فإذا جردنا من عالم التصور مخلوقا يعقل، ولكنه يحسن ويعجز عن الإساءة لأنه مصروف عنها، ومخلوقا تأتي منه الحسنة كما تأتي منه السيئة لأنه لا يميز بينهما ولا يريدهما، ومخلوقا تكلفه الحسنة جهدا ويريدها لأنه يعرف فضلها، ويصبر على المشقة في سبيلها، فنحن قد ذهبنا بالتصور غاية مذهبه لنقف عند قصة آدم والملائكة ، وما في الأرض والسماء من خليقة ذات حياة أو غير ذات حياة.
وعلينا أن نمعن بالتصور مدى آخر وراء هذا المدى من تاريخ الإنسان، وذلك هو المدى الذي نطلع منه على «سياسة الخلق والتكوين» على كل صورة من الصور مرة أخرى في احتمال العقل، أو في احتمال الفرض والتقدير.
إننا نعلم من سياسة الخلق أن الأجسام الحية نشأت على الكرة الأرضية قبل نشأة الإنسان، فكادت أن تبلغ مبلغ الجبال الصغار، وثقل بعضها وزنا حتى أربى على مئات الأطنان، ثم فنيت لأنها قصرت عن ملكة التدبير التي تروض بها هذه الأجسام الضخام، ولسنا نعلم شيئا بغير السماع والإلهام عن خلائق العقل التي تفردت فيها العقول عن الأبدان.
والعقل الإنساني يأبى أن يصدق أن هذا الكون خلو من معدن العقل إلا أن ينبت عرضا في جزء من مادة الأرض بعد نشوء الإنسان.
أقرب إلى تصديقه - ولا نقول أقرب إلى إيمانه وكفى - أن سياسة الخلق والتكوين تصرفت في مقادير العقول، كما تصرفت في مقادير الأبدان إلى غاية ما تبلغه من الضخامة بمعزل عن العقل وعن فضائل التمييز.
تلك سياسة الخلق التي أذنت للكائنات العاقلة في عالم الروح أن تعلم مداها من الرقي في معارج الحياة، وأن تتلقى الأمر بالسجود للقيمة الجديدة التي تنفرج عنها أستار الغيب، ويودعها الخالق هذا الكيان الموسوم بالإنسان.
ومن بديهة الإيمان أن تدع للدين حقه في تبليغ هذه النشأة إلى المؤمنين بالغيب، وأن تدع للعقول حقها فيما وسعت من علم، وفيما وسعها من تعليم. إن النشأة الآدمية في القرآن هي طريق الحياة من الأرض إلى السماء، أو هي طريق الكائن الحي من المادة الصماء إلى الخلاق الحكيم.
ولا يأبى القرآن على المؤمن به أن يرسم مسلك الحياة من المبدأ إلى المصير على هذا الطريق الخفي البين، فإنه لعلى الجادة في كل مكان يردها إلى الأرض ولا يقطعها عن الله.
الكتاب الثاني
الإنسان في مذاهب العلم والفكر
Неизвестная страница