قال: «ألا يهمك إذا كنت قد ذكرت له فيها أنك تعدين بقاء الذات الشاهانية جلالة مولانا أمير المؤمنين مصيبة على الأمة العثمانية؟!»
قالت: «أليس ذلك حقا؟»
قال: «لا أدري، ولكنني أعلم أن وصول هذه الورقة إلى يدي جلالته يجعلك تندمين ساعة لا ينفع الندم، وإذا كنت لم تصدقي ما أقوله فهذا خطك فاقرئيه.» قال ذلك وفتح الورقة فوقع بصرها عليها فعرفت خطها، فلم يبق عندها شك في وقوع الخطر، لكنها ظلت تظهر الاستخفاف.
أما هو فقال: «هل تظنين هذه الورقة لا تحوي غير ما ذكرته لك؟ لو قلت لك فحوى ما بقي منها لتراميت على قدمي تلتمسين كتمان هذا الكتاب؛ لقد ذكرت له أيضا أنك تستغربين صبر الأحرار على بقاء هذا السلطان حيا، فهل في الدنيا ذنب أعظم من هذا؟ هل تجدين سبيلا للإنكار؟»
ثم خفض صوته وقال: «هل تحققت الآن أن حياتك وموتك في قبضة يدي؟» قال ذلك وشمخ بأنفه، ووقف وهو يتوقع أن تترامى شيرين على قدميه كما قال، لكنه رآها لا تزال مستخفة به كأنه لم يقل شيئا، فتقدم نحوها وقال: «ومع ذلك فأنا حتى الساعة أعرض عليك حياتك، أي إني أهبها لك على أن ترجعي عن غيك وتعتذري عما مضى وتعتقدي أني أحبك، وإلا ...»
فحولت وجهها عنه وهي تنظر إليه بطرف عينيها ازدراء، وتمتمت متسائلة: «أعتذر عما مضى؟!» ثم التفتت إليه وقالت: «اسمح لي أن أثبت كذبك قبل كل شيء، لقد تنصلت من أنك ألقيت رامزا في السجن بوشايتك، ولكنك ذكرت الآن أنك أخذت هذه الورقة من بين أوراقه، فكيف حصلت عليها إن لم تكن أنت الواشي به. ثم اعلم أن الحياة ليست هي وحدها غاية الإنسان في دنياه، هل تحسب السعادة بالطعام والشراب أو باكتساب الأموال؟ إذا كنت تعد ذلك سعادة فاعلم أنها سعادة حيوانية رخيصة، وإنما السعادة الحقة سعادة الضمير الحر، سعادة القلب السليم، سعادة النفوس الأبية نفوس طلاب الحرية، ولكنك لم تذق هذه السعادة ولن تذوقها. إنك وأمثالك تحسبون الغرض من الحياة أن تجمعوا الأموال بأية وسيلة، ولهذا تبيعون ضمائركم بالجاسوسية وتخربون البيوت العامرة وتقتلون النفوس البريئة ... لكن تمتعوا ما شئتم واقتلوا من شئتم، فلن يؤثر ذلك في عقيدة الأحرار الصادقين. والآن وقد علمت ذلك فافعل ما تراه، فما أنا بخير ممن سبقوني إلى التضحية والفداء!»
وكانت تتكلم كأنها تخطب في جمهور، أما صائب فكان يسمع كلامها ويهز رأسه تارة ويقلب شفته تارة أخرى، ولسان حاله يقول: «هذا هو الجنون بعينه.»
فلما فرغت من كلامها سكت هنيهة مطرقا وقد أخذته الحيرة، ثم رفع بصره إليها وقال: «أراك تتكلمين كلام أهل الطيش الذين يضيعون أيامهم في الكلام الفارغ، وقد كان يجدر بي بعد ما سمعته منك أن أكتفي برفع أمرك إلى صاحب الأمر، لكنني لا أزال ضنينا بحياتك شفيقا على شبابك إكراما لأبيك ... ولأني أحبك. فأنا أعرض عليك الحياة مرة ثانية، وأجيبك بأن ما ذكرته من الألفاظ الضخمة كالضمير والحرية والنفس الأبية إنما يلجأ إليها أهل الفاقة الذين تضيق دونهم سبل الرزق، فإذا عجزوا عن اكتساب المال عدوا اكتسابه رذيلة! أي فائدة لأصحاب تلك النعوت إن لم يكن لديهم من المال ما يدفعون به الجوع والبرد؟ وما هي الحرية أو ما الفائدة منها لمن خلا جيبه وخوى جوفه؟ هل تجدين بين أولئك الذين يسمون أنفسهم أحرارا من يستطيع أن يعيش من ماله؟ لقد أصبح لفظ حر لقبا لأهل الطيش الأفاقين الذين يضربون في الأرض لخلو أيديهم من المناصب، فيزعمون أنهم تخلوا عن الخدمة رغبة في الحرية، ولكنهم يفعلون ذلك عن عجز، ولو أعطيت لهم المناصب لنبذوا الحرية وركنوا إلى العبودية كما فعل كثيرون منهم كنت سببا لردهم إلى الولاء للذات الشاهانية. ولكن ما لنا ولذلك الآن؟ هذه آخر كلمة أقولها لك ثم يكون دمك على رأسك ... إني أعرض عليك النجاة من خطر الموت، ولا أزال أقول إني أعدك بإنقاذ رامز أيضا، ولا أشترط شيئا غير رضاك بي، وإلا فلا تلومي إلا نفسك!» قال ذلك بلهجة التهديد ثم تحول إلى الباب وهو يتوقع أن تندم فتستوقفه وتباحثه، فلم يسمع منها إلا قولها: «افعل ما بدا لك، وإذا كانت الحياة لا تكون إلا على يدك وأيدي أمثالك فلا حاجة لي بها!»
وهنا عاد إليها مسرعا وهو يشير بيديه إشارة الوعيد والتعنيف، وقال: «تزعمين أنك تحبين رامزا، وها أنت ذي تقتلينه بيدك، قد سنحت لك فرصة لإنقاذه فلم تفعلي!»
فأجابته: «إن حبي رامزا لا دخل لك فيه، وإن رامزا لا يرضى أن تكون حياته منة من جاسوس منافق. وأما أنا فإني أفضل أن يموت رامز وأموت أنا معه ضحية الحرية وقول الحق، ولا نعيش عيشة المتملقين المنافقين. وزد على ذلك أن يدك أقصر من أن تستطيع خيرا، إنك لا تقدر على غير الشر، فانصرف عني ودعني.»
Неизвестная страница