فأما من ذهب إلى أنها إذا كانت مرفوعة ففيها نقل بلا قلب، وإذا كانت منصوبة ففيها قلب بلا نقل، وإذا كانت مجرورة ففيها نقل وقلب؛ فقال: لأن الأصل في قولك هذا أبوه "هذا أبَوُهُ" فاستثقلت الضمة على الواو، فنقلت إلى ما قبلها١، وبقيت الواو على حالها، فكان فيه نقل بلا قلب، والأصل في قولك رأيت أباه "رأيت أبَوَهُ" فتحركت الواو وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفًا؛ فكان فيه قلب بلا نقل، والأصل في قولك مررت بأبيك "مررت بِأَبَوِك" فاستثقلت الكسرة على الواو، فنقلت إلى ما قبلها٢، فقلبت الواو ياء لسكونها٣ وانكسار ما قبلها، فكان فيه نقل وقلب.
وأما مَنْ ذهب إلى أن الباء حرف الإعراب، وإنما الواو والألف والياء نشأت عن إشباع الحركات؛ فقال: لأن الباء تختلف عليها الحركات في حالة الرفع والنصب والجر كما تختلف حركات الإعراب على سائر حروف الإعراب؛ فدلّ على أن الباء حرف الإعراب، وأن هذه الحركات -التي هي الضمة والفتحة والكسرة- حركات إعراب، وإنما أشبعت فنشأت عنها هذه الحروف -التي هي الواو والألف والياء- فالواو عن إشباع الضمة، والألف عن إشباع الفتحة، والياء عن إشباع الكسرة، وقد جاء ذلك كثيرًا في استعمالهم، قال الشاعر في إشباع الضمة:
[٦]
الله يعلم أنَّا في تَلَفُّتِنَا ... يوم الفِرَاقِ إلى إخواننا صُوَرُ
_________
[٦] أنشد ابن منظور هذين البيتين في اللسان "ش ر ى" وأنشد أولهما في "ص ور" من غير عزو، وأنشدهما ابن جني في سر الصناعة "١/ ٢٩" من غير عزو أيضًا وأنشدهما الرضي، وقد شرحهما البغداديّ في الخزانة "١/ ٥٨ بولاق" ولم يعزهما، وكلهم يروي البيتين ببعض اختلاف في بعض ألفاظهما، وسننبّه عليه، وصور: جمع أصور، وهو وصف فعله صور يصور صورًا -على مثال فرح يفرح فرحًا- ومعناه المائل العين، وروى ابن منظور "وأنني حوثما يشرى الهوى بصري" وحوثما: لغة في حيثما، و"يشرى" مضارع أشراه إلى ناحية كذا بمعنى أماله، وهو بمعنى "يثني" في رواية المؤلف، يريد أنه كان دائم التلفت إلى أحبابه يوم الفراق، وأنه كان يتجه في التفاته إلى الجهة التي يسلكها أحبته، ومحلّ الاستشهاد قوله "فأنظور" فإنه أراد "فأنظر" لكنه لما كان محتاجًا إلى الواو في القافية أشبع الضمة التي على الظاء فنشأت الواو.
وأقول: قال أبو الطيب المتنبي:
ويطعمه التوراب قبل فطامه ... ويأكله قبل البلوغ إلى الأكل
=
_________
١، ٢ حكى العلامة ابن مالك في شرح التسهيل أنك إذا قلت "هذا أبو زيد" فأصله "أبو زيد" بفتح الباء وضم الواو للإعراب، ثم أتبعت الباء للواو فضمت، فصار الباء والواو جميعًا مضمومين، ثم استثقلت الضمة على الواو فحذفت، وهذا أدق مما ذكره المؤلف؛ قالوا: لأن نقل الحركة إلى حرف متحرك غير معهود، ويقال مثل ذلك في حالة الجر.
٣ انظر الهامش ٢ في ص١١.
1 / 21