد الجاهل يدع الناس بزهده إلى سلوك مثل طريقته في جهله وإن لم يتبعوه في زهده، والعالم الفاسق يدع الناس بعلمه إلى مثل عمله وإن لم يتبعوه في علمه ؛ لأن العلم والزهد عمل البررة الأخيار وخدمة الملك الجبار، وقد جعل الله تعالى في القلوب لخدمه مودة ورحمة وجلالة وعظمة قال الله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمان ودا}(2) فتدعوهم تلك الأعمال السنية التي هي العلم والزهد إلى الإتباع لهما في الأمور السهلة الشهية التي هي الفسق والجهل وإن لم يتبعوهما في العلم والزهد لما كانا من الأمور الشاقة، فمن هاهنا يعظم وزرهما، ويكثر الضلال بسببهما، وما تملكت الظلمة وتصدرت الفاسقة، وقل نمو الدين، وارتفعت أصوات العاصين، واستهين بالمؤمنين، وتكالب الناس على الدنيا وطرحوا الأخرى، ومالوا عن أئمة الهدى، في أكثر الأزمنة والأعصار والأقطار إلا بسبب هذين الصنفين وهما الزهاد الجهال والعلماء الفساق، فلا يكاد الطغام وهم الأكثر يلتفتون إلا ووجدوا عالما متلفتا إلى الدنيا بكليته ذاهبا عن الآخرة بجملته، أو زاهدا قد غمرته الجهالات فتغطمط في بحار الهلكات(3) فما أفسد الزاهد بجهله أكثر مما أصلحه بزهده، وما أفسد العالم بعمله أكثر مما أصلحه بعلمه، فقد صارا سببا لجرأة عباد الله على معاصيه أعاذنا الله من شرهما، وصرفنا عن ضرهما بحقه العظيم، ونبيه الكريم إنه غفور رحيم.
Страница 7