مرة أخرى، وعلى نحو عام للغاية، ينظر إلى فكرة أن النفس الحديثة هي نفس فردية أو مستقلة على نحو قوي، تتطلع إلى ظروف الحرية وتزدهر تحتها؛ على أنها اختيارات مقيدة إلى أدنى حد. وكما هو مفهوم تقليديا، فإن النفس الحديثة هي شخص يحمل حقوقا تتشكل خبرات حياته ب «المكانة» على نحو أقل، وب «العقد» على نحو أكثر؛ بالتسلسلات الهرمية على نحو أقل، وبالاختيار على نحو أكثر؛ فالعلاقة بين الإقليم والفردية (أو عملية التفرد التاريخية) ليست مقتصرة بأي حال على آثار الملكية الخاصة، وتتجلى أيضا في الطرق التي تمنح بها الخصوصية، والحقوق المدنية، والحريات المدنية، ومفاهيم حقوق الإنسان تعبيرا مكانيا على نحو أعم. لتنظر في هذا المقام إلى القدسية الظاهرية لجسم الإنسان باعتبارها الإقليم الأساسي للنفس الحديثة والألم الذي عادة ما يصاحب المواقف التي تتجاوز فيها هذه القدسية. كذلك من التداعيات المهمة، كما سأناقش فيما يلي، لابتكار الإقليمية الحديثة في مختلف أرجاء العالم أن النفس الحديثة نسبيا نفس متحركة نسبيا.
مؤخرا عكف على فكرة الحداثة هؤلاء الذين إن لم يكونوا ناقدين لفكرة التحديث في أساسها، فعلى الأقل يجلبون نزعات وقيما مختلفة لربطها بالموضوع. ربما يترقب بعض الكتاب قدوم فترة تاريخية تحررية تنتمي إلى ما بعد الحداثة بكل لهفة وحماس، والبعض يكتب من منطلق خوف وهلع من انهيار متخيل للحداثة وبطلان لمثل عصر التنوير التي زعم أنها كانت الوقود للمسار التقدمي للحداثة. وبحكم الطبيعة الأساسية لطريقة فهم الحداثة، يستتبع ذلك بالضرورة ارتدادا إلى ظلام، وفوضى، وقيود ما قبل الحداثة. وتشكل فكرة الحداثة أهمية لأهدافنا الكبرى؛ نظرا لأن الأيديولوجيات، وأساليب الخطاب، والممارسات، والعمليات المختلفة المرتبطة بها (والتيارات المعارضة للحداثة التي أفرزتها) أسفرت عن تحولات غير مسبوقة تاريخيا للحياة الاجتماعية للإنسان على مستوى الخبرة البشرية لكل شخص يحيا على ظهر الكوكب اليوم. والإقرار بالاحتمالية التاريخية للحداثة يمكن أن يفتح الباب أمام أسئلة مهمة عن احتمالية ظهور أشكال وممارسات حديثة مميزة ومختلفة للإقليمية.
قد يميز المرء على نحو مفيد بين «أقاليم الحداثة» - أو النطاق الضخم للأشكال الإقليمية الجديدة التي تجلت من خلالها الحداثة في كل أوجهها - و«الإقليمية الحديثة». وتشمل الأمثلة على أقاليم الحداثة زنزانة السجن العالية التقنية، ومعسكر اللاجئين، والمصنع، والمنطقة المخصصة للانتظار عند بوابة المطار، وأماكن إيقاف المقطورات، وأشياء أخرى لا حصر لها. تشير «الإقليمية الحديثة» إلى العمليات والممارسات الإقليمية التي تنبثق من أساليب التفكير والتصرف المختلفة والمتميزة في عالم حديث. ولعل المثال الأبرز على هذا هو القدرة على تصور الكوكب بأكمله باعتباره مكانا واحدا قسم إلى دول يتعارض وجودها معا، وسيادية افتراضا، تشكل الكيان «الدولي». والإقليمية الحديثة تعكس وتعزز المفاهيم الخاصة بالذات، والمجتمع، والهوية، والمعرفة، والسلطة، والعلاقات بينها التي غالبا ما تكون متعارضة أو غامضة. والتأكيد على تميز الحداثة والإقليمية الحديثة، المستندتين على الإنتاج المتواصل للتجديد، يتيح لنا تكوين فهم أفضل لتاريخية التشكيلات الإقليمية القائمة، وتلك التي في طور الصيرورة. (والحق أنه في ظل ظروف الحداثة فقط يمكن للمرء أن يدرك الأقاليم بوصفها «في طور الصيرورة».) بالنظر إلى الوراء قد نستطيع تتبع أثر هذه التطورات على مستويات عديدة للتحليل؛ على سبيل المثال: وقعت عمليات «الاكتشاف»، والغزو، والاستعمار العالمية على نحو مختلف للغاية في مواقع مختلفة على الأرض؛ فشعوب وأماكن أمريكا الشمالية في القرن السابع عشر، وجنوب شرق آسيا في القرن التاسع عشر، وأمازونيا في القرن الحادي والعشرين؛ قد كانت جميعا خاضعة للقوة المدمرة للاستعمارية المتمركزة حول أوروبا أو المستمدة منها، وتعرضت للأقلمة بطرق متماثلة بشدة. ولكن الاختلافات بين هذه المواقف، في الأيديولوجيات، والتقنيات، والسياقات العالمية، وتباينات القوة، وأشكال المقاومة؛ مذهلة أيضا؛ ف «الحداثة» ليست ظاهرة تناسب جميع المقاسات، ولا ظاهرة تحدث مرة واحدة فحسب؛ فالكيفية التي تتطور بها الإقليمية تحت الظروف المختلفة أكثر تعقيدا بكثير مما قد توحي به إشارة بسيطة إلى الحداثة.
حد السيادة: الحدود الكندية (كيبيك) الأمريكية (فيرمونت). تصوير: ستيفن سيلفرن.
حد السلطة القضائية: الحد الفاصل بين ماساتشوستس ونيويورك. تصوير: المؤلف.
حد الولاية المحلية: ساند ليك، نيويورك. تصوير: المؤلف.
شروط الدخول: الترسانة الفيدرالية الأمريكية، ووترفليت، نيويورك. تصوير: المؤلف. «لا عليك بالكلب»: مسكن خاص، سانتا باربرا، كاليفورنيا. تصوير: المؤلف.
الإقليمية في مكان العمل. تصوير: المؤلف. (5-2) الإقليم والتنقل
إن إعطاء تركيز أكبر للعلاقة التاريخية بين الإقليم والحداثة يسلط الضوء أيضا على ديناميكية التشكيلات الإقليمية؛ أي تاريخيتها واستعدادها لإعادة التكوين المستمر، وإن كان على نحو متقطع. ثمة فكرة أخرى وثيقة الصلة ترتبط بالعلاقة بين الإقليم والأشكال المتنوعة للتنقل؛ بمعنى أن المجمعات الإقليمية ذاتها ليست وحدها التي «تتحرك» إن جاز التعبير، بل إن أفضل طريقة لرؤية جزء كبير من الكيفية التي «تعمل» بها الأقاليم (أو تؤدي وظيفتها) هي رؤيتها بالنسبة إلى الحركة عبر الحدود الفاصلة التي تحدد المساحات الإقليمية. فحتى لو ظلت خريطة الأقاليم بلا تغيير على مدى السنوات المائة الفائتة، فإن التغيرات العميقة في الاتصال والنقل وممارسات الدولة خلال تلك الفترة أدت إلى تغيير المدلول العملي للحدود؛ ومن ثم الأقاليم في حد ذاتها. كذلك تغيرت ممارسات وعمليات الإقليمية والأقلمة تغيرا مثيرا، وفي هذا المقام قد يتأمل المرء ببساطة في تاريخ جوازات السفر والنقل الجوي (توربي 2000). إن الأقاليم ليست مجرد حاويات تصنيفية مكانية ثابتة؛ فحياة الإقليم إنما ترى في المرور عبر هذه المساحات ذات المعنى، والدخول إليها، والخروج منها. ولعل من الممكن رؤية هذا بأسهل طريقة ممكنة فيما يتعلق بالحدود الدولية، إما على أطراف الدول وإما في «الحدود» المتناثرة المرتبطة بالنقل الجوي الدولي؛ ففي هذه الأماكن تفرز فئات مختلفة من الأشخاص ممن في حالة حركة وتنقل وفقا للأنشطة الإقليمية، أو المكانة، أو النوايا؛ فالمهاجرون، و«العمال الأجانب المعارون»، والسياح، والخبراء المغتربون، وعمال الإغاثة الإنسانية، والدبلوماسيون، والجنود، والمهربون، ورجال الأعمال، والمبعدون، واللاجئون، والموسيقيون والرياضيون المتجولون، وخاصة الملايين من سكان مناطق الحدود؛ يتحركون ذهابا وإيابا عبر الحدود بالوثائق الإقليمية الحديثة (أو دونها) من جوازات سفر، وتأشيرات، وأوراق عمل، وشهادات ميلاد. وهذا السياق من الحركة التي لا تتوقف هو الذي تنشط فيه أشكال الإقليمية إلى أقصى حد؛ فخلال فحص الأوراق، ودفع الرشاوى أو الرسوم، ومصادرة المهربات، وحركة القوات، واستيقاف الأجانب؛ يصبح الإقليم مدمجا في نسيج الحياة.
وليس الأشخاص فقط هم من يتحركون؛ فجوهر فكرة «التجارة» الدولية (على عكس «التبادل» المحلي) تفترض سابقا اجتياز هذه الفواصل؛ فالأشياء التجارية، أو سلسلة إنتاج السلع المجزأة التي تتضمن كل شيء من الصواريخ إلى الألعاب المرفقة بوجبات الأطفال، ومن الأخشاب الاستوائية الصلبة إلى الزهور، ومن الهيروين إلى القطع الأثرية؛ في حركة مستمرة من التداول العابر للحدود. وقد كان للتداول المتزايد على نحو سريع للأشخاص، والأشياء، ورأس المال، والصور، والأفكار؛ أثره في ظهور مزاعم بشأن النفاذية المتزايدة للحدود المفهومة على أنها إزالة أقلمة الدولة القومية و«تآكل» السيادة (كوزيمانو 2000؛ هدسون 1999). وسوف أتناول هذه المزاعم على نحو أكثر استيفاء في الفصل الثاني. الفكرة هي أن بوسعنا النظر إلى الإقليم المعاصر بنظرة أكثر اكتمالا إذا استوعبناه أكثر من حيث علاقته بهذه التحركات والتدفقات، وليس كمجرد صناديق ثابتة لا تتحرك.
Неизвестная страница