فأخرج السيكار من فيه وتنهد وقال: «ولكنني أكرههم لأنهم ألد أعدائي.»
قال: «إنهم يستحقون الغضب لعقوقهم وتمردهم.»
فقاطعه السلطان قائلا: «إني أكرههم وأخافهم من صباي، أتعلم لماذا؟»
فتطاول نادر أغا بعنقه ولم يجب اكتفاء بالإصغاء، فقال السلطان: «كرهتهم من صباي لأن المنجم الذي تنبأ لي بأن العرش سيفضي إلي ... هل تعرفه؟»
فبغت نادر أغا لأنه لم يكن يتوقع سؤالا فقال: «خيرا أفندم.»
فقال: «كنت في صباي أحضر مجلس التنجيم والمندل بين يدي السلطانة الوالدة، وهي يومئذ والدة عمي السلطان عبد العزيز، وكان عندها جماعة من مهرة المنجمين نبوءاتهم صادقة. ثم عرفت منجما اسمه الشيخ عبد الرحمن من أهل صيدا، جاءني به نجيب باشا أحد رجال الدولة عند رجوعه من منفاه في قبرص وأطرى مهارته في استطلاع الغيب، فطلبت إليه أن يكشف لي عن مستقبلي فذكر أني سأتولى العرش قريبا وأبقى عليه مدة طويلة، فاعترضت بوجود عمي عبد العزيز حيا ثم أخي مراد، فأكد لي أن طالعي يدل يقينا على ما قاله. لكنه أسر إلي أنه يرى ظلا أسود يحوم حول سعدي، وأنه إذا كان علي خوف فهو من عشيرة أمي، وهو يعتقد أنها أرمنية. فلم تمض مدة طويلة حتى صدق المنجم وتوليت العرش وكافأت الرجل مكافأة حسنة، ثم خدمني خدمات جليلة في شأن حفظ السلطنة ... فلما رأيته صدق في بعض نبوءاته خفت أن يصدق في الباقي، ولذلك رأيتني أطارد الأرمن وأحاذرهم.»
وسكت ريثما سحب نفسا طويلا من السيكار وفي ملامح عينيه أنه لم يتم حديثه بعد، وظل نادر أغا مصغيا، فعاد السلطان إلى الكلام قائلا: «قد علمت سبب نقمتي على الأرمن إجمالا، ولم تعلم بعد سبب حذري من هذه المرأة على الخصوص ... فاعلم أني شديد الإعجاب بهذه الجارية منذ عرفتها لذكائها وسداد رأيها، وكثيرا ما كنت أقضي الساعات في مجالستها حتى شغلتني عن سواها لما لها من الاطلاع على مختلف الكتب، وهذا ما جعلني أثق بها حتى كلفتها بمهمة ذات شأن في أثناء دسائس الأرمن التي انتهت بذبحهم في الأستانة منذ عشرة أعوام.»
واعتدل السلطان في مقعده وتنحنح، وقد أبرقت عيناه سرورا بما كان من نجاحه في تلك المذبحة وقال: «كنت أسمع يومئذ أن بعض رجالي المسلمين ممن قدمتهم ورقيتهم ووليتهم المناصب موالون لأولئك الكفار في تمردهم علي، فلكي أتحقق ذلك بعثت بعض السراري النبيهات إلى بعضهم على سبيل الهدية - وهم طبعا يفرحون بالهدية السلطانية ولا يجسرون على ردها - فأطلعني أولئك الجواري بعد ذلك على أسرار مهمة. وكانت القادين ج يومئذ لا تزال من جملة السراري، فكلفتها بكشف أسرار «ع. باشا» لأني كنت أظن أنه يتظاهر بالإخلاص. وحرصا على استرجاعها إلي، وخوفا من أن تنحاز لأبناء جلدتها لأنها أرمنية؛ وعدتها إذا قامت بتلك المهمة أن أجعلها قادين، واشترطت عليها شروطا خاصة تجيز رجوعها إلى قصري وأنا واثق بصدقها. والحق يقال إنها أخلصت الخدمة، وعادت بأهم الأخبار عن الأرمن أنفسهم أيضا، فجعلتها قادين وأمرت لها بدائرة خاصة تقيم فيها، وعندها الخازنة والباشكاتبة والمهردار والأسفنجي، فضلا عن الخدمة والجواري والخصيان مثل زميلاتها، ولم أميز واحدة منهن عنها في شيء، ولكن ... آه!» وتنهد.
وكان نادر أغا كثير الشفقة على تلك القادين ويحب أن ينقذها من الخطر إذا استطاع، فأصغى بكليته إلى حديث السلطان فلم يجد في كل ما سمعه شيئا يوجب الغضب، فلما رآه يتنهد توقع أن يسمع ما يكشف له القناع عن السبب الصحيح.
أما السلطان فبعد أن تنهد رمى بقية سيكاره في المنفضة وقال: «إنك لا تجد في حديثي عن هذه المرأة حتى الساعة ما يوجب الغضب عليها، ولا أنا أيضا. ولكنني رأيت في المنام بعد ذلك رجلا أرمنيا اسمه مهران بك كنت أراه في مجلس أبي، ولم أكن أحبه لأنه كان يفضل إخوتي علي، وربما أوعز إلى أبي بذلك، وكنت ألاحظ أن أبي يسايره وينتهرني، فنشأت على كره هذا الأرمني. وقد مات من زمن طويل ولم يخطر ببالي ذكره إلا في تلك الليلة، فرأيته في المنام بهيئته التي أعرفه بها وبيده سيف يشير به إشارة التهديد، فأجفلت واستيقظت وانتبهت إلى الخطر الذي يحدق بي من الأرمن وقلت: «ينبغي أن أحترس منهم.» وحدث ذات يوم أن أمرت الشيخ أن يعمل مندلا على ما في ضميري ولم أذكر له شيئا، فكتب لي نتيجة المندل في هذه الورقة، فحفظتها عندي من ذلك الحين وتيقظت لنفسي، وأوصيت الحاضنة أن تتيقظ جيدا للقادين ج. وقد علمت اليوم أنها حامل.» قال ذلك ودفع إلى نادر أغا الورقة ليقرأها.
Неизвестная страница