على سبيل المثال: كانت الروايات التاريخية للعرق التي تضع «الأعراق» عبر متسلسلة «للنضج» النسبي؛ عادة ما تستخدم لتبرير نزع الملكية، والهيمنة، والعزل، والإقصاء. وفي بعض السياقات، كانت هذه الخطابات تندمج مع خطابات الجنسانية لدعم الصور المزدوجة للذكر الأسود الشبق غير الناضج والمرأة البيضاء النقية والمستضعفة؛ من أجل تبرير التبعية العرقية. الأهم بالنسبة إلى أهدافنا أنها قدمت الأساس التسويغي للأقلمة المفرطة للعرق والنوع، ولكنها عادة ما كانت تندمج على نحو مختلف تماما فيما يتعلق بالرجال البيض والنساء السود، مثل أن النساء السود كن أكثر عرضة بكثير للاعتداء الجنسي من قبل الرجال البيض، ولم يكن الرجال البيض يتعرضون للإعدام لانتهاك الحدود العرقية-الجنسانية. كذلك تنوعت الطرق التي لعبت بها أساليب خطاب العرق والجنسانية دورا في عمليات الأقلمة الاجتماعية بلا شك في سياقات مختلفة، لنقل، في الجنوب الأمريكي وجنوب أفريقيا، في عام 1910 أو في عام 1960. وقد تشكلت عمليات أقلمة السلطة هذه عبر محوري العرق والجنسانية، أو صارت ملموسة من خلال أساليب خطاب السلطة التي شكلت السياق الأوسع ل «استراتيجيات» خاصة للسيطرة والتحكم، أو إجراءات خاصة «للتصنيف»، و«التواصل»، و«فرض السيطرة».
لذلك فإن توجيه مزيد من الانتباه إلى الخطاب والممارسات الخطابية من شأنه إعادة النموذج الشفاف (بدرجة ما أو بأخرى) للتواصل الذي يشكل النظرية في كتاب «الإقليمية البشرية»؛ فهو يعقد فهمنا لكيفية صياغة عمليات الأقلمة للعلاقات بين السلطة، والمعنى، والخبرة . والانتباه إلى الخطاب في هذا الإطار يتيح لنا النظر إلى التعقيدات الإقليمية - كتلك التي يعبر من خلالها عن العرق والنوع - على نحو أكبر في إطار تفصيلاتها الثقافية والتاريخية، ووضع ممارسات خاصة، مثل العزل، أو الترحيل، أو الإجلاء، أو الاحتجاز، وعلى نحو أقل في إطار الاستراتيجيات المتعمدة للاعبين العقلانيين، وعلى نحو أكبر في إطار الفعاليات الثقافية.
ولكن على نحو أكثر تحديدا، لا تعمل دوامة الأساليب الخطابية الاجتماعية على تكييف آليات الإقليمية بعمق فحسب، بل إن الأساليب الخطابية الإقليمية المتخصصة نفسها قد تشكل هذه الأساليب الخطابية الاجتماعية على نحو تكراري. وتأكيد ساك هنا على الطابع المجرد للثقافات الحديثة (أو ربما، لمزيد من الدقة، المكتوبة) مهم؛ فكما رأينا في الفصل الثاني، تتحول الأساليب الخطابية المتمحورة حول السيادة والملكية الخاصة والذات إلى أساليب خطابية ملموسة وواضحة بالاعتماد على رؤية خاصة للإقليم كبنيات مميزة للحدود لا كبنيات مقسمة تقسيما صارما إلى «داخلية/خارجية» على الحيز الاجتماعي. (3-3) الهويات
بدافع من النظريات النسوية، ونظرية ما بعد الاستعمارية، ونظرية العرق النقدية، ونظرية الكوير، والنظرية الثقافية، وغيرها من المشروعات الأكاديمية الحديثة الأخرى؛ خضعت مسائل الهوية أيضا لتدقيق أكبر على نحو ملحوظ منذ نشر كتاب «الإقليمية البشرية». ويرتبط جزء كبير من هذا بعملية إعادة التفكير في الإقليمية التي نوقشت في الفصل الثاني. وكما أشرت فيما سبق، قد تدعم التفسيرات السائدة للهوية بالأساليب الخطابية التقليدية للإقليم. وقد تطورت التحديات التي تواجه هذه التفسيرات السائدة من خلال الانتقادات التي توجه للأساليب الخطابية التقليدية للإقليم، التي تفترض وجود علاقة تشابه بين الهوية والإقليم. ويصبح هذا الأمر جليا للغاية فيما يتعلق بالقومية. وقد تطرق كتاب «الإقليمية البشرية» بالكاد لهذا الشأن؛ فالهوية، على أقصى تقدير، مفترضة ببساطة (ما يعني وجود دخلاء ومنتمين إلى الداخل)، والمشكلات المتعلقة بالهوية والاختلاف والتشابه والتسلسل الهرمي لا تكاد تلعب أي دور في النظرية. ولعل من ضمن السمات المميزة للإقليمية الحديثة، بالنسبة إلى ساك، بروز التعريفات الإقليمية للعلاقات الاجتماعية (أو ربما «العضوية»). وبينما يعد هذا بلا شك تعميما دقيقا في هذا الإطار، فإن تأكيدا أقوى مما ينبغي على هذا يمكن أن يعتم على جوانب الغموض والتباين والتذبذب المتعلقة بعمليات تكوين ونسب الهوية؛ ومن ثم لا يتيح سوى رؤية جزئية للدور الذي تلعبه الإقليمية في هذه العمليات.
وتميل الأساليب الخطابية الإقليمية السائدة، كتلك التي تتركز على القومية، إلى التعامل مع الهوية بمصطلحات ماهوية: «نحن» ببساطة نحن، و«هم» ليسوا «نحن». بالمثل، يعد العرق والجنسانية والنوع ببساطة تصنيفات طبيعية ومتمايزة ودائمة. والممارسات الإقليمية عادة ما تكون موجهة نحو تحقيق التطابق الملائم بين الهويات (الاختلافات) والحدود؛ فلكي يتم إبعاد «الغرباء»، علينا أن نعرف من هم ومن نحن. ولكن، كما هو مشار إليه فيما سبق، إذا استوعبنا جوانب عديدة من الهوية لا ك «حقائق» موضوعية ثابتة خالدة عاكسة، ولكن كتكوينات مخلقة ومنقحة ومتفاوض عليها على نحو استطرادي؛ فسوف ننظر إلى علاقتها بالأقاليم نظرة مختلفة؛ فمشكلة الهوية ترتبط ارتباطا وثيقا بفكرة الاستطراد؛ ففي مقال بعنوان «الهويات الإقليمية كتكوينات اجتماعية»، يذهب الجغرافي السياسي أنسي باسي إلى أنه يتعين على الباحثين أن يولوا اهتماما أكبر ل «الممارسات والأساليب الخطابية التي تتكون من خلالها روايات ورموز ومؤسسات الهوية القومية، وكيف أنها تصبح «رواسب» للحياة اليومية، التي تعد الأساس الجوهري الذي تستنسخ بناء عليه الأشكال الجماعية للهوية والإقليمية» (باسي 2000أ، 93). ومن خلال وضع الهوية داخل سياق العولمة، يتساءل: «ما الكيفية التي ينبغي فهم «الهوية» بها في عالم التدفقات المعاصر؛ حيث الأفكار والسلع ليست وحدها التي تتنقل، بل البشر أيضا؛ وحيث التفاعل بين الأشخاص الذين يعيشون في شتات يصبح أسهل بفضل تطوير تقنيات جديدة؟»
يذكر ويلسون ودونان «سياسة جديدة للهوية، حيث تتبارى تعريفات المواطنة، والأمة والدولة مع الهويات التي اكتسبت دلالة سياسية جديدة، مثل النوع والجنسية والانتماء العرقي والعرق، ضمن هويات أخرى، من أجل التحكم في الخيالات الشعبية والعلمية للعالم المعاصر» (1999، 1). ولهذه السياسة آثار مباشرة على كيفية فهم الإقليم، وعلى الأخص الحدود. «بفضل طبيعتها الحدية والمتنازع عليها دوما، تميل الحدود لأن تتميز بهويات متغيرة ومتعددة، بطرق تحاط بإطار من التشكيلات الخاصة للدولة التي تطوقها، والتي لا بد للناس أن يضيفوا بداخلها معنى لخبرتهم مع حياة الحدود. ولا ينطبق هذا فحسب على الهوية القومية، بل أيضا على الهويات الأخرى، مثل الانتماء العرقي، والطبقة الاجتماعية، والنوع، والجنسانيات؛ تلك الهويات التي غالبا ما تتكون على الحدود بطرق تختلف عن الكيفية التي تتكون بها تلك الهويات نفسها في أماكن أخرى داخل حدود الدولة، بل وتسلط الضوء أيضا على هذه الكيفية» (ص13).
تركز مثل هذه المناقشات على تشرذم أو ميوعة الهويات القومية في عالم معولم غير مؤقلم ظاهريا، والمشكلات التي يخلقها هذا للارتباط المتشابه للهويات القومية بالأقاليم السياسية. ولكن يوجد جوانب أو مكونات أخرى عديدة للهويات الفردية والجماعية (مفروضة أو منسوبة ذاتيا) تتعامل مع افتراضات أخرى مسلم بها بشأن الإقليم كإشكاليات. ومرة أخرى، يقدم العرق والنوع أمثلة توضيحية مفيدة؛ ففي تاريخ الولايات المتحدة كانت الأقلمة المفرطة للعرق تنظم جزئيا بواسطة الإشارة إلى «قاعدة القطرة الواحدة»، التي بمقتضاها كانت «قطرة واحدة» مما كان يسمى «الدم الزنجي» (أي سلف أفريقي واحد، مهما كان من زمن بعيد) تؤدي إلى تصنيف شخص ما «زنجيا»؛ ومن ثم «ليس أبيض» بطبيعة الحال؛ ولذلك، رسميا، كانت كل عمليات الإقصاء والعيوب والمزايا التي تئول إلى «الزنوج»، بمجرد أن ترتبط بهم، تصبح أبدية لجميع ذرية الفرد، حتى لو حكم عليهم في الظاهر بأنهم «قوقازيون». وكانت الفئات المهجنة، مثل «المولدين» أو «من كان ثمن أسلافهم من الزنوج» أو «ذوي الدماء المختلطة»، التي كان العرق في أمريكا يوضح من خلالها في الخطابات الاجتماعية؛ تطمس بفضل فئتي «الزنجي» و«القوقازي» القانونيتين الحصريتين، وكانت هذه الفئات تنظم بموجب قاعدة القطرة الواحدة. وردا على هذا، كان بعض الناس ممن استطاعوا اتخاذ القرار المصيري «بتحويل» هويتهم العرقية إلى العرق الأبيض، استطاعوا الهرب من عمليات الأقلمة المقيدة لتفوق البيض. فالعرق هوية واحدة فقط ضمن هويات عديدة مسجلة اجتماعيا. ولما كنا «نصنف عرقيا» على نحو مختلف، «نصنف كذلك جنسيا» و«عمريا»، وهكذا، على نحو مختلف. ويمكن العثور على ظاهرة «تغيير الهوية العرقية» عبر محاور السلطة الأخرى أيضا. ولما كانت محاور السلطة هذه خاضعة للأقلمة، فإن «تغيير الهوية العرقية» (أو عدم تغييرها) أو كون الفرد مطرودا، بعد كشف هويته الحقيقية، قد يقحم على نحو بالغ وعميق في كيفية معايشة الإقليمية. والتعامل مع «الهوية» كمشكلة بهذه الطريقة من شأنه لفت انتباهنا إلى طرق أخرى لتسيير الإقليم والتفاوض عليه، ويتيح لنا رؤية الممارسات الإقليمية بوصفها تتضمن أكثر من ممارسات التصنيف، والتواصل، وفرض السيطرة التي هي جميعا في صميم نموذج ساك.
بعد ذلك توجد الهويات الأخرى التي لا تحصى، والتي لها أساس ولو جزئيا على الأقل في الآليات العملية للإقليم: اللاجئ، والمواطن الأصلي، والمستأجر، والسجين، والحارس، والهارب، والمحتل، والأجنبي، والمدير، وما إلى ذلك. وهذه الهويات أيضا تتعارض وتندمج مع الفئات الاجتماعية الأوسع - أو تجنح عنها - و «المحتومة» فيما يبدو، الخاصة بالجنسية، والعرق، والنوع، والسن. وبقدر ما تعد الهوية الآن متلونة، فإن العناصر الإقليمية التي تأخذ الأهمية الظاهرية للهوية كأمر مسلم به (باعتبارها ثابتة بدرجة ما أو بأخرى بفعل الإقليم) مفتوحة للمساءلة والتشكيك. والهوية في هذا الإطار ليست من الشواغل البارزة لكتاب «الإقليمية البشرية». فبمجرد أن تصبح إشكالية، يتوجب كذلك أن يكون فهمنا للإقليمية. وفي الفصل القادم سوف نبحث العلاقة المعقدة بين الإقليمية وتركيب هويات «الإسرائيليين» و«الفلسطينيين». (3-4) السياسة
لم تكن موضوعات الهوية، والخطاب، وما بعد الحداثة، سائدة في المناقشات الأكاديمية للإقليم على هذا النحو وقت تأليف كتاب «الإقليمية البشرية». وحتى لو كانت كذلك، لم يكن غيابها النسبي عن نظرية ساك ليشكل خللا بالضرورة. على الجانب الآخر، ربما توقع المرء أن موضوع السياسة قد أعطي أهمية أكبر بكثير، ويصح هذا على نحو خاص بالنظر إلى مجال الجغرافيا الذي يعد المجال الأم بالنسبة إلى ساك؛ فقد كان «الإقليم» ملكا للجغرافيين السياسيين لأجيال. يحدد وصف ساك على نحو صارم موضع آليات الإقليمية لدى أولئك الذين يمتلكون السلطة على الآخرين أو يطمحون إليها، ولكن وصفه في النهاية هو قراءة هزيلة نوعا ما للسلطة، و«السياسة» بأي حال شبه غائبة تماما. ولكن على الرغم من ذلك، لا بد من الانتباه إلى حقيقة أن نوعيات الأحداث والعلاقات والممارسات، التي تعد الآن على نحو روتيني «سياسية»، مختلفة نوعا ما عن تلك التي عادة ما كانت تعد سياسة منذ جيل مضى.
وكما شاهدنا في الفصل الثاني، قد يكون مفهوم «السياسي» في حد ذاته محدودا بافتراضات «بديهية» بشأن الإقليم؛ فترى نظرية العلاقات الدولية «الواقعية» التقليدية، على سبيل المثال، أن «العنصر السياسي» يوجد فقط داخل الدول السيادية، وليس بينها. وثمة رؤى تقليدية أخرى تربط العنصر السياسي بالمنافسات من أجل السيطرة على الدولة، أو بإجراءات وممارسات الديمقراطية. ومرة أخرى، وتحت تأثير النظريات النقدية مثل النسوية، والماركسية، وما بعد البنائية، ونظرية العرق النقدية؛ صار «العنصر السياسي» الآن معترفا بوجوده داخل جميع جوانب الحياة الاجتماعية تقريبا؛ لذلك قد يكون معرفا فيما يتعلق تقريبا بأي حدث خاضع للأقلمة. والواقع أن نزع مصطلح «سياسي» من آليات العلاقات الاجتماعية قد يفهم في حد ذاته كإزالة تكتيكية للصفة السياسية، أو بعبارة أخرى كعملية سياسية في حد ذاته. إذا، إذا كان «العنصر السياسي» موجودا في كل مكان، وإذا كان عنصرا غير قابل للحذف أو الطمس (ربما) من أي حدث إقليمي، فما الذي كانت ستعنيه قراءة كتاب «الإقليمية البشرية» من منظور أكثر سياسية؟ كما هي الحال مع موضوعات الحداثة، والخطاب، والهوية، لا يسعني هنا سوى تقديم بعض المقترحات؛ فهدفي ببساطة هو الإشارة إلى بعض من حدود إقليم ساك.
Неизвестная страница