فالصندوق العازف جهاز يحتوي قالبا أو أكثر من قالب من قوالب الجرامفون، يعيد للسمع كل ما أودعه عند لمس زر معلوم، وأسمي لمس ذلك الزر بالباعث أو المحرض، وهو باعث مقصور على القالب الذي يؤدي إلى سماعه، فهو مؤثر واحد يأتي بأمر واحد بينهما هذه العلاقة المتبادلة. وإنني أبعث الصندوق بلمس الزر - أي زر - إلى إحداث نغمة موسيقية، ولكنني إذا اخترت زرا معينا، فالباعث هنا يدعوه إلى إحداث نغمة دون سائر النغمات الموسيقية، والتوجيهات الموسيقية في هذه الحالة جزء من الصندوق، وليست جزءا من البيئة المحيطة به، وكل ذلك راجع إلى تركيب الصندوق، فليس ضغطي على الزر توجيها للصندوق في أداء نغماته الموسيقية.
والآن تقابلون بين هذا وبين عمل الجرامفون أو أية أداة أخرى تؤدي لنا النغمات الموسيقية: إن لدي قوالب موسيقية أقوم بتحريك بعض المفاتيح، وأضع القالب على الجرامفون، والقالب منقول إليه من البيئة المحيطة؛ فذلك باعث كباعث الصندوق العازف إلى أداء الأنغام الموسيقية، ولكنه يضيف إلى الباعث هناك شيئا أكثر من ذلك، وهو الخطوط المرسومة التي تمر بها الإبرة فتبعث منها الأنغام المؤداة، وليس لدى الجرامفون مصدر للتوجيهات الموسيقية، وإنما هو القالب الذي جاء إلى الجرامفون من البيئة الخارجية، فكانت علاقتي به - إذن - علاقة تعليمية، لأنني - بمعنى من المعاني - قد علمته كيف يؤدي النغم المسموع.
ونحن في الحالتين صنعنا الصندوق، وصنعنا الجرامفون، وأعددنا كلا منهما للعمل الذي يؤديه، ولكن هذه الحقيقة لا تقدم ولا تؤخر في مغزى الاختلاف بين عمل هذه الأداة وعمل تلك؛ فلنذكر هذا الاختلاف فيما يلي من المقارنات.
منذ عشر سنوات، اتجه البيولوجيون إلى العلم بأن الأجهزة الحية العليا أشبه بالصندوق العازف منها بالجرامفون، وأن كل ما كنا نحسبه من قبل حركات تعليمية هو في الواقع حركات تنبيهية ليس إلا، أي أن تحريك الكائن الحي يحدث شيئا هو نتيجة تركيبه وليس - كما كان مظنونا - نتيجة شيء من الخارج، فليست الآثار المستقرة في الجهاز الحي خطوطا مرسومة على قالب يديره ذلك الجهاز، ولكنها آثار جينية مودعة في الصبغيات وحوامض الخلايا.
واسمحوا لي أن أبين بعض الأمثلة لهذه الحقيقة: فأقدم الأمثلة وأشيعها مثل التغيير الذي يعتري جمهورا من الناس عرض له التطور، فكيف نصنف البواعث التي تفعل فعل التطور في الأجهزة الحية؟ إن النظرية اللاماركية التي تقول بوراثة الصفات المكتسبة، هي على أعمها تنظر إلى البواعث التعليمية، وتعني أن البيئة على نحو من الأنحاء قادرة على إعطاء تأثيرات تعليمية للأجهزة الحية، وأن هذه التأثيرات إذا سرت في البيئة سريانا حسنا أمكن أن تنتقل بالوراثة إلى أعقابها.
فالحداد الذي طالما ضرب به المثل لتعزيز هذه الملاحظة، يستفيد قوة في ذراعيه من طرق الحديد، فتؤثر هذه القوة في الخلايا التي تنشئ بذوره المنوية، وتنتقل من ثم إلى أبنائه، فيولد هؤلاء الأبناء وفيهم استعداد لتربية الأذرع القوية، ولست أفيض في مناقشة التجارب التي تكررت لامتحان العوامل اللاماركية، وحسبي أن أجملها فأقول: إنها جميعا أسفرت عن نتائج غير لاماركية، ودلت على مؤثرات تنبيهية وليست تعليمية.
ومثل آخر من الأمثلة الشائعة هو مثل البكتريا إذا أعطيت طعاما غير طعامها المألوف، أو تعرضت لعقار مضر بقوامها، فإنها في هذه الحالة قد توفق بين قوامها وبين الطعام الجديد، أو تزيل ضرر العقار وتلغي مفعوله. وقد سميت هذه العملية زمنا باسم تدريب البكتريا، على اعتبار أنها عملية قادت البكتريا إلى تعلم طريقة جديدة لتوليد الخمائر من طعامها، ولكنها تسمية لم تلبث طويلا حتى تبين خطؤها، وتبين أن هذه العملية وسيلة تنبيهية وليست بالوسيلة التعليمية؛ فليس في وسع البكتريا أن تنشئ خميرة غير التي هي مفطورة على إنشائها، وكل ما حدث عند تغيير الطعام أنه نبه الاستعداد الذي لم يكن له منبه قبل ذلك، وهو استعداد كامن في التركيب، وليس بالتعليم المستفاد من فعل الطعام أو العقار.
ويصدق هذا على تطور الحيوان، فقد كثر الجدل زمنا بين أنصار القول بالتنبيه وأنصار القول بالتعليم؛ إذ كان الأولون يرون أن كل تطور فإنما هو نشر لما كان مطويا هناك، وكان المتطرفون منهم - وطالما تعرضوا للسخرية - يرون أن بذرة النسل إنما هي إنسان صغير. أما الآخرون فعندهم أن العوارض التي تعمل في تكوين الجنين إنما هي بواعث تعرض له مما حوله. ولعل الحقيقة وسط بين هذين الطرفين، فالعوامل الجينية تتم لأنها كامنة هناك، ولكن استيفاءها رهين بالعوامل الخارجية عنها.
وإلى نحو سنتين كنا نشعر أن ضربا من النمو يتم في أجهزة الحيوانات العليا بفعل البيئة، على اعتبارها موجها أو معلما، على النحو الذي نشاهده عند تلقيح الأنسجة بمادة خارجية يؤدي إلى إنشاء البنية لمادة بروتينية خاصة، أغلب ما يكون عملها أن تحول دون تلك المادة والإضرار بالبنية؛ مما يكون له أثره في الوقاية من عدوى الأمراض.
ومع البوادر التي توحي بأن هذه العملية تعليمية أخذ كثيرون من البيولوجيين يشكون في ذلك، ويعتقدون أنها لا تعدو أن تكون تنبيهية في جوهرها. ونعود إلى الصندوق العازف مرة أخرى.
Неизвестная страница