Введение в языкознание для арабского читателя
علم اللغة مقدمة للقارئ العربي
Издатель
دار الفكر العربي
Номер издания
طبعة ٢
Год публикации
القاهرة ١٩٩٧
Жанры
مقدمات
تقديم
...
تقديم:
بقلم: الدكتور حلمي خليل
أستاذ العلوم اللغوية
كلية الآداب، جامعة الإسكندرية
اللغة من أعرق مظاهر الحضارة الإنسانية، بل هي أصل الحضارة وصانعة الرقي والتقدم، فهي التي تؤلف الحد الفاصل بين شعب وشعب وبين أمة وأمة، بل بين حضارة وحضارة؛ لأن الأفراد الذين يتكلمون لغة واحدة، لا يتفاهمون بيسر وسهولة فحسب، وإنما هم قادرون على أن يؤلفوا مجتمعا إنسانيا موحدا متجانسا؛ لأن اللغة هي قوام الحياة الروحية والفكرية والمادية، بها يعمق الإنسان صلته وأصالته في المجتمع الذي يولد فيه، حيث تخلق اللغة من أفراده أمه متماسكة الأصول موحدة الفروع.
وقد حاول علماء اللغة وغيرهم من العلماء والفلاسفة والمفكرين -على مر العصور- أن يسبروا غور هذه الظاهرة الفريدة العريقة في حياة البشر للكشف عن حقيقتها وكنهها. وكان أستاذنا المرحوم الدكتور محمود السعران واحدا من هؤلاء العلماء الذي أوقفوا حياتهم على دراسة اللغة ونشر المعرفة العلمية الموضوعية المنظمة حولها.
ولم يدر بخلدي وأنا أخطو خطواتي الأولى نحو الدراسات العليا "١٩٦٢" وأقرأ عليه -على طريقة السلف- كتابه "علم اللغة، مقدمة للقارئ العربي" أن الزمن سيدور دورته ويلقي على عاتقي مهمة تقديم الطبعة الثانية من هذا السفر الجليل بعد وفاة صاحبه بثلاثين عاما، وهو مطلب عزيز أشفقت على نفسي منه ولكني لم أستطع له ردًّا؛ اعترافا بفضله عليَّ وإحياء لذكرى رائد من رواد علم اللغة في مصر والعالم العربي.
وعلى الرغم من مضي هذه السنوات الطوال على ظهور الطبعة الأولى من الكتاب، طرأ خلالها تطور هائل في حقل الدراسات اللغوية، إلا أنني ما زلت
1 / 5
أوصى تلاميذي بقراءة هذا الكتاب ليس وفاء لأستاذي فحسب، وإنما بكل الحيدة والموضوعية؛ لأن ما زلت أرى أن هذا الكتاب لم يزل محتفظا بقيمته العلمية حتى اليوم؛ لأنه يبسط أفكارا وأصولا في ميدان علم اللغة لا يستغني أي دارس لهذا العلم في معرفتها قبل أن يخوض في مدارسه ونظرياته التي تشعبت وتطورت تطورا هائلا منذ وفاة الدكتور السعران حتى الآن.
ومنذ الوهلة الأولى التي تقع فيها العين على عنوان الكتاب: "علم اللغة، مقدمة للقارئ العربي "ط. أولى ١٩٦٢" نشعر مباشرة أننا أمام علم لم يكن -آنذاك- مألوفا -وأظنه ما زال- للقارئ العربي، وإن كانت المعرفة به ودارسته قد أحرزت قدرا غير قليل من التقدم في المعاهد والجامعات العربية ومن ثم يسعى الدكتور السعران -يرحمه الله- إلى تقديم أصول هذا العلم ومبادئه بصورة واضحة وبسيطة لا تخل بالموضوع وعلميته، ولذلك حرص منذ بداية الكتاب على وضع هذه الأصول في إطارها التاريخي جنبا إلى جنب مع طرق التحليل اللغوي التي استقر عليها الفكر اللغوي آنذاك. يقول في مقدمة الكتاب:
"وأنا لم ألتزم في جملة ما عرضت مذهبا بعينه في كل أصوله وفروعه من مذاهب الدرس اللغوي المتعددة، بل ركنت إلى التعريف بالأصول العامة التي ارتضيتها والتي قل أن يختلف فيها أصحاب هذا العلم، مع بيان مصادرها ومذاهب أصحابها في معظم الأحوال، مع الإشارة في الوقت نفسه إلى الآراء المخالفة الصادرة عن مذاهب أخرى، حتى يكون القارئ على بينة من المذاهب اللغوية المختلفة، وعلى دراية بالفلسفات التي قامت عليها، وعلى علم بأهم المؤلفات فيها، فلا يضل الطريق في زحمتها عندما يتاح له الاتصال بشيء منها"١
وبالرغم من هذه الحيدة، إلا أننا نلمح بجانب الالتزام بالإطار التاريخي، التزاما آخر يتمثل في "نظرية فيرث"٢ التي كان يستهدي بها في تقديم ترجيحاته
_________
١ علم اللغة مقدمة للقارئ العربي ط. أولى ١٩٦٢ ص٣.
٢ فيرث J R Firith أستاذ علم اللغة في جامعة لندن في الفترة من عام ١٩٤٤ حتى عام ١٩٥٦م، وهو صاحب نظرية سياق الحال Context of situation ومؤسس المدرسة الإنجليزية الاجتماعية في علم اللغة، وقد تتلمذ عليه الدكتور السعران، وكان من أنبغ وأحب تلاميذه إليه، وتحت إشراف "فيرث" حصل على درجة الدكتوراه من جامعة لندن عام ١٩٥١م ببحث عنوانه "دراسة نقدية للملاحظات الصوتية للنحاة العرب".
Acritical study of the Phonetic obsevation of the Arab Gvammmarians وهو من آثار الدكتور السعران التي لم تنشر بعد، وتوجد منها نسخة على الآلة الكاتبة بمكتبة كلية الآداب جامعة الإسكندرية.
1 / 6
ومقارناته بين المدارس اللغوية، وخاصة عندما يتصل الأمر بدراسة المعنى كما سنرى فيما بعد.
ولعل من أهم الأصول التي طرحها الدكتور السعران في كتابه، فكرة "العلمية" Scientificness، فالفضل يرجع إليه في شيوعها وتوضيحها؛ إذ علم اللغة عنده، موضوع محدد يدرس اللغة دراسة علمية موضوعية، أي يدرسها بغرض الدراسة ذاتها التي تسعى إلى الكشف عن حقيقتها، دون التطرق في هذه الدراسة إلى أهداف أخرى، تعليمية أو تربوية أو علمية، كما لا يدرس اللغة بهدف ترقيتها أو تصحيح جوانب منها أو تعديل أخرى، ومن ثم فإن علم اللغة مقصور عنده على وصف اللغة وتحليلها بطريقة علمية موضوعية.
وتأتي أهمية هذه الفكرة مع التسليم بها الآن، من جدتها -آنذاك- بالنسبة للفكر اللغوي العربي، فلم تكن الدارسة اللغوية عند العرب، حتى ظهور هذا الكتاب، على هذا النحو من الضبط والموضوعية والتحديد، وكانت فكرة العلمية في دراسة اللغة فكرة غائمة قد تقال ولكن لا تفهم على النحو الذي شرحه وفصله في الكتاب.
وتحليل اللغة عنده يبدأ من البنية، غير أن اللغة -كما نعلم- ليست مجرد بنية، وإنما هي بنية ذات صلة بظواهر أخرى لغوية وغير لغوية، ولذلك نراه يتوقف أمام علاقة اللغة بهذه الظواهر، مثل علاقة اللغة بالكلام ووظيفته، ويعتمد في تحديد هذه الوظيفة على مفهوم اللغة من حيث هي نظام من الرموز والإشارات الاصطلاحية، ومن يتوقف أمام مفهوم "دي سوسير" للرمز اللغوي وماهيته، لينتهي إلى أن اللغة تشترك مع طائفة أخرى من النظم السمعية والبصرية في الطبيعة الرمزية.
ولما كانت اللغة أيضا ذات صلة بالظواهر الاجتماعية، أو قل هي ظاهرة اجتماعية معقدة١، يرى الدكتور السعران أن دراستها تحتاج إلى الاستعانة بعلوم أخرى، مثل علم الاجتماع وعلم وظائف الأعضاء، بل بالتاريخ والجغرافيا
_________
١ حول مفهوم الدكتور السعران حول اجتماعية اللغة. انظر: كتابه القيم، اللغة والمجتمع، رأي ومنهج، الطبعة الثانية، دار المعارف الإسكندرية ١٩٦٣م.
1 / 7
وعلم النفس١. ولكن هذه العلوم لا تنفي صفة الموضوعية أو العلمية عن الدراسة اللغوية، وليست فرضا لميادين أخرى عليها، وإنما هي تنبع من كون اللغة معقدة. غير أنه يستبعد من الدراسة العلمية للغة ما يسميه بالفلسفة اللغوية التي تقوم على أسس منطقية وعقلية، ومع ذلك فهو لا يستبعد النظرة الفلسفية، ويقصد بها مجموعة المبادئ أو الأصول التي يقوم عليها علم اللغة، ويشترط في ذلك أن تكون هذه الفلسفة مستمدة من اللغة وطبيعتها وإلا فقد علم اللغة استقلاله وموضوعيته، أي لا بد أن تقوم هذه الفلسفة على أسس من فهم ماهية اللغة، فيم تستعمل؟، وكيف تستعمل؟، أي أن هذه الفلسفة ينبغي أن تستقي عناصرها من طبيعة الأدوار التي تقوم بها في الحياة الإنسانية. وتتصل بهذه الفلسفة أيضا عمليات التجريد والتعميم التي يضطر علم اللغة للقيام بها على مستويات التحليل المختلفة، حتى يسلم وصفه وتحليله، وتصح نتائجه، ومن ثم فإن من فلسفة هذا العلم التمييز بدقة بين الدراسة التاريخية للغة والدراسة الوصفية الآنية لها.
وبعد إرساء هذه الأصول حول مفهوم علم اللغة وموضوعه وفلسفته ينتقل إلى التحليل البنيوي للغة، ويعد الدكتور السعران من أوائل علماء اللغة العرب في العصر الحديث الذين استعملوا مصطلح البنية Structuralism وتحليل البنية عنده يبدأ من المستوى الصوتي Phonetics ولكنه يمهد لذلك بلمحة تاريخية عن تطور الدراسات الصوتية عند الهنود واليونان والرومان والعرب حتى يصل إلى التطور الذي أحرزته هذه الدراسات في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.
ويعرف علم الأصوات بأنه الدراسة العلمية للحدث الكلامي Speech event دون الإشارة إلى معناه، وتقتضي هذه الدراسة العلمية تفتيت الحدث الكلامي وتحليله إلى عناصره المكونة له، وهي عملية تطهر صعوبتها في دراسة أصوات لغة لا نعرفها، ولما كان الصوت اللغوي يصدر عن جهاز النطق الإنساني فهو ذو طبيعة خاصة تجعله يختلف عن أي أصوات أخرى، وبناء على ذلك فإن دراسة الأصوات اللغوية أو الحدث الكلامي تمر بمراحل أساسية هي:
_________
١ أصبحت بعض هذه العلوم الآن بما لها من صلة بعلم اللغة فروعا مستقلة من علم اللغة التطبيقي مثل علم اللغة الاجتماعي Sociolinguistics وعلم اللغة الجغرافي Geolinnguistics وعلم اللغة النفسي Psychoinguistics.
1 / 8
١- جهاز النطق وحركاته التي ينتج عنها الصوت اللغوي، وهو ما يختص به علم الأصوات الفسيولوجي Physiological Phonetics
٢- دراسة انتقال الصوت أو علم الأصوات الأكوستيكي acoustic phonrtics.
٣- دراسة استقبال أذن السامع للصوت اللغوي، ويختص به علم الأصوات السمعي Auditory Phonetics ومن الوسائل الأخرى التي يلجأ إليها علم الأصوات ما يعرف بالدراسة الصوتية التجريبية أو الآلية Experimental Phonetics والكتابة الصوتية Phonetic transeciption وهما من الوسائل الفعالة في التعبير عن الحقائق الصوتية بدقة علمية.
بهذه الفروع لعلم الأصوات يحدد الدكتور السعران الإطار العام لتحليل الحدث الكلامي، ولكنه يرى أن علماء الأصوات وجهوا عنايتهم لدارسة الفرع الأول وبذلوا جهودا طيبة في دراسة الفرع الثاني، أما الفرع الثالث فما زال ينتظر مزيدا من البحث والدراسة. وقد شهدت العقود التالية من هذا القرن ما تنبأ به في صورة تطور هائل في دراسة هذا الفرع استخدمت فيه أجهزة وآلات معقدة وأسفر عن نتائج هامة مثل عمليات تخليق الكلام Speech synthesis وتحويل الكلام المنطوق إلى مكتوب وغير ذلك. ثم ينتقل بعد ذلك إلى تصنيف أصوات اللغة العربية حسب طريقة النطق وموضوعه من جهاز النطق وتقسيمها إلى مجهورة ومهموسة، وهو تصنيف قد يلتقي في بعض جوانبه مع الدراسة الصوتية التقليدية إلا أنه يختلف في كثير من الحقائق التي لم يفطن إليها القدماء وبعض المحدثين.
وإذا كانت الدراسة على هذا النحو تعد دراسة للصوت اللغوي معزولا، أي بعيدا عن غيره من الأصوات داخل البينة، فإن الدراسة الفنولوجية تدخل عنده في صلب الدراسة البنيوية لأصوات لغة ما، حيث تتنوع الأصوات وتختلف عقب دخولها في علاقات بنيوية داخل هذه اللغة، ومن ثم يجد عالم اللغة نفسه أمام تنوعات عدة لوحدة صوتية معينة. ومع ذلك فإن هذه التنوعات لا تؤدي إلى اختلاف المعنى، بل يمكن ردها إلى أصوات محددة عن طريق تحليل السلسلة
1 / 9
الكلامية إلى وحدات متمايزة بما لها من صلة بالمعنى، وكان هذا ما اصطلح على تسميته في علم اللغة "بنظرية الفونيم" وما يتصل بها من مفاهيم وتحليل، حيث يقوم التحليل فيها على تحديد القيم الخلافية والتقابلية في أصوات لغة من اللغات، ودراسة النظام الفنولوجي للغة وخصائصه تدخل عنده في صميم العلاقات البنيوية، ومن ثم فإن الفنولوجيا أو علم الأصوات اللغوية الوظيفي -كما ترجم المصطلح- هو المنوط به تحليل ودراسة هذه العلاقات البنيوية على المستوى الصوتي، ويرى أن الفصل بين علم الأصوات Phonetics وعلم الفنولوجي pho-nolngy لا يؤدي بالضرورة إلى اعتبار كل واحد منهما علما مستقلا، ويذهب إلى أن دراسة الظواهر الصوتية والفسيولوجية الخاصة بالكلام الإنساني ينبغي أن تسير موازية للدراسة الفنولوجية، وأن الفصل بين العلمين هو لون من العبث؛ إذ إن كلا منهما يعتمد على الآخر، وهي نظرة انفرد بها الدكتور السعران، وهي عكس ما نادت به "مدرسة براج" من الفصل بين علم الأصوات من حيث هو علم طبيعي وعلم الفنولوجيا من حيث هو علم لغوي.
ومن التحليل الفنولوجي ينتقل إلى التحليل النحوي، ويرى أن ذلك يتم من خلال موضوعين منفصلين ومتصلين في آن واحد، وهما:
١- المورفولوجيا Morphology.
٢- النظم Syntax.
وهذا التناول عنده يتم بناء على أصول، ومفاهيم شكلية؛ لأن كل لغة تعرض المعاني بطرق خاصة، ونحن نتلقى هذه المعاني مرتبة بالترتيب الذي يقدمه لنا الكلام، أي في الصور والأشكال اللفظية التي يظهر بها الكلام، ومن أهم صفات التحليل النحوي لهذه الأشكال النطقية، أن يستبعد عالم اللغة الأصول الفلسفية القديمة في التحليل، كما يستبعد التقديرات الفعلية وما يتصل بها من تأويل وتفسير، ومن ثم فإن أهم ما يوصف به التحليل النحوي أن يكون شكليا أو صوريا؛ لأن هدفه هو الصور اللفظية وتصنيفها وتوزيعها على أسس معينة، ثم نضيف العلاقات الناشئة بين الوحدات اللغوية داخل الجملة، وهذا هو رأي مدرسة التحليل، إلى المكونات المباشرة LC Analysis أو مدرسة بلومفيلد التي كانت مهيمنة إلى حد ما على الفكر اللغوي آنذاك، غير أن الدكتور السعران يرى أن هذا
1 / 10
التحليل من ناحية أخرى هو تحليل وظيفي Functional يقوم أيضا على الدور الذي تقوم به الوحدات اللغوية داخل الجملة، سواء من حيث المبنى أو المعنى، وهو بهذا يحاول التوفيق بين آراء "مدرسة بلومفيلدا" الكلية واستبعادها للمعنى، وآراء المدرسة الإنجليزية الاجتماعية التي ينتمي إليها والتي تنطلق من المعنى. وصدد هذا يقول:
"ولا حاجة بنا إلى القول بأن هذا لا يتضمن استبعاد المعاني كمعالم أو مشيرات في المراحل الأولى من التحليل النحوي، كما أن ما قلناه من أن التحليل النحوي لا يلجأ إلى المعنى لا يتضمن أن عرض نظام نحوي ما ينبغي ألا يقرر أي معان أو فصائل دلالية ترتبط ارتباطا وثيقا أو ضعيفا بالفصائل الشكلية، ولو أنه من الواضح أن الأفضل أن مثل هذه المعاني ينبغي أن تقرر في عبارات موضوعية١.
ثم ينتهي من هذه المناقشة لدور المعنى في التحليل النحوي ليقرر أن تحليل اللغات قد كشف عن درجة كبيرة من التطابق بين الوحدات الدلالية والوحدات النحوية، مما أغرى عددا كبيرا من علماء اللغة بالربط بين التحليل النحوي والمعنى٢.
ولا شك أن أستاذه "فيرث" كان واحدا من هؤلاء اللغويين الذين ربطوا بين التحليل اللغوي والمعنى، ولكن سطوة المدرسة الشكلية الأمريكية -آنذاك- كانت تحول دون ظهور عمق التحليل اللغوي وموضوعيته من حيث ارتباطه بالمعنى سواء عند "فيرث"، أو غيره من علماء اللغة، غير أن ذلك قد تحقق بعد ذلك في صورة نظرية علمية، هي النظرية التوليدية التحويلية TG grammar وخاصة في تعاملها مع البنية العميقة للتراكيب النحوية حيث يتجلى المعنى الحقيقي لأي جملة، وقد ذاعت وانتشرت هذه النظرية بعد وفاة الدكتور السعران بسنوات قليلة.
أما المستوى الدلالي في الكتاب فيغلب عليه الطابع التاريخي، وهو يقرر أن دراسة المعنى أو علم الدلالة Semanties باعتباره فرعا من فروع علم اللغة هو غاية الدراسات الصوتية الفنولوجية والنحوية والمعجمية -أو كما يقول- هو قمة هذه
_________
١ علم اللغة، مقدمة للقارئ العربي ط. أولى ص٩٧، ٩٨.
٢ السابق نفس الصفحة.
1 / 11
الدراسات؛ لأن علم اللغة لا يتيسر أن يقوم دون تصور الوحدات اللغوية وما يرتبط بها من معنى.
وهنا يتضح انحيازه الكامل إلى المدرسة الاجتماعية الإنجليزية التي يتزعمها أستاذه "فيرث" فالسياق أو العناصر غير اللغوية عنده كما هي عند أستاذه ذات دخل كبير في تحديد المعنى؛ إذ هي جزء من الموقف الكلامي كما يتمثل في المتكلم والسامع وما بينهما من علاقات، وما يحيط الكلام من ملابسات وظروف. ويدلل على ذلك بنصوص يستقيها من القرآن الكريم والشعر الجاهلي وأمثال العرب والشعر الصوفي والأحاديث اليومية.
ثم يتوقف بعد ذلك أمام تحصيل المعنى وخاصة عند الأطفال الذين يسمعون كلاما متصلا مرتبطا بسياقات مختلفة، وبكثرة التكرار والتقليد وإرشاد من حولهم تأخذ بعض الأصوات في الدلالة على المعنى. وصدد هذا يرى أن التقليد والسماع هما وسيلتا الطفل في تحصيل المعنى الذي يرتبط بالكلمات المفردة عند الطفل دون التراكيب. ولكن النظرية اللغوية المعاصرة ترفض الآن فكرة التقليد لتفسير اكتساب الطفل للغة، ونادت بالقدرة الفطرية lnnate Property التي يولد الطفل مزودا بها والتي تعينه على التحصيل والتحكم في مستويات اللغة المختلفة.
وفي تحليله للمعنى يقف به عند حدود الفرق بين المضمون المنطقي الذي يعادل عنده المعنى المعجمي والمضمون النفسي الذي يختلف من فرد إلى فرد طبقا لثقافته وطبقته الاجتماعية. ويخلص إلى أننا لا نستعمل الكلمات بمعناها المنطقي منفصلا عن مضمونها النفسي، وهي نظرة يجاوزها الآن علم الدلالة التركيبي الذي استقر واتضحت مناهج التحليل الدلالي فيه مع استقرار علم الدلالة التركيبي الذي استقر واتضحت مناهج التحليل الدلالي فيه مع استقرار علم الدلالة التوليدي في الثمانينيات من هذا القرن، أي بعد وفاة الدكتور السعران بعقدين من الزمن.
وتحت عنوان مناهج دراسة المعنى يعرض لتاريخ الدرس الدلالي منذ نشأته على يد "ميشيل بريل" عام ١٨٩٧م حتى ظهور نظرية أستاذه فيرث في الأربعينيات من هذا القرن، ويقسم هذا التاريخ إلى قسمين، الأول خاص بكتابات غير اللغويين والثاني خاص بكتابات علماء اللغة. وتبدأ النظريات اللغوية في دراسة المعنى عنده -كما هي عند كثير من علماء اللغة- منذ "دي سوسير" الذي يشير إلى
1 / 12
قيام نظريته في اللغة على هدى من نظرية "دور كايم" الاجتماعية"، والتي تصبح اللغة فيها من جملة الظواهر الاجتماعية، ويفرق بين ثالوث "دي سوسير" الشهير: اللسان Langue واللغة Languge والكلام Parole لينتهي إلى أن لغة مجتمع ما، هي ظاهرة مستقلة عن الفرد، وأن الكلمات من حيث هي علامات ذات وجود مستقل، وأن معناها اجتماعي في جوهره، ولذلك فإن القيمة اللغوية للكلمة تكمن في شيئين، الفكرة والصورة السمعية التي تدعو الفكرة، ومن ثم فإن الكلمة داخل النظام اللغوي ما هي إلا علامة لغوية تفرق بين فكرتين، وأن قيمة كل علامة تتوقف على وجود سائر العلامات الأخرى، ثم ينتقل بعد ذلك إلى المدرسة السلوكية أو "مدرسة بلومفيلد" ويعرض نظريته وخاصة فيما يتصل بتحليل المعنى ودراسته.
أما المدرسة الاجتماعية الإنجليزية أو "مدرسة فيرث" فهي تمثل عنده آخر المدارس اللغوية التي اهتمت بقضية المعنى، فيقف عندها تفصيلا عارضا لآراء أستاذه "فيرث" ونظريته في سياق الحال Context of situation ويرى أن هذه المدرسة تنظر إلى المعنى على أنه وحدة مركبة من مجموعة من الوظائف اللغوية الصوتية والفنولوجية والمورفولوجية والنحوية، ولكي نصل إلى حقيقة المعنى لا بد من تحليل هذه الوحدة على المستويات اللغوية مع بيان العوامل الخارجية والسياق الاجتماعي. وقد طور هذه النظرية فيما بعد بعض علماء اللغة البريطانيين أمثال هاليداي وماكنتوش وإنكفت وغيرهم في إطار ما يسمى الآن بعلم اللغة الاجتماعي، حيث انصب اهتمامهم على مظاهر التنوع في استعمال اللغة والعوامل اللغوية وغير اللغوية المؤثرة في الكلام أو النص، وميزوا بين أبعاد ثلاثة في الحدث اللغوي هي: مادته وشكله وسياقه، ورأوا أن التنوع في استخدام اللغة هو نوع من السياقات التي تتلازم مع مجموعة من الملامح اللغوية التي تعكس بدورها ملامح لموقف معين، وكل ذلك يحتاج إلى تصنيف وتحليل وتحديد في إطار الاستعمال العام للغة في مجتمع معين، وكل ذلك تم بعد وفاة الدكتور السعران بسنوات غير قليلة.
بهذا التاريخ للنظريات اللغوية في الدراسة الدلالية الكتاب. وصدد هذا لا بد من الإشارة إلى قائمة المصادر والمراجع الأجنبية التي حرص على أن يضعها بين يدي القارئ وهي فاتحة انفرد بها هذا الكتاب لأول مرة في اللغة العربية، كما زود الكتاب بمعجم خاص بالمصطلحات اللغوية باللغة الإنجليزية ومقابلها باللغة العربية، ومعظم هذه المصطلحات كان جديدا على اللغة العربية. وهوامش الكتاب تزخر
1 / 13
بمناقشة واسعة لكثير من المصطلحات التي وضعت قبل ظهور الكتاب ورأيه فيها والمصطلح الذي ارتضاه وأسباب ذلك، وهي في ذاتها دراسة لعلم المصطلح اللغوي انفرد بها هذا الكتاب عما قبله وعما بعده أيضا.
والحق أنه بظهور هذ الكتاب عام ١٩٦٢ اكتملت لأول مرة في اللغة العربية الصورة العلمية لعلم اللغة، أو بمعنى أدق الجانب النظري فيما يسمى بالبنيوية الوصفية في دراسة اللغة من حيث الأصول العامة ومستويات التحليل. وقد استطاع هذا الكتاب أن يهز ويزعزع -على الأقل دخل الجامعة- الكثير من الأفكار التي قام عليها التفكير اللغوي التقليدي، فزلزل فكرة اكتمال علوم اللغة العربية بما طرحه من مبادئ وأصول فكانت التفرقة بين دراسة اللغة من حيث هي ظاهرة إنسانية عامة ودراسة اللغة من حيث هي لغة معينة أمرًا لم يلتفت إليه أحد من القدماء وكثير من المحدثين قبل ظهور هذا الكتاب، كما وضح أيضا فكرة التطور اللغوي من حيث الفرق بين الدراسة الآنية syncronic أو الوصفية والدراسة التعاقبية Dycroinc أو التاريخية، كما حدد وأشاع الفرق بين دراسة اللغة المنطوقة ودراسة اللغة المكتوبة، كما طرح الكتاب أيضا مبدأ الموضوعية والعلمية في الدراسة اللغوية، من حيث اعتماده على وصف اللغة وتحليلها دون تقويمها أو الحكم عليها، فليست هناك من الناحية اللغوية الخالصة لغة أفضل من لغة ولا لهجة أجمل من لهجة. ومن ثم أصبحت اللغة العربية كغيرها من اللغات، يمكن أن يطبق عليها ما يطبق على اللغات الأخرى من نظريات، وأن تحلل بمناهج وطرق لم يعرفها القدماء، وإن امتازت عن غيرها من اللغات، وطبقا لمعايير غير لغوية دينية أو حضارية.
على هذا النحو من الدقة والوضوح والشمول ظهر هذا الكتاب في أوائل العقد السابع من هذا القرن، والذي نضع بين يدي القارئ طبعته الثانية دون أضافة أو حذف، وعلى الرغم من مرور هذه السنوات الطوال، ما زال الكتاب مطلوبا يقرأ ويرجع إليه، وما زالت المكتبة اللغوية العربية تفتقر إلى مثله مع ما طرأ من تطور هائل في حقل هذا العلم منذ وفاة هذا العالم الجليل ولو امتد به العمر لكان أجدر من يقوم بذلك.
رحم الله أستاذنا الدكتور محمود السعران وتغمده بعفوه ومغفرته وأسكنه جنته.
حلمي خليل
الإسكندرية في ٢٠/ ١/ ١٩٩٢م
1 / 14
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الأولى:
النظر في اللغة وطرق درسها جد قديم، وللعرب في ذلك آثار كبيرة معروفة علينا أن نتدبرها ونقومها لإبراز دورهم في تاريخ الدراسات اللغوية، وللائتناس بما يصلح من الأصول اللغوية التي أسسوها أصولا لعلم اللغة الحديث.
ولكن الدراسات اللغوية في أوروبا وأمريكا نشطت ونشطت الثقافة الغربية بعامة، فأصبحت -منذ حوالي نصف قرن- "علمًا" مستقلًّا، متفردًا متخصص الوسائل. ولقد نقلنا عن الغرب كثيرا من العلوم التي سبقنا إليها، وجاوزنا في كثير منها طور الأخذ إلى طور التأليف الأصيل، ودراساتنا الأدبية والنقدية خير حظا من الدراسات اللغوية فقد تعرفنا على كثير مما أحدثه الغربيون فيها، وانتفعنا به، وصدرت عن باحثينا دراسات أصيلة على هدى النظر الأدبي الحديث.
ولكن تعريفنا بالنشاط اللغوي العلمي في أحدث صوره لا يزال تعريفا هينا غامض القسمات، ينتظر الجهود الجادة المتلاحقة من الأفراد والهيئات.
وهذا الكتاب في "علم اللغة" محاولة أقدمها في هذا السبيل، وهو كتاب يحدد أسلوب عرضه للموضوعات، ومنهج تناوله للمسائل، أنه "مقدمة للقارئ العربي".
وقد آثرت أن أبدأ تعريف هذا العلم -بعد أن قدمت له منذ سنوات بكتابي "اللغة والمجتمع: رأي ومنهج"- بكتاب مؤلف لا مترجم، فالكتاب الإنجليزي أو الفرنسي موجه إلى قارئ ذي ثقافة لغوية خاصة، وتكوين عقلي مخالف، فهو مثلا يغضي النظر عما نحن في حاجة إلى إيضاحه، ويفصل فيما نراه في مرحلتنا هذه تزيدا.
والقارئ الأوروبي يجد في لغته عشرات وعشرات من المؤلفات والمصنفات مها المطول ومنها المختصر، ومنها ما وضع لعامة المثقفين، وما وضع لخاصتهم، فهو من هذا العلم في حال خير مرات ومرات من حال القارئ العربي منه.
ثم إن القارئ العربي تعلق بذهنه تصورات ومذاهب لغوية لا تيسر له متابعة التصورات والمذاهب الحديثة في علم اللغة إن عرضت له موجزة مركزة، أو مشارا إليها إشارة عابرة، كما يحدث في المؤلف الأوروبي أو الأمريكي.
ولذلك مهدت لكتابي هذا بمقدمة طويلة شيئا ما تهيئه لذهن القارئ الشادي لتلقي أصول هذا العلم بأيسر سبيل، وأدنى مجهود.
1 / 15
ولقد حاولت تبسيط حقائق هذا العلم ما وسعني التبسيط، مع حرصي على الدقة والسلامة، حتى يستقل القارئ المبتدئ بتحصيل ما فيه ومدارسته، وينتقل منه آمنا إلى مطالعة أصول هذا العلم.
وكان أول ما راعيته تحقيقا لهذه الغاية إثبات المصطلح الإنجليزي بحرفه، وانتقاء اللفظ العربي المقابل له بحيث لا يوقع في الخطأ أو الاختلاط، فنأيت عن اختيار المصطلح اللغوي العربي القديم ترجمة لبعض المصطلح الإنجليزي -كما صنع جماعة- وآثرت، حيث لا أجد المقابل العربي الملائم، أن استعمل المصطلح الأوروبي، وذلك كي لا يختلط التصور العربي القديم بالتصور الأوروبي الحديث، ولكي ينفسح المجال ويسمل أمام الباحث العربي حين يؤرخ الدراسات اللغوية العربية ويقومها على أساس من الفهم الحديث، فيصطنع المصطلح العربي بمعناه إلى جوار المصطلح الجديد المنقول بمرماه جانبا إلى جنب دون إيقاع القارئ في البلبلة، ودون إيهامه بغير المراد.
ولما كنت أتوجه بكتابي هذا إلى القارئ العربي فقد فصلت الحديث في موضوعات لا يفصل فيها الغربيون، وأوجزت حيث لا يوجزون، وأكثرت من الأمثلة والشواهد في مواضع، وأقللت منها في أخر. وكنت لا أدع مناسبة، في الأغلب الأعم، دون تطبيق ما أقرر على الكلام العربي بيانا لصلاحية اتخاذ الأسس والتصورات الجديدة عند دراسته، ولمدى ما تقدمه من نفع لا تنهض بمثله التصورات اللغوية العربية القديمة وحدها.
وأنا لم ألتزم في جملة ما عرضت مذهبا بعينه، في كل أصوله وفروعه، من مذاهب الدرس اللغوي المتعددة، بل ركنت إلى التعرف بالأصول العامة التي ارتضيها، والتي قل أن يختلف فيها أصحاب هذا العلم، مع بيان مصادرها ومذاهب أصحابها في معظم الأحوال، ومع الإشارة، في الوقت نفسه، إلى الآراء المخالفة الصادرة عن مذاهب أخرى، حتى يكون القارئ على بينة من المذاهب اللغوية المختلفة، وعلى دراية بالفلسفة التي قامت عليها، وعلى علم بأهم المؤلفات فيها، فلا يضل الطريق في زحمتها عندما يتاح له الاتصال بشيء منها.
ويسرني، آخر هذه الكلمة، أن أسدي الشكر مخلصا إلى صديقي وزميلي الدكتور محمد أبو الفرج المدرس بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية، لقاء ما هيأ لي من المراجع والأبحاث اللغوية الحديثة التي عاد بها بعد انتهاء دراسته في لندن، فوصلني بدراسات هادية ميسرة موحية.
الدكتور: محمود السعران
1 / 16
تمهيد
دراسة اللغة علم
...
تمهيد:
١- دراسات اللغة "علم":
أ- منذ أواخر القرن التاسع عشر أخذ مفهوم "اللغة": طبيعتها، ووظيفتها، ودراستها في التغير. وقد أحدث ذلك التغير جهودا متلاحقة بذلها علماء الغرب لدراسة معظم لغات العالم وصفا وتاريخا ومقارنة، وللوصول من ذلك إلى نظرية أو نظريات عامة في "اللغة" تكشف عن حقيقتها نشأة وتطورا، وتبرز "القوانين" أو الأصول العامة التي تشترك فيها لغات البشر، وتعين على تحديد وتدقيق مناهج الدراسة اللغوية ووسائلها.
وكانت تلك الجهود في الميدان اللغوي تستهدي وتناظر وتساير النهضة العلمية والفكرية العامة التي شهدها الغرب في ذلك الزمان.
ب- لقد نتج عن تلك الجهود المترادفة القوية -والتي لا تزال متتابعة قوية- أن أصبحت دراسة اللغة "علما" من العلوم، له ما لأي علم مستقل موضوعه، ومناهجه، ووسائله.
١- وقد نُحِّي "علم اللغة" من مجاله، إلى حين، البحث في مسائل لغوية، أو في جوانب منها، ذلك لأنها مسائل لا سبيل إلى درسها الدرس العلمي الصحيح، إما لضآلة مادتها ضآلة ترد الكلام فيها ضربا من ضروب الفرض والحدس والتخمين أو ضربا من ضروب "الميتافيزيقا"، وإما لاستحالة درسها دراسة علمية لأسباب أخر. ومن هذه المسائل في رأي أغلب علماء اللغة المعاصرين، البحث في "نشأة اللغة".
٢- كما أن "علم اللغة" قد وسع في مجال الدراسة اللغوية، بأن أخضع للبحث مسائل جديدة، وبأن فصل البحث في مسائل لم يكن يفصل فيها القدماء، كما أنه قد استبقى كثيرا من مشكلات الدراسة اللغوية القديمة.
ولكن "علم اللغة" في بحثه جميع ما يبحث يصدر عن مبدأ عام، أو عن مبادئ عامة، ويقفو منهجا فردا، ويستهدي وسائل معينة، فدراساته مترابطة متكاملة يسودها روح العلم وأسلوبه.
1 / 19
٢- نعم إن بعض "القوانين" اللغوية يتصف بشيء من الصدق والعموم أكثر مما تتصف به "القوانين الصوتية" وذلك كأن يقال: "إن اللغة لا تنشأ إلا في مجتمع" و"إن اللغة لا تستعمل إلا في مجتمع" و"إن الكلام يختلف باختلاف الطبقات الاجتماعية في المجتمع الواحد في العصر الواحد" و"إن لكل لغة من اللغات نظمها الصوتية والنحوية" و"إن مصير كل لغة كبيرة أن تشعب إلى لهجات".
إن أكثر هذا وأمثاله أشبه بالتعريف بالخصائص والسمات، وبإبراز الأصول والمقومات منه "بالقوانين" كما يفهمها من يدرس الطبيعة والكيمياء مثلا. فإذا قيل إن المعادن تتمدد بالحرارة صدق هذا على كل معدن في كل زمان ومكان. وقانون "الجاذبية" لم يكن صادقا في زمن مكتشفه نيوتن، ولم يكن صادقا في بلده وحده بل إنه لصادق على ما سلف زمنه من أزمان، وعلى زمنه، وعلى ما يلحق زمانه ما استمر عالمنا على ما نعهده، فهذا هو المفهوم من "القانون" بمعناه الحق.
٣- إن توسع اللغويين وترخصهم في استعمال لفظ "قانون"، أو إن اختلاف "القوانين" اللغوية عن قوانين العلوم الطبيعية لا يحرم الدراسة اللغوية أن توصف بأنها دراسة "علمية". فدراسة اللغة لها موضعها الخاص المستقل الجدير بالبحث وهو "اللغة"، وهذه الدراسة تقوم على مناهج "علمية" سليمة وهي تتخذ من الوسائل ما ييسر لها الوفاء بعملها على أدق وجه، وما تصل إليه دراسة اللغة على هذا النحو من حقائق وأصول عامة أو "قوانين" إنما هو مستمد من طبيعة النبات وحقيقته مثلا، فلا عجب أن تكون "القوانين" التي تؤدي إليها دراسة النبات دراسة علمية مغايرة من وجوه "للقوانين" التي تؤدي إليها دراسة اللغة، وما ينبغي أن تحملنا هذه المغايرة على أن نذهب إلى أن الدراسة اللغوية ليست "علما".
إن ما بين دراسة اللغة وما بين العلوم الطبيعية وسواها من وجوه الاختلاف والافتراق لا يحول دون إضفاء صفة "العلم" على هذه الدراسة.
٤- ولقد يختلف المحدثون من أصحاب الدراسة اللغوية الجديدة في مسائل عدة، ولقد يختلفون في مسائل جوهرية كتعريف "اللغة" نفسها، أو تعريف
1 / 21
"الكلمة" أو "الجملة"، ولقد يفترقون في طريق أخذهم لدراسة اللغة في جوانب معينة، ولقد يتباينون في غير ذلك، ولكنهم يتفقون جميعا في أن دراساتهم الجديدة "علمية". إن ما بينهم من اختلاف وافتراق وتباين هو ما ينشأ بين أصحاب أي دراسة لا نتردد في إضفاء صفة العلم عليها.
٤- هذه الدراسة الجديدة للغة وهي التي يصدق عليها لفظ "العلم" لمَّا تبلغ غايتها، نعم قد يصدق هذا القول على أي علم من العلوم، فالمحاولات الدائبة المطردة المستبصرة في أي علم من العلوم تغير منه وتضيف إليه. فلقد يؤدي اختراع جديد، أو كشف طارئ، إلى فتح آفاق جديدة وإضافة حقائق لم تكن لتخطر في بال. ولكن المقصود من هذا القول إذ يطلق على الدراسة الحديثة للغة أن هذا العلم الجديد لما يتخذ شكله النهائي كما يريد له أصحابه، وكما تقضي طبيعة موضوعه، فلا يزال في أفقه كثير من المسائل الأساسية التي اقترح بعض علمائه بحثها، ورسم طرائق بحثها، ولكنها تنتظر زمنًا وجهدًا لتجليتها للوصول فيها إلى كلمة العلم.
كما أن المراد بهذا القول أن السنوات القليلة القادمة ستغير طائفة من مسائل هذا العلم ووجوهه.
إن "علم اللغة" علم قد تكون، ولكنه لا يزال يتطور التطور اللازم لنضجه. وإن الجهود القريبة القادمة سترسي قواعد الكثير من أسسه ووسائله ونتائجه. وهذا يحتم على الباحثين في هذا الميدان الاتصال أولا فأولا بما يجد فيه. وما بنا من شك في أن هذا الاتصال واجب في كل ميدان دراسي، ولكن وجوبه في حالة الدراسة اللغوية بخاصة، وبالنسبة إلينا نحن أصحاب العربية، أجدر وألزم.
٥- هذه الدراسة الجديدة للغة لم تذع في مواطنها، في أوروبا وأمريكا وروسيا، الذيوع الذي تستأهله على وفرة التآليف والتصانيف فيها، وعلى كثرة المجلات العلمية المفردة لها، وعلى تعدد الجمعيات والحلقات والمؤتمرات التي تناقش مسائلها.
لا بل إن اسم ذلك العلم نفسه ليبدو غريبا على الأسماع والأفهام وإنه ليثير كثيرا من التصورات عن موضوعه أغلبها مجانب للصواب، مقارب للوهم. فـ:La Linguistique "علم اللغة" أو La Linguistique Generale "علم اللغة العام"،
1 / 22
أو Le Science du Language "علم اللغة" في ذهن جمهرة المثقفين الفرنسيين، أو Linguistics أو General Linguistics أو Linguistic Science في مسمع المتكلم بالإنجليزية وفهمه وLinguistik أو Sprachwissenschatt في أذان الناطق بالألمانية وفكره، لا تزال غريبة جديدة.
دعك من مصطلحات أخر كأسماء فروع هذا العلم ووسائله وتصوراته من أمثال١ Phononlogie Phonology "phonolgie "الفونولوجيا" Semantique Bedeutungslehre أو Semantik Semantics علم الدلالة" وMorphologie Formenlehre Worbidungslehre Morphology المورفولوجيا أو علم الصيغ أو دلالة النسبة" La vtphoneme phoneme أو "Sprechlovt الفونيم" "Lautlehre أو Lautlehre أو Phonetik Phonetics علم الأصوات اللغوية".
٦- وإن النتائج التي أحرزتها هذه الدراسة الجديدة، لمَّا تدخل برامج تدريس اللغات في التعليم العام، إنها لما تصبح "كلاسيكية" فلا تزال اللغة الإنجليزية والفرنسية والألمانية مثلا تدرس في معظم المدارس كما كانت تدرس قبلا.
إن هذه الدراسة الجديدة للغة لا تزال وقفا على المتخصصين فيها، وعلى القلة من مريديهم. فالمحدثون من علماء اللغة يشكون من أن غالبية المشتغلين بالمسائل اللغوية، بله جمهور المثقفين، لا يزالون يجهلون أن ثمة نشاطا "علميا" جديدا يتخذ موضوعا له "اللغة".
فمفهوم الدراسة اللغوية عند كثير ممن لم يتصل بالعلم الجديد عن قرب، أنها:٢
١- ذلك النشاط التقعيدي normative الذي يستهدف معرفة صحيح الكلام وجيده كتابة ونطقا، ووضع "قواعد" تميز صحيح الكلام من خطئه وجيده من رديئه، "قواعد" متعلقة بهجاء اللغة و"نحوها" ومفرداتها "وبلاغتها" وما أشبه هذا، "قواعد" تعلم الناشئة صحة الكلام وجودته وتتخذ مقياسا للحكم على الصواب والخطأ، والجيد والرديء.
_________
١ نورد المصطلح بالفرنسية ثم نضع بين قوسين ما يقابله بالإنجليزية، ثم ما يقابله بالألمانية.
٢ انظر الفصل الأول من الكتاب: Jean Perrot La Linguistique.
1 / 23
٢- وأنها معرفة عدد كبير من اللغات، الحية والقديمة، فضلا عن التبحر في اللغة القومية، هذه المعرفة التي تسمى بالإنجليزية Polyglottism وبالفرنسية polyglottisme والتي ينظر الناس إلى صاحبها بعين الإكبار والتقدير.
ولكن علم اللغة ليس موضوعه هذا أو ذاك، وما هو بهذين معا.
١- فعلم اللغة لا يدرس اللغة للكشف عن الكيفية التي "يجب" أن يكون عليها الكلام، وعن الكيفية التي "يحسن" بها الكلام، ولتعليم هاتين الكيفيتين.
ولكن ما من شك في أن علماء اللغة قادرون على أن يسدوا إلى المشتغلين بتدريس اللغات توجيهات وإرشادات تيسر عليهم عملهم، وتصحح منه جوانب ووجوها. بل قد يكون هذا مما يفرضه الواجب الأدبي أو القومي على علماء اللغة. ولكنهم في صنيعهم هذا لا يكونون يؤدون وظيفتهم الأصلية وهي درس "اللغة"، أي "وصفها في ذاتها ومن أجل ذاتها"، إنهم في هذه الحالة يقومون بوظيفة عارضة، إنهم يشاطرون بثمار دراستهم العلمية للغة خدمة لغرض أو أغراض غير الغرض الحق أو الأغراض الحقة من دراستهم.
٢- ثم إن العالم اللغوي ليس من يتقن عددا من اللغات "وهو يسمى بالإنجليزية Polyglott وبالفرنسية polyglotte أي "متعدد اللسان" فقد يجيد الإنسان لغات كثيرة ولا معرفة له بشيء عن "اللغة". إن معرفة الفلاح بأصناف من النبات لا تسلكه في زمرة علماء النبات. ووجود كثير من المعادن في أرضنا لا تقتضي بالضرورة أن نكون متقدمين في علم الجيولوجيا والطبيعة.
إن إجادة عدد كبير من اللغات ليست غاية علم اللغة، ولا هي غاية من غاياته. نعم، ما من شك في أن المعرفة العلمية بطائفة كبيرة من اللغات ميزة من الميزات، وآلة صالحة، وهي واجبة في جوانب من الدرس اللغوي كالمقارنة بين عدد من اللغات، وكالدراسة التطورية للغة من اللغات. ولكن هذه المعرفة وسيلة من وسائل اللغوي، وليست غاية من غاياته.
ومن اللغويين البارزين، من قدماء ومحدثين، من تقتصر معرفتهم على لغتهم الأصلية، أو من معرفتهم بما عداها من اللغات معرفة سطيحة لا تتيح لهم أن يستخدموها استخداما علميا. وأقرب مثال على ذلك من القدماء "الهنود"،
1 / 24
واليونان والعرب" فالهنود قصروا أنفسهم على السنسكريتية واليونان على اليونانية، والعرب على العربية. ولقد كانت دراسة الهنود للغتهم السنسكريتية دراسة وصفية صادقة، ولقد كانت وحيا للمجددين من علماء الغرب، ولا تزال.
قد لا يتقن اللغوي غير لغته الأصلية "أي يكون من يسمى بالإنجليزية uni-lingual أي "أحادي اللسان"". ولكنه يستطيع، إن نهج النهج الصحيح الواجب، أن يقدم دراسة لغوية قيمة، فثمة مجال واسع للبحث في اللغة القومية. ولكن ما من شك في أن الباحث الذي يعرض إلى لغة غير لغته، مضطر إلى أن يجيد تلك اللغة، كما أن على من يعرض لدراسة حضارة قوم غير قومه أن يجيد لغتهم. ومما يؤسف له أن كثيرا من الأنثروبولوجيين لا يتقنون لغات من يدرسونهم من الشعوب، ودع عنك الدراية الواجبة بطبيعة اللغة وبطرائق الدرس اللغوي الحديث. ولكن الإحساس بضرورة إتقان اللغات في هذا المجال قد أخذ في الازدياد. قال آلف سمرفلت في مطلع مقاله "الاتجاهات الحديثة في علم اللغة" الذي نشره في مجلة "ديوجين"١:
"إن أهمية علم اللغة لفهم الثقافة٢ حق الفهم أمر أخذ يحس به من يعرضون لدراسة الحضارات؛ وذلك لأن أي نظام لغوي تعبير عن نظام إدراك جماعة من الجماعات لبيئتها ولنفسها، وإن لم يكن هذا التعبير كاملا. ومن ثم فلا يستطيع أن يفهم حضارة٣ ما حق الفهم من يجهل وسيلتها اللغوية في التعبير".
جـ- إن ضآلة ذيوع علم اللغة في مواطنه قد حدت ببعض العلماء إلى محاولة تبسيطه وتقريبه من أذهان جمهرة المثقفين، فظهرت المؤلفات من هذا القبيل أكثرها بالإنجليزية والفرنسية. ولا يزال أصحاب هذه الدراسة يدعون إلى مواصلة هذا الاتجاه وتنميته، وإلى توجيه الأنظار بخاصة إلى ما قد ينفع به هذا العلم مناهج تعليم اللغات. والمأمول أن تنتفع هذه المناهج في المستقبل القريب بما أدركه هذا العلم من نتائج بعد قرن من النشاط العلمي الجم الخصيب.
_________
١ Alf Sommerfelt Recent Trends in Gineral Linguistics Diogones Number English Edition pp ٦٤ ٠٧٠ A quarterly pybication of The lntenational Aouncil
٢ Culture
٣ Ciyilisation
1 / 25
علم اللغة في الشرق الأدبي
...
٢- علم اللغة في الشرق العربي:
هذه هي الحال في البلاد التي جاهدت في سبيل إنشاء هذه الدراسة وتنميتها، والتي أنفقت في ذلك جهدا أي جهد، فما الحال في بلادنا الناطقة بالعربية؟.
أ- إن هذه الدراسة في البلاد الناطقة بالعربية لا تزال غريبة على جمهور المتخصصين في المسائل اللغوية، والمنقطعين لها، والمنصرفين إليها. فهم قد يفهمون من دراسة اللغة، دراسة النحو، والصرف أو الاشتقاق ومعرفة الشوارد النادرة، وحوشي الكلام، وتمييز الفصيح من غير الفصيح ومعرفة معاني الكلمات، وتمييز الدخيل من الأصيل، أو الاشتغال بتأليف المعجمات أو غير ذلك مما لا تدعو حاجة إلى استقصائه.
١- وليس شيء من هذا ولا هذا كله، يكوِّن ما تعارف المحدثون في أوروبا وأمريكا وروسيا على تسميته "علم اللغة". من حيث هو علم يرشدنا إلى مناهج سليمة لدراسة أي ظاهرة لغوية، وهو يهدينا إلى مجموعة من المبادئ والأصول متكاملة مترابطة عن اللغة وحقيقتها ينبغي أن تكون في ذهن الباحث اللغوي على الدوام أيا كان موضوع بحثه، إن "علم اللغة" هو وجهة النظر الجديدة، أو "الفلسفة" الجديدة، التي حلت محل وجهات النظر القديمة، و"الفلسفات" اللغوية السابقة. و"علم اللغة" قد تجنب أخطاء جوهرية في "الفلسفات" اللغوية القديمة، وقد قدم مبادئ لم يعد شك في أنها أكمل وأشمل وأصدق وأضبط، واعتمد على وسائل وآلات أدق مرات ومرات من وسائل الأقدمين وآلاتهم.
إن "علم اللغة" الحديث، بالنسبة إلى الفهم اللغوي القديم، كعلم الطبيعة أو الكيمياء أو الفلك أو الرياضيات بالقياس إلى نظائرها عند اليونان مثلا. ولكن العجيب في الأمر أننا في درسنا وتدريسنا الطبيعة والكيمياء والفلك والرياضيات لا نجد غضاضة أو غرابة في أن ندرسها وندرِّسها كما هي عليه في أحدث صورها. أما ما كان عند القدماء من ذلك فنحن نعرض له في تواريخ تلك العلوم، أو بغية
1 / 26
الوصول إلى أفكار أو آراء أو فروض أو محاولات موحية خلاقة. فالعلم الجديد، وهو تطور "للعلم" القديم لا يقضي على القديم، إنه يؤرخ له، ولا يزال يستوحيه ويستهديه.
وهذا هو الشأن في "علم اللغة" الحديث، إنه، وهو المنهاج الجديد في فهم اللغة ودراستها، يوصي بدراسة جهود الأقدمين، والتنقيب فيها لتأريخها التأريخ الصحيح، ولاستحيائها واستهدائها.
٢- أما جمهور المشتغلين بالدراسات اللغوية عندنا فأغلبهم يرفض النظر في هذا العلم الجديد، أو لا يحاول تفهمه، أو يعجب أن ما في يده من علم قد يحل محله علم حادث وافد من "البلاد الغربية" وخيرهم ظنا بهذه الدراسة الجديدة وبالقلة القائمة بها من أبناء العربية يعد علم اللغة أو بعض فروعه، كعلم الأصوات اللغوية "ترفا" علميا لم يؤن الأوان بعد للانغماس فيه أو التطلع إليه!
وهكذا فجمهرة المضطلعين بالدراسات اللغوية عندنا لا تزال تدور حول محور قديم، قد تحسن فيه أو تبسط منه، ولكنه ليس محور العصر، وهي بذلك تنكر أو تهمل ثمرات وجهودا وفيرة دانية، إنها في دارستها اللغوية أشبه بالجغرافي الذي ينشئ بحوثه على أساس أن الأرض مسطحة، أو بمشتغل بالمسائل الطبيعية لم تسمع أذناه بقانون الجاذبية، أو الفلكي الذي لا تعدو معرفته معرفة عرب الجاهلية الأولى.
٣- إن فهمنا، نحن المتكلمين بالعربية، وجمهرة دارسيها منا، لطبيعة اللغة ووظيفتها وطرائق دراستها، فهم جد متخلف، ومعظم إنتاجنا في الميادين اللغوية قاصر ومقصر، وإنا لنعالج أحيانا مشكلات لغوية خطيرة على جهل بما يراه العلم اللغوي الحديث من البسائط والأوليات. ومن ذلك أن علماءنا يتحدثون عن "تيسير النحو" وعن "تيسير العربية وترقيتها" وعن "إصلاح الكتابة العربية"، وعن "العامية والفصحى"، وعن "التعريب" و"النحت" و"الاشتقاق" ويقضون في كل هذا، ولو كانت لأغلبهم معرفة بنتائج علم اللغة وبشيء من الدراسات اللغوية الحديثة، لكان لهم في هذه الموضوعات العلمية التطبيقية أقضية أخرى أسلم أصلا، وأوضح سبيلا.
1 / 27