الثالث: أن الرسول أخبر أن القرآن يقرأ على سبع قراءات، وأن تعدد القراءات لا يدل على تعدد القرآن؛ لأن السبع المقروء بها واحد، وهو كلام الله القديم، الذي لا يشبه كلام الخلق، ولا يختلف في حال من الأحوال، وإن اختلفت القراءات. فافهم التحقيق ترشد إن شاء الله تعالى.
### || فصل
فإن احتجوا على أن الله تعالى متكلم بحروف، بما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول ألم حرف، لكن الألف حرف، واللام حرف، والميم حرف قالوا: فدل على أنه تكلم بحروف، فالجواب من وجوه: أحدها: أن الحديث لا حجة فيه على ما تريدون، لأنه لم يقل تكلم الله بحروف، وإنما قال من قرأ فله؛ وهذا لا حجة فيه.
جواب آخر: وهو أن الأجر إنما يقع على الطاعة التي هي القراءة، لا على القديم الذي هو كلام الله، ونحن نقول: إن الحرف عائد إلى القراءة لا إلى المقروء، والذي يحقق ذلك أنه إذا جلس اثنان حافظان لكلام الله تعالى وهما ساكنان؛ أليس كل واحد منهما معه كلام الله في صدره، كما أخبر تعالى: " بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم " ولا يحكم بأن لكل واحد منهما حسنة، وإن كان كلام الله موجودا معهما؛ فإذا قرأ أحدهما وسكت الآخر، أليس يحصل للقارىء بكل حرف عشر حسنات، لوجود القراءة منه، وليس للساكت منهما هذه الحسنات، وإن كان معه كلام الله القديم على الوجه الذي ذكرنا، وإنما زاد عليه هذا، بأن وجدت منه القراءة التي هي حروف وفعل منه يسمى طاعة، لقوله صلى الله عليه وسلم: أفضل عبادات أمتي قراءة القرآن فصح أن الثواب على الفعل الذي هو طاعة، لا على الكلام القديم، فكان الحرف صفة التلاوة لا صفة المتلو.
جواب آخر: وهو أنه قد روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه أضاف الحرف إلى التلاوة، لا إلى كلام الله القديم، وهو ما روى عبد الله بن مسعود أن الرسول قال: تعلموا القرآن فإنه مأدبة الله فتعلموه واتلوه فإنكم تؤجرون على تلاوته بكل حرف عشر حسنات. فأضاف الحرف إلى التلاوة لا إلى المتلو، فصح ما قلناه، وبطل ما توهم الجاهل أنه حجة له.
فصل
فإن احتجوا في إثبات الصوت لكلام الله تعالى، وأنه متكلم بأصوات، بما روى في الحديث: إذا كان يوم القيامة نادى الله تعالى بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب الخبر.. قالوا: فقد أضاف الرسول عليه السلام الصوت إلى الله تعالى، فصح ما قلناه. الجواب من أوجه: أحدها: أنك تقول أولا لا حجة لكم فيه، لأنه صلى الله عليه وسلم ما قال تكلم الله بصوت، ولا قال بصوت، ولا قال كلام الله أصوات، كما تزعمون بجهلكم؛ وإنما قال نادى الله بصوت، وليس الخلاف إلا أن كلامه أصوات، فلا حجة لكم فيه.
جواب آخر: وهو أن هذا الحديث قد روى فيه ما يدل على أن الصوت من غير الله بأمره، لأنه روى إذ كان يوم القيامة جمع الله الخلائق في صعيد واحد، ينفذهم البصر، ويسمعهم الداعي، يأمر مناديا فينادي، فصح أن النداء من غيره، لكن لما كان بأمره أضيف النداء إليه، كما يقال: نادى الخليفة في بغداد بكذا وكذا. ويقال: أمر الخليفة مناديا فنادى بأمره في بغداد بكذا وكذا، ولا فرق بين الموضعين، فإن كل عاقل يعلم أن الخليفة لم يباشر النداء بنفسه، لكن لما كان بأمره جاز أن يضيفه إلى نفسه، وأن يضاف إليه، وإن لم يكن هو المنادي بنفسه، ويصحح جميع ذلك القرآن، قال الله: " واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج " فأضاف النداء إلى المنادى، فصح أن الصوت صفة المنادي لا صفة الآمر بالنداء؛ ومن عجيب الأمر أن الجهال لا يجوزون أن يكون النداء صفة المخلوق إذا كان رفيع القدر في الدنيا، كالخليفة والأمير، وينفون عنه ذلك، ثم يجوزونه في حق رب العالمين.
جواب ثالث: وذلك أنا وكل محقق يقول: إن هذا الصوت ليس بموجود اليوم، وإنما يكون يوم القيامة، وكلام الله قديم بقدمه، موجود بوجوده، فصح أن هذا شيء لم يكن بعد، وإنما يكون يوم القيامة، ومن زعم أن صفة الله تعالى ليست بموجودة اليوم، وإنما توجد يوم القيامة فقد جعل كلام الله تعالى مخلوقا لا محالة، فصح بهذه الجملة أن الصوت ليس بصفة لكلام الله تعالى، وإنما هو صفة للمنادي الذي يأمره الله تعالى بالنداء في ذلك اليوم.
Страница 49