انْتِقَاض الاعتِرَاض
في
الرَّدِّ على العَيْنيِّ في شَرحِ البُخَارِيِّ
تأليف
شيخ الإسلام الإمام العلّامة
الحافظ قاضي القضاة
أبي الفضل أحمَد بَن عَلي بَن حَجَر العَسّقَلَاني
٧٧٣ هـ - ٨٥٢ هـ
حققه وعلق عليه
حمدي بن عبد المجيد السَّلفي
وصبحي بن جاسم السامرائي
الجزء الأوّل
مكتبة الرشد
الرياض
1 / 1
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة التحقيق
إنَّ الحمدَ لله نحمده ونستعينه ونسغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إِلَّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمَّدًا عبده ورسوله؛
أمّا بعد: فإن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمَّد ﷺ وشرَّ الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة وبعد:
فقد ألف الحافظ ابن حجر كتابه فتح الباري في شرح صحيح البخاريّ الذي لم يؤلف مثله إذ لم يترك شيئًا يتعلّق بالجامع الصّحيح إِلَّا وأتى به سواء من حيث المتون والأسانيد والشواهد وفقه الحديث، وكان كل أقرانه ممّن ألف عالة عليه ومن بحره اغترفوا ومنهم، العلَّامة محمود العيني ﵀، فإنّه في كتابه عمدة القاري عالة في كثير من شرحه عليه. ألف العيني كتابه عمدة القاري في شرح صحيح البخاريّ وجعله كأنّه رد على الحافظ ابن حجر في فتح الباري، وكان يتعقب كلما رأى مجالًا، فنجده كثيرًا ما يبتر عبارة الحافظ أو ينقلها محرفة أو مشوهة ليكون هناك مجال للاعتراض عليه، وقلما يفوته عنوان من عناوينه أو شرح لحديثه إِلَّا وتجد له اعتراضًا أو أكثر، وياحبذا لو كانت اعتراضاته ذات فائدة أو فيها زيادة علم. فانبرى له الحافظ في كتابه انتقاض الاعتراض، وأجاب فيه على تلك الاعتراضات الّتي ساقها العيني في شرحه عمدة القاري، وأجاب عنها إجابة جيدة، ولكنه اقتصر ﵀ على الاعتراضات المهمة منها، إذ لو أجاب عنها كلها لبلغ حجم الكتاب
1 / 3
أكبر من عمدة القاري، وقد لاحظنا أنّ الحافظ تصرف أحيانًا في عبارة الفتح، وأوضح أحيانًا ما أورده. في الفتح بالزيادة والبيان، وقد يذكر الحافظ عبارة الفتح وعبارة العمدة. ولا يعلق على ذلك بل يكل ذلك إلى القارىء الفهم ليكون هو الحكم العدل.
منهجنا في التحقيق
١ - وجدنا بعض الأخطاء الاملائية وغير الاملائية كثيرًا ما وقعت في المخطوط فأصلحناها، ورجعنا في ذلك إلى الفتح والعمدة وأكملنا النواقص إن وجدت، وقد أخذت منا جهدًا كبيرًا، ولم نشر بالهامش إلى تلك الأخطاء والتي لا فائدة من ذكرها.
٢ - أشرنا إلى مكان ما ينقله الحافظ من فتح الباري إلى مكان وجوده في الصفحة والجزء، وكذلك بالنسبة لعمدة القارئ، ولم نجعل من أنفسنا حكمًا عليهما إذ لم نرجح قول أحدهما على الآخر بل أحلنا ذلك إلى القارىء.
٣ - ربما نقلنا عبارة من كتاب مبتكرات اللاليء والدرر للبوصيري المتوفى سنة ١٣٥٤ وسيأتي وصفه.
كتاب مبتكرات اللاليء والدرر في المحاكمة به العيني وابن حجر تأليف الشّيخ عبد الرّحمن البوصيري. وهذا الكتاب طبع بالمطبعة الحكومية لولاية طرابلس الغرب سنة ١٩٥٩م وهو كتاب نافع وكثير الفوائد ردَّ فيه على العيني، رتبه على شكل محاكمات بلغت ثلاثة وأربعين وثلثمائة محكمة.
وهذه ترجمة يسيرة للحافظ ابن حجر.
إمام الحفاظ وحافظ الأئمة شيخ الإسلام أحمد بن علي المعروف بابن حجر العسقلاني، وابن حجر لقب لأحد أجداده. ولقب بأمير المؤمنين في الحديث، والحافظ. لم يقاربه أحد من أقرانه بسعة علمه، اجتمع له من
1 / 4
الشيوخ الأكابر ما لم يجتمع لغيره كالزين العراقي، والعز بن جماعة، والبلقيني، ونور الدِّين الهيثمي، والمجد الفيروزبادي، وسراج الدِّين بن الملقن، والبوصيري والتنوخي .. وتخرج به أئمة كبار كالسخاوي والبقاعي.
تصدى ﵀ لنشر حديث رسول الله ﷺ إقراءًا وقراءة وتصنيفًا وإفتاءًا وإملاءًا على تلاميذه، وألف في مختلف فنون العلم وبرع وانفرد بالحديث وعلومه وزادت تآليفه على ١٥٠ تأليفًا ومعظمها في الحديث وعلومه وفنونه وفيها من فنون الأدب والفقه وغير ذلك. وِاستفاد من تصانيفه أقرانه وشيوخه ففي الرجال تهذيب التهذيب الذي زاد فيه على الحافظ المزي في تهذيب الكمال ﵀ فوائد كثيرة، وتقريب التهذيب الذي ابتكر فيه وقسم الرواة إلى طبقات ومراتب ولم يسبقه إلى مثله أحد. وفي التخريج كهداية الرواة في تخريج أحاديث المصباح والمشكاة، وتخريج مختصر ابن الحاجب. وأذكار النووي وغيرها وفي المصطلح كالنكت على مقدمة ابن الصلاح ونخبة الفكر ونزهة النظر، وفي كثير من علوم الحديث له فيه تأليف.
ظهر في وقتنا الحاضر جماعة جهال نسبوا أنفسهم إلى العلم وهذه الجماعة لا تعرف قدر نفسها أخذت تتهجم على الحافظ ابن ججر الذي نذر نفسه لإعلاء سنة رسول الله والحفاظ عليها وتدريسها ونشرها وتنقصه وهم. أبعد النَّاس عن العلم بل هم من أدعيائه هذا الإمام الذي ملأت تصانيفه المكتبات يرمونه بالجهل وعدم المعرفة، فبئس الجهال هؤلاء، ولا ينبغي لطلاب العلم ومحبي سنة رسول الله ﷺ الالتفات إلى ذلك والاهتمام بما يكتبه هؤلاء، بل ينبغي الحذر منهم ولَعلَّ هؤلاء ينفذون مخططًا لهدم السُّنَّة وعلومها.
رحل الحافظ ابن حجر إلى كثير من البلدان الإسلامية للسماع والقراءة وقرأ واطلع على كثير ممن لم يطلع عليه غيره من أقرانه وكتابه المعجم المفهرس (مخطوط) يدلُّ على سعة اطلاعه وكثرة الكتب التي قرأها سيما فِي الحديث
1 / 5
وعلومه. رحم الله الحافظ ابن حجر وجعلنا من محبيه. توفي ﵀ في القاهرة في ذي الحجة سنة ٨٥٢ هـ ودفن بالقرافة. وأفرد تلميذه السخاوي كتابًا في ترجمته سماه الجواهر والدرر في ترجمه شيخ الإسلام ابن حجر.
العلّامة محمود العيني
أبو محمد محمود بدر الدِّين العيني نسبته إلى عينتاب. تتلمذ على الحافظ العراقي والحافظ سراج الدِّين البلقيني والحاقظ نور الدِّين الهيثمي وغيرهم وصنف الكثير. ومن مؤلفاته. عمدة القارئ في شرح صحيح البخاريّ (طبع) ونخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار (خط)، وعقد الجمان في تاريخ أبناء الزّمان (خط)، وشرح سنن أبي داود (خط)، والعناية في شرح الهداية في الفقه الحنبلي وغيرها. توفي ﵀ سنة ٨٥٢ هـ -.
النسخ المعتمدة في التحقيق:
اعتمدنا على ثلاث نسخ:
الأولى:- مخطوطة مكتبة الآثار العامة في بغداد كتبها عبد الرّحمن بن عبد العظيم سنة ١٠٨٨هـ وجعلناها أصلًا، وعدد أوراقها ٢٥٠ ورقة وهي نسخة جيدة ورقمها في دار صدام للمخطوطات ٢٩٦٢٠
الثّانية: نسخة المكتبة الظاهرية بدمشق رقم
الثّالثة: نسخة جستربتي.
صبحي بن جاسم السامرائي
حمدي عبد المجيد السلفي
بغداد في ١٠ رجب ١٤٠٧هـ
1 / 6
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وبه ثقتي
اللَّهُمَّ إنِّي أحمدك في ما ألهمت من المحامد، وأشكرك على فضلك البادي والعائد، وأستنصرك على كلّ معاند ومكائد، وأعوذ بك من شر كلّ باغ وحاسد، وأصلّي وأسلم على نبيك محمَّد وعلى آله وصحبه الصادعين بالحق في جميع المشاهد.
أمّا بعد فإني شرعت في شرح صحيح البخاريّ في سنة ثلاث عشرة وثمان مئة بعد أن كنت خرجت ما فيه من الأحاديث المعلقة في كتاب سميته: "تغليق التعليق" وكمل في سنة أربع وثمان مائة في سفر ضخم، ووقف عليه أكابر شيوخي، وشهدوا بأني لم أسبق إليه.
ثمّ عملت مقدمة الشرح فكملت في سنة ثلاث عشرة المذكورة، ومن هناك ابتدأت في الشرح، فكتبت منه قطعة أطلت فيها التبيين، ثمّ خشيتُ أنّ يعوق عن تكملتة على تلك الصِّفَة عائق، فابتدأت في شرح متوسط، سميته "فتح الباري بشرح البخاريّ" فلما كان بعد خمس سنين أو نحوها وقد بيض منه مقدار الربع على طريقة مثلي وقد اجتمع عندي من طلبة العلم المهرة جماعة وافقوني على تحرير هذا الشرح بأن أكتب الكراس ثمّ يحصله كل منهم نسخًا، ثمّ يقرؤه أحدهم ويعارض معه رفقته مع البحث في ذلك والتحرير، فصار السَّفر لا يكمل منه إِلَّا وقد قوبل وحرر من ذلك النظر في ذلك الزمن اليسير لهذه المصلحة، إلى أن يسر الله تعالى إكماله في شهر رجب سنة اثنتين وأربعين.
وفي أثناء العمل كثرت الرغبات في تحصيله ممّن اطلع على طريقتي فيه
1 / 7
حتّى خطبه جماعة من ملوك الأطراف بسؤال علمائهم لهم في ذلك فاستنسخت لصاحب الغرب الأدنى نسخة ممّا كمل منه، وذلك بعناية الإمام المتقن زين الدِّين عبد الرّحمن البرشْكي بكسر الموحّدة والراء المهملة وسكون المعجمة، وكان ملك الغرب يومئذ عبد العزيز الحوصي المعروف بابن فارس، وكان الذي كمل من الكتاب المذكور حينئذ قدر ثلثيه، واستنسخت لصاحب المشرق نسخة بعد ذلك بعناية العلّامة الحافظ شيخ القراء شمس الدِّين الجزري، والملك يومئذ شاه رخ، وجهزت له من قبل الملك الأشرف، ولم يكن الكتاب كمل ثمّ في سلطته الملك الظّاهر جهز له نسخة كاملة، وكان سبب رغبتهم فيه اشتهار المقدِّمة فصار من يعرف فصولها يتشوق إلى الأصل.
وفي سنة اثنتين وعشرين أحضر إليَّ طالب علم كراسة بخط محتسب القاهرة الذي تولى بعد ذلك قضاء الحنفية في الدولة الأشرفية، فرأيت فيه ما نصه:
الحمد لله الذي أوضح وجوه معالم الدِّين، وأفضح وجوه الشك بكشف النقاب عن وجه اليقين، بالعلماء المستنبطين الراسخين، والفضلاء المحققين الشامخين، فاستمر في هذا المهيع يذكر من تصدى لجمع السنن النبوية، إلى أن ذكر البخاريّ وذكر فضل كتابه الصّحيح، وأنّه فإن غيره، ولذلك أقبل عليه كبار العلماء وعملوا عليه شروحًا إلى أن قال:
لكن لم يقع لي شرح يشفي العليل، ويروي الغليل، لأنّ منهم من طول فأمل، ومنهم من قصر فأخل، على أنّه لم يقصد واحد منهم على كثرتهم لشرحه لما هو المقصود، ثمّ ذكر أنّ الذي دعاه إلى شرح هذا الكتاب أمور:
أحدها: أن يعلم أنّ في الخبايا زوايا (١).
_________
(١) في عمدة القاري الزوايا خبايا، وهو الصواب.
1 / 8
وثانيها: قطع حجة من يدعي الانفراد في هذا الباب.
وثالثها: إظهار ما منحه الله من العلوم، ثمّ أخذ في ذم أهل زمانه جميعًا، أمّا علماؤهم فلما عندهم من الحسد، وأمّا رؤساؤهم فلما عندهم من الشح والتهاون بالعلماء.
ثمّ وصف ما عزم عليه من شرح هذا الكتاب بأن يظهر صعابه، ويبين معضلاته، ويوضح مشكلاته، بحيث أنّ الناظر فيه إن أراد المنقول ظفر بآماله، وإن أراد المعقول فاز بكماله .. إلى أن قال:
فجاء هذا الكتاب بحمد الله فوق ما في الخواطر، فائقًا على سائر الشروح بكثرة الفوائد والنوادر.
ثمّ ذكر سنده إلى البخاري.
ثمّ ذكر مقدمة لطيفة انتزعها من القطعة الّتي كتبها شيخ الإسلام النووي، ولو كان نسخها من نسخة صحيحة ونسبها إليه لاستفاد السلامة ممّا وقع في خطه من التصحيف لكثير من الأسماء والسمات، والتحريف لبعض الكلمات (٢)، وقد تتبعت ما وقع به من ذلك في تلك الكراسة الّتي ابتدأ بها خاصّة، فزاد على ثمانين غلطة، فأفردت كذلك في جزء سميتهُ "الاستنثار على الطاغي المعثار".
فكتبت عليها علماءُ ذلك العصر كقاضى القضاة جلال الدِّين البلقيني، ورفيقاه قاضى القضاة علاء الدِّين المغلي، وقاضى القضاة شمس الدِّين بن الديري.
ومن المشايخ شرف الدِّين بن التباني، وشمس الدِّين بن الديري، وشمس الدِّين البرماوي، كتبوا كلهم بتصويب ما تعقبته عليه، ومن جملة ما أنكره عليه البلقيني:
_________
(٢) عمدة القاري (١/ ٢ - ١١).
1 / 9
قوله ما ذكره في وصف كتابه، قال: وقوله: أفصح لَحْنٌ، فإن الرباعي إنّما استعمل في اللازم مثل أفصح البشر.
ومن جملة ما أنكره عليه ابن المغلي قوله: إنَّ علم الحديث استوى فيه النَّاس ممّن لا يفرق بين الأنواع والأجناس، فإنّه ما قارب فيه صوابًا ولا سعد خطابًا.
وقوله: ممّن لا يفرق إن أراد أنّ العالم والعامي استوى فيه فهو قول إفك موقع في الهلاك، وإن أراد أنّ أصحاب الحديث لا يفرقون بينهما بحسب الإصطلاح الحادث، فتلك "شكاة ظاهر عنك عارها" لأنّ لهم أسوة بخيار السلف.
وأنكر عليه أيضًا أنّ ظاهر الخبر أنّه لشرحه وأوصافه لما اشتمل عليه، يقتضي أنّ أكمله أو أكثره ولم يكن كتبت منه سوى شيءٍ يسير.
ثمّ لما مضى من هذه القصة عدة سنوات عاد المذكور لما كان شرع فيه من الشرح بزعمه بعد أن كثرت النسخ بما كمل من شرح كاتبه فاستعار من بعض الطلبة ما حصله منه أوَّلًا فأولًا، وقرأت بخطه أنّه شرع في شرحه في شهر رجب سنة عشرين وثمان مائة، فكتب منه مجلدين في سنة، ثمّ ترك إلى أن أكمل المجلد الثالث في جمادي الأولى سنة ثمان وثلاثين، فلم يعد إلى الكتابة فيه حتّى شارف فتح الباري الفراغ فصار يستعير من بعض من كتب. لنفسه من الطلبة فينقله إلى شرحه من غير أن ينسبه إلى مخترعه.
وقد رأيت أن أسوق في ذلك أمثلة كثيرة يتعجب منها كل من وقف عليها، ثمّ أعود إلى إيراد ما أردت منه الجواب من اعتراضاته على فتح الباري.
وقد رمزت إلى الفتح بحرف (ح) مأخوذة من الفتح، ومن أحمد وإلى شرحه بحرف (ع) مأخوذه من العيني ومن المعترض.
1 / 10
وسميت هذا التعليق: "انتقاض الاعتراض" وبالله الكريم عوني، وأسأله عن الخطأ والخلل صوني، فمن أراد ما أغار على فتح الباري أول شَيْءٍ فيه وهي التّرجمة من:
1 / 11
١ - باب كيف كان بدءُ الوحي إلى رسول الله ﷺ -
قال (ح): قوله: "فَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِيءٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى دُنْيا ... الخ" كذا الأصوِل الصحيحة ليس فيه: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله" فساق الكلام على ذلك، إلى أن قال: وإن كان الإِسقاط منه فالجواب عنه ما قال الحافظ أبو محمّد علي بن أحمد بن سعيد في أجوبة على البخاريّ ما ملخصه.
أحسن ما يجاب به هنا أنّ البخاريّ قصد أن يجعل لكتابه صدرًا يستفتح به على ما ذهب إليه كثير من النَّاس من استفتاح كتبهم بخطبة تتضمن معاني ما ذهبوا إليه من التأليف، فكان ابتداؤه بنية رد علمها إلى الله تعالى، فإن علم منه أنّه أراد الدنيا أو عوض إلى شيءٍ من معانيها فسيجزيه بنيته ونكب عن أحد وجهي التقسيم مجانبة للتزكية الّتي لا يناسب ذكرها في هذا المقام (٣).
قال (ع): فإن قيل لم اختار من هذا الحديث مختصره ولم يذكر مطوله هنا
قلت: لما كان قصده التنبيه على أنّه قصد به وجه الله وأنّه سيجزيه بحسب نيته ابتدأ بالمختصر الذي فيه إشارة إِلَّا أنّ الشخص يجزى بقدر نيته، فإن كانت نيته وجه الله تعالى [بالثواب] والخير في الدارين، وإن كانت نيته وجهًا من وجوه الدنيا فليس له حظ من الثّواب، ولا من خير الدارين، وحذف الجملة الأخرى فرارًا من التزكية (٤).
_________
(٣) فتح الباري (١/ ١٥).
(٤) عمدة القاري (١/ ٢٢).
1 / 12
قال (ح): في الكلام على حديث عائشة أن الحارث بن هشام سأل هكذا في أكثر الروايات فيحتمل أن تكون عائشة حضرت ذلك، وعلى ذلك اعتمد أصحاب الأطراف فأخرجوه في مسند عائشة ويحتمل أن يكون الحارث أخبرها بذلك بعد ويؤيد هذا الثّاني ما أخرجه أحمد والبغوي من رواية عامر بن سالم الزميري عن هشام، فقال: عن أبيه عن عائشة عن الحارث قال: سألت (٥).
قال (ع): قال بعض الشارحين: هذا الحديث أدخله الحفاظ في مسند عائشة دون الحارث.
قلت: أدخله الإمام أحمد في مسند الحارث بن هشام، فإنّه رواه عن عامر بن صالح عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن الحارث بن هشام قال: سألت.
قلت: فأخذ الكلام فبالغ حتّى نسبه إلى نفسه حتّى قال: قلت، ونظيره (٦).
قال (ح): في الكلام على حديث عائشة في بدء الوحي يخلو بغار حراء فيتحنث هي بمعنى يتحنف أي يتبع الحنيفية وهي دين إبراهيم، والفاء تبدل ثاء في كثير من كلامهم.
وقد وقع في رواية ابن هشام في السيرة يتحنف بالفاء، أو المراد بقوله يتحنث يلقي عنه الحنث (٧).
_________
(٥) فتح الباري (١/ ١٩) والحديث رواه أحمد (٦/ ٢٥٧) والطبراني في الكبير (٣٣٤٣ و٣٣٤٤).
(٦) عمدة القاري (١/ ٣٩).
(٧) فتح الباري (١/ ٣٢).
1 / 13
وهو الإثم كما قالوا: تأثم وتحرج، أي فعل فعلًا ألقى عنه الفعل والتحرج ونحو ذلك، فقال في كلام طويل نقله من كلام ابن بطّال والكرماني وغيرهما من شراح البخاريّ.
وقال التيمي [التميمي]: هذا من المشكلات ولا يهتدي إليه إِلَّا الحذاق.
وسئل ابن الأعرابي عن قوله: يتحنث؟ فقال: لا أعرفه إنّما هو يتحنف من الحنيفية دين إبراهيم.
قال (ع): وقع في سيرة ابن هشام يتحنف بالفاء (٨).
قوله: وفي حديث ابن عبّاس وكان أجود ما يكون.
قال (ح): هو برفع أجود إِلَّا أن قال: ووجه ابن الحاجب الرفع من خمسة أوجه.
قلت: ويرجحه وروده بغير لفظة كان عند المؤلِّف في الصوم (٩).
قال (ع): بعد أن نقل [من] كلام النووي أنّه سأل ابن مالك ... الخ.
قلت: من جملة مؤكدات الرفع وروده بدون كان في صحيح البخاريّ في كتاب الصوم (١٠).
قوله في حديث أبي سفيان مع هرقل، قال: أشراف النَّاس اتبعوه أو ضعفاؤهم؟
قلت: بل ضعفاؤهم.
_________
(٨) عمدة القاري (١/ ٤٩).
(٩) فتح الباري (١/ ٣٠ - ٣١).
(١٠) عمدة القاري (١/ ٧٦) وما بين المعكوفين في نسخة الظاهرية.
1 / 14
قال (ح): المراد بالأشراف أهل النخوة والتكبر منهم، لا كل الأشراف حتّى لا يدخل مثل أبي بكر وعمر وحمزة وغيرهم ممّن أسلم قبل هذا السؤال، فأمّا ما وقع في رواية ابن إسحاق تبعه منا الضعفاء والمساكين، فأمّا ذو الأنساب والشرف فما تبعه منهم أحد فهو محمول على الأغلب (١١).
قال (ع): قال بعضهم: المراد بالأشراف أهل النخوة لا كل الأشراف. قلت: هذا على الغالب وإلا فقد سبق إلى اتباعه أكابر وأشراف منهم الصديق والفاروق وحمزة وغيرهم وهم أيضًا كانوا أهل النخوة (١٢).
قلت: فأخذ الكلام فادعاه ثمّ اعترض عليه، فاعتراضه مردود لأنّه حذف من كلامه قوله: والتكبر وبهذه اللفظة يندفع اعتراضه لأنّ أبا بكر ومن ذكر معه وإن كانوا أشرافًا أهل النخوة لم يكونوا أهل تكبر، فالتكبر محطة الفرق بين الفريقين فحذفها المعترض ليعترض، وهذا ذكرته على سبيل المثال وإلا فقد استعمل مثل هذا في بقية هذا الحديث وفي غيره.
قوله: فأتوه:
قال (ح): فيه حذف تقديره أرسل إليهم يلتمس منهم المجيء، فجاء الرسول بذلك فأتوه ووقع عند المصنف في الجهاد أن الرسول وجدهم ببعض الشّام.
وفي الدلائل لأبي نعيم تعيين الموضع وهو غزة، قال: وكانت وجه متجرهم، وكذا رواه ابن إسحاق في المغازي عن الزهري (١٣).
_________
(١١) فتح الباري (١/ ٣٥) بتصرُّف. وفيه لا كل شريف. وليس فيه وحمزة.
(١٢) عمدة القاري (١/ ٨٥) وكلمة "التكبر" موجودة في النسخة المطبوعة من عمدة القاري.
(١٣) فتح الباري (١/ ٣٤).
1 / 15
قال (ع): قوله: فأتوه، تقدير الكلام أرسل لي طلب إتيانهم، فجاء الرسول فطلب إتيانهم فأتوه ثمّ قال:
فإن قلت: هم في أي موضع كانوا حتّى أرسل إليهم.
قلت: في الجهاد ذكر البخاريّ من أن الرسول وجدهم ببعض الشّام، وفي رواية أبي نعيم في الدلائل تعيين الموضع غزة.
قال: وكانت وجه متجرهم، وكذا رواه ابن إسحاق في المغازي عن الزهريّ (١٤).
تنبيه:
بين (ح) اختلاف الرواة في الألفاظ الواقعة في حديث أبي سفيان مع هرقل على ترتيب الحديث من أوله إلى آخره، وبين ما خالف بعضهم بعضًا في الأسماء والزيادة والنقص وغير ذلك، فجمع (ع) ذلك كله في مكان واحد وترجم له بيان اختلاف الروايات فذكرها نقلًا من كلام (ح) موهمًا أنّه من تصرفه وتتبعه، وهكذا يَصْنَع في كثير من الأحاديث وإنّما نبهت على ذلك بطريق الِإجمال لتعسر تتبع ذلك فيحصل الملل، وفي الإشارة ما يغني عن الإِسهاب فيطول الخطب والله المستعان.
قوله: وكان ابن الناطور ... الخ.
قال (ح): الواو عاطفة، والتقدير أنّه لما انتهى المتن عند قول أبي سفيان حتّى أدخل عَلَيَّ الِإسلام.
قال الزهريّ بالسند المذكور إليه، وكان ابن الناطور ... الخ، فقصة ابن الناطور موصولة لا معلقة كما زعم بعض من لا عناية له بهذا الشأن، وكذلك زعم بعض المغاربة فجعلها معطوفة على قول أبي سفيان، والتقدير
_________
(١٤) عمدة القاري (١/ ٩٠).
1 / 16
قال أبو سفيان: وكان ابن الناطور، وهذا وإن كان محتملًا عقلًا فقد بين أبو نعيم في دلائل النبوة أنّ الزهريّ قال: لقيت ابن الناطور في زمن عبد الملك بن مروان فذكر عنه القصة.
ووقع في سيرة ابن إسحاق ما يوهم أنّها من رواية الزهريّ عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عبّاس عن ابن الناطور، فإنّه ساق السند إلى ابن عبّاس، قال: افتتح هرقل حيث انفرد فذكر القصة بمعناه، والذي بدأت به هو الذي جزم به الحفاظ، وهو ممّا ينبغي التنبيه عليه (١٥).
قال (ع): قوله: وكان ابن الناطور الواوفيه عاطفة لما قبلها داخلة في سند الزهريّ والتقدير عن الزهريّ أخبرني عبيد الله ... الخ، ثمّ قال: قال ابن الناطور فذكر القصة، فذكر قصة ابن الناطور موصولة لا معلقة كما توهمه بعضهم، وهذا موضع يحتاج فيه إلى أبي سفيان عنه، وإنّما هي عن الزهريّ عنه، وقد بين ذلك أبو نعيم في دلائل النبوة أنّ الزهريّ قال: لقيته بدمشق في زمن عبد الملك بن مروان (١٦).
قلت: فانظروا وتعجبوا فإن هذا الموضع لم ينبه عليه أحد قبلي وتناوله من كتابي وتصرف فيه بالتقديم والتأخير، وأوهم أنّه من تصرفه وتنبيهه والله المستعان.
قوله: رواه صالح بن كيسان ويونس ومعمر.
قال (ح): قال الكرماني: يحتمل ذلك من وجهين أن يروي البخاريّ عن الثلاثة بالإسناد المذكور، كأنّه قال أخبرنا أبو اليمان عن الثّلاثة عن
_________
(١٥) فتح الباري (١/ ٤٠).
(١٦) عمدة القاري (١/ ٩٣) وفي النسخ الثلاث قال: قال ابن الناطور وهو خطأ والصواب ما صححناه "وكان ابن الناطور" كما في عمدة القاري وصحيح البخاريّ.
1 / 17
الزهريّ، وأن يروي عنهم بطريق آخر، كما أنّ الزّهريّ يحتمل أيضًا في رواية الثّلاثة أن يروي لهم عن عبيد الله عن ابن عبّاس، وأن يروي لهم عن غيره، هذا ما يحتمل اللّفظ وإن كان الظّاهر الاتحاد.
قلت: هذا الظّاهر كاف لمن شم أدنى رائحة من علم الإِسناد، والاحتمالات العقلية المجردة لا مدخل لها في هذا الفن، وأمّا الاحتمال الأوّل فأشد بعدًا لأنّ أبا اليمان لم يلحق صالح بن كيسان، فإن مولده بعد وفاة صالح، ولا سمع من يونس، ولو كان من أهل النقل لاطلع على كيفية رواية هؤلاء الثّلاثة لهذا الحديث بخصوصه فاستراح من هذا التردد.
وقد أوضحت ذلك في كتابي "تغليق التعليق" وأشير إليه هنا إشارة مفهمة، فرواية صالح أخرجها المؤلِّف في كتاب الجهاد بتمامها إِلَّا قصة ابن الناطور وكذا أخرجها مسلم.
ورواية يونس أخرجها المؤلِّف في الجهاد من طريق اللَّيث، وفي الاستئذان من طريق عبد الله بن مبارك كلاهما عن يونس عن الزهريّ بسنده بعينه مختصرًا ولم يسقه بتمامه، وساقها الطبراني بتمامها من طريق عبد الله بن صالح عن اللَّيث وفيها قصة ابن الناطور.
ورواية معمر ساقها المؤلِّف بتمامها في التفسير.
والطرق الثّلاثة عن الزهريّ عن عبيد الله عن ابن عبّاس، كرواية أبي اليمان عن شعيب عن الزهريّ، ولو كان سند الحديث عند هؤلاء عن الزهريّ عن غير عبد الله لأفضى ذلك إلى الشذوذ أو الإِضطراب المانع من الصّحيح، فظهر بطلان الاحتمالات المذكورة والله المستعان (١٧).
قال (ع): رواه صالح بن كيسان ويونس ومعمر عن الزهريّ، أي
_________
(١٧) فتح الباري (١/ ٤٤ - ٤٥) وتغليق التعليق (٢/ ١٨ - ١٩).
1 / 18
روى هذا الحديث المذكور صالح بن كيسان عن الزهريّ عن عبيد الله عن ابن عبّاس، أخرجه البخاريّ بتمامه في الجهاد، ولم يذكر قصة ابن الناطور، وكذا أخرجه مسلم بدونها.
وأخرج رواية مسلم في الجهاد مختصره من طريق اللَّيث.
وفي الإِستئذان مختصره من طريق عبد الله بن المبارك، كلاهما عن يونس عن الزهريّ بسنده بعينه ولم يسقه بتمامه.
وقد ساقه الطبراني بتمامه من طريق عبد الله بن صالح عن اللَّيث وفيه قصة ابن الناطور.
وأخرج رواية معمر بتمامها في التفسير.
فقد ظهر لك أنّ روايات هؤلاء الثّلاثة عند البخاريّ عن غير أبي اليمان، وأن الزهريّ إنّما رواه لأصحابه بسند واحد عن شيخ واحد وهو عبيد الله بن عبد الله عن ابن عبّاس لا كما توهمه الكرماني حيث يقول: أعلم أنّ هذه العبارة تحتمل وجهين، فذكر كلامه ثمّ قال بعده: وهذا فاسد من وجهين:
أحدهما: أنّ أبا اليمان لم يلحق صالح بن كيسان ولا سمع من يونس.
والآخر: أنّه لو احتمل أنّ يروي الزّهريُّ هذا الحديث لهؤلاء الثّلاثة عن شيخ آخر لكان ذلك إختلافًا قد يفضي إلى الإضطراب الموجب للضعف، وهذا إنّما نشأ لعدم تحريه في النقل واعتماده في هذا الفن على العقل انتهى كلامه (١٨).
فأخذ الكلام بطوله فقدم فيه وأخر وأوهم أنّه من تصرفه وليس كذلك.
قوله: وقال مجاهد ... الخ.
_________
(١٨) عمدة القاري (١/ ١٠٠ - ١٠١) ورواية يونس عند الطبراني في الكبير (٧٢٧٠).
1 / 19
قال (ح): وصل هذا التعليق عبد بن حميد في تفسيره (١٩) والمراد أنّ الذي تظاهرت عليه الأدلة من الكتاب والسُّنَّة هو شرع الأنبياء كلهم.
تنبيه:
قال شيخنا الِإمام البلقيني: وقع في أصله الصّحيح في جميع الروايات في أثر مجاهد هذا تصحيف قل في تعرض لبيانه، وذلك أنّ لفظ مجاهد (شرع لكم) أوصيناك يا محمَّد وإياه دينًا واحدًا، والصواب أوصيناك يا محمَّد وأنبياءه كذا أخرجه عبد بن حميد والفريابي والطّبريّ وابن المنذر في تفاسيرهم، وبه يستقيم الكلام، وكيف يفرد مجاهد الضمير لنوح وحده مع أنّ في السياق ذكر جماعة انتهى، وإفراد الضمير لا يمتنع لأنّ نوحًا أفرد في الآية فلم يتعين التصحيف، وغاية ما ذكر من مجيء التفسير بخلاف لفظه أن يكون المصنف ذكره بالمعنى (٢٠).
قال (ع): أخرج أثر مجاهد عبد بن حميد في تفسيره بسنده عنه، ورواه ابن المنذر بلفظ وصاه، وقوله: وإياه، يعني نوحًا.
قال: وقد قيل إنَّ الذي وقع في أثر مجاهد تصحيف، والصواب أوصيناك يا محمَّد وأنبياءه وكيف يقول مجاهد بإفراد الضمير مع نوح وحده، مع أنّ في السياق ذكر جماعة.
قلت: ليس بتصحيف بل هو صحيح، ونوح أفرد في الآية وبقية الأنبياء عطفت عليه وهم داخلون فيما وصى به، ونوح أقرب مذكور وهو أولى بعود الضمير. انتهى (٢١).
_________
(١٩) الذي في الفتح (١/ ٤٨) وصل هذا التعليق عبد الرزاق في تفسيره. وفي تغليق التعليق (٢/ ٢٥) أنّ عبد بن حميد وعبد الزراق وصلاه.
(٢٠) فتح الباري (١/ ٤٨) وتغليق التعليق (٢/ ٢٤).
(٢١) عمدة القاري (١/ ١١٧)
1 / 20
فأخر جواب الإعتراض فزاد فيه قليلًا وادعى أنّه من تصرفه وليس كذلك.
قوله: "دعاؤكم إيمانكم" صنع فيه (ع) نحو ما صنع فيما قبله من أخذه كلام (ح) بحروفه وإيهامه أنّه من تصرفه لكن زاد فيه ونقص.
قوله:
1 / 21