تتقلب في الفراش الوثير الذي له نكهة معطرة تنعشها قليلا، يقفز خيالها فوق القارات والبحار والمحيطات وجسدها تحت الغطاء.
هل كانت أمس في القاهرة؟ هل هي اليوم في شمال الولايات المتحدة الأمريكية؟ يعود إليها الشك الطفولي في ما حولها، كأنما العالم الخارجي غير موجود إلا في خيالها، أو أنه يتغير ويتشكل وفق مزاجها وإرادتها، انتهى الليل وطلع النهار، أشرقت الشمس قوية دافئة تشبه شمس قريتها، بعض سحب بيضاء قليلة في الشمال ناحية كندا، الهواء مشبع بالخضرة المروية برائحة تشبه طمي النيل أو طين الترعة، تحمل قريتها معها أينما سافرت، لم تعش في القرية إلا فترة قصيرة من طفولتها، جذورها راسخة في الأرض، في خلايا عقلها، يستحيل اقتلاعها من ذاكرتها وإن أرادت، مدينة القاهرة مجرد فرع من القرية، مهما قويت وتجبرت القاهرة تضيع من ذاكرتها، تنساها بالرغم من أنها ابتلعت حياتها كالحوت، ابتلعت مراهقتها وشبابها وعمرها كله، حوت ضخم من الأسمنت المسلح، مدينتها عاشت عمرها في جوفها الحديدي وكرهتها، تود الفرار من فكيها القابضين على عنقها من دون جدوى، تسحقها المدينة التي يسمونها القاهرة، المقهورة بحكامها، القاهرة لأهلها منذ قرون السخرة والعبودية، وصلت حقيبة ملابسها في اليوم التالي حتى غرفتها في الفندق، في الدور الثلاثين تطل على مدينة نيويورك وناطحات سحابها جاردن فيليج، فندق من خمسة نجوم لا ينزل فيه إلا الشخصيات الكبيرة، والأستاذات والأساتذة من ذوي الدرجات العالية، لا يقبل عقلها فكرة أنها واحدة من هذه الطبقة المتجمدة فوق القمة، ربما يكون جورج نلسون غير هؤلاء، في أعماقها تنتمي إلى المعذبين في الأرض، ليست فقيرة مثل عبد الجليل ابن عمتها أو الفلاحين في قريتها، لكن هل تخرج طفلة من قرية مظلمة مدفونة في بطن النيل؟
كل شيء من حولها يبدو عاديا، رأته من قبل، في حياة أخرى، يلوح لها وجه أمها غارقا في الدماء، ثم يتلاشى كالحلم.
تصحو فؤادة من النوم غارقة في العرق، ترتعش من البرد، لا تعرف أهي مدينة القاهرة أم نيويورك، تحمل غرفتها الرقم واحد في الدور الثلاثين، تطل نوافذها الكبيرة الزجاجية على الخضرة الدكناء، والأشجار الكثيفة الأغصان والأوراق، وزهور متعددة الألوان، عيناها تمتصان الخضرة والألوان، محرومتان من الخضرة والألوان على مدى السنين، منذ أن تركت القرية وأصبحت من أهل المدينة، بدت القاهرة من نافذة الطائرة على شكل كتل من الأسمنت والخرسانة والحجر والطوب، مساحات من البيوت المتلاصقة الممتدة إلى ما لا نهاية، بحثت عيناها عن شجرة واحدة من دون جدوى، يأكل الأسمنت الشجر والزرع؟ تزحف الصحراء إلى الوادي وينكمش النهر؟ لم يعد النيل هو الإله القديم ، أصبح خطا رفيعا يتلوى كالثعبان، مخنوقا وسط كتل صلبة لونها كلون القطران.
يعني جاردن فيليج باللغة العربية «قرية الحديقة» هي الحي الأخضر في هذه المدينة على غرار «جاردن سيتي» في القاهرة.
مدينتها لا يمكن الفكاك منها، مدفونة في بطن عقلها تحت خط الفقر والمرض والجهل، الثالوث المزمن، قبل أن تولد لم يكن يحمل لقب «صاحب الجلالة» إلا الله والملك، فاروق الأول ملك مصر هو الأخير من حكامها غير المصريين، آخر سلالة محمد علي باشا، الجندي الألباني، الذي حكم مصر عشرين عاما، كانت هي تنطلق خارج الرحم تشهق بأول نفس، ومصر تنطلق من تحت الحكم العبودي، يغني الراديو: بلادي بلادي لك حبي وفؤادي، مصر مصر أمنا، يرتفع صوت جمال عبد الناصر يعلن الحرب على الثالوث المزمن الاستعمار والإقطاع والرأسمالية المستغلة.
كانت طفلة تحبو حين سمعت صوت عبد الناصر يعلن تأميم قناة السويس، الراديو يبث أناشيد النصر الوطني، تنجذب عيناها إلى البريق في عيني عبد الناصر، أنفه يبدو لها أطول من اللازم، وصوته يهز جدران الراديو والبيت، أمها تنصت إلى خطب عبد الناصر وتصفق فرحا حين خرج الإنكليز من مصر ويوم تأميم قناة السويس.
كان خالها محمود يكره عبد الناصر، يقول عنه متآمر مخادع يدغدغ مشاعر العمال والفلاحين بوعود كاذبة بإعادة الثالوث المزمن، الفقر والجهل والمرض.
تختلف أمها معه، تقول له: عبد الناصر اشتراكي مش شيوعي زيك يا محمود. - إيه الفرق بين الاشتراكية والشيوعية يا أختي العزيزة؟ - يسألها بسخرية محاولا أن يكشف لها جهلها، وأنها لا تعرف الألف من كوز الذرة في السياسة. يمتد الحوار بينهما حتى يعود أبوها من الجامعة، ويعلن أن مصر لن تتحرر بالخطب الثورية، اشتراكية شيوعية أو اشتراكية أو إسلامية، كان أبوها يقول: العلم هو الإله، لا تقنعه الأحزاب السياسية، يقول إنها ظواهر صوتية، من حزب الوفد إلى الليبراليين إلى الناصريين إلى الشيوعيين إلى الإخوان المسلمين.
يلوح بيده ضجرا ويقول: كلهم يتاجرون بمعاناة الشعب الفقير يا محمود. - مش كلهم يا محمد بيه. - مين فيهم مخلص يا محمود؟ - إحنا الشيوعيين مخلصين يا محمد بيه. - يمكن إنت يا محمود مخلص لأنك شاب مثالي، لكن قياداتكم كلها مغرضة.
Неизвестная страница