ووجه آخر : وهو أنه تعالى لو خلقنا وأحيانا وتركنا مهملين بغير تكليف ، كما قال تعالى :{أحسب الناس أن يتركوا}(1) لكانت أحوالنا خسيسة ، وعاقبة أمرنا أخس وأحقر؛ لأن الانتفاع بهذه الدنيا حقير ، ولو حصلت بأجمعها لواحد منا ، مع أنها مشتركة بينه وبين أصدقائه وأعدائه ، فهي على الدوام مشوبة بالتنغيص والتكدير ، وحسبك أن لذتها تقارب لمح البصر ، فالآكل لا يلتذ بما مضى قبل ساعته ، ولا بما يأتيه ولا يتقدر وقت اللذة بلقمته إلا مادامت في فمه ، وربما سبق زوال لذتها هبوطها وانحدارها ، وكذلك المجامع يصب ماء ه فتزول لذته ، وربما سبق ، وربما نغص عليهما في أثناء ذلك أيضا ، ثم يصير الطعام الذي يلتذ به إلى ما قد علمت ، وما يلتذ به المجامع هو في نفسه قد جمع من القذارات مالا يخفي . والملتذ بالملبس يزول رونق ثوبه أسرع شي ء ، ثم يبلى ويهتم ، ويلحقه من التنغيص أيضا ما لا يخفى في أثناء لذته ، وكذلك جميع لذات الدنيا.
ثم الإنسان في نفسه يبدو حقيرا ضعيفا ، ثم يترونق شيئا يسيرا ، ثم يبلى قليلا قليلا ، فيتغير شعره من السواد إلى البياض ، ويتغير خلقه من النظارة إلى القحولة ، ثم ينكفت جلده ويسترخي ، وتسود بشرته ويتكدر ، ثم يعود إن طال عمره إلى أشر من حالة الصغر ، فاشترى منا ربنا هذه العيشة الهنية الرذلة بالتكليف ، وهو الطريق الموصلة إلى حياة الأبد ، والنعيم الذي لا يفنى ولا يزول كما قال تعالى :{إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم}(2) الآية ، أو كأنه تعالى استأجرنا على مرور هذه الطريق التي
عرفنا إياها ، وهي التكليف وجعل الأجرة ما نصل إليه ، وهو الجنة عند مرورها ، فمنه الإنعام عليها في هدايتنا إلى هذه الطريق الجليلة القدر ، وله المنة في استئجارنا لمنفعتنا لا لمنفعته جل وعز ، وله المنة في نفس الأجرة التي لا يقدر عليها غيره.
Страница 206