دعيني أتكلم ولا تقاطعيني؛ فليس عندي وقت لأسمعك، في الساعة السادسة تماما بعد الظهر سيأتون ويأخذونني، وفي صباح الغد لن أكون هنا، ولن أكون في أي مكان يعرفه أحد، إن هذه الرحلة إلى مكان مجهول يجهله كل الناس فوق هذه الأرض، بما فيهم الملوك والأمراء والحكام ورجال البوليس، تملؤني بالزهو، كنت أبحث دائما عن شيء يملؤني بالزهو، شيء يجعلني أحس أنني أفضل من جميع الناس، وعلى الأخص الملوك والأمراء والحكام، لم أكن أمسك أي جريدة وأرى فيها صورة لأي رجل منهم حتى أبصق على وجهه، كنت أعرف أنني لا أبصق إلا على ورق الجريدة الذي أحتاج إليه في فرش دواليب المطبخ، ومع ذلك كنت أبصق ثم أترك بصقتي تجف وحدها.
من يراني وأنا أبصق على الوجه يظن أنني أعرفه بالذات، لكني لم أكن أعرفه بالذات، فلست إلا امرأة واحدة. لا يمكن لامرأة واحدة مهما كانت أن تعرف كل الرجال الذين تنشر الصحف صورهم. مهما كنت فلم أكن إلا مومسا ناجحة، ومهما نجحت المومس فلا يمكن لها أن تعرف كل الرجال. ولأن كل رجل عرفته أردت أن أرفع يدي عاليا في الهواء ثم أهوي بها على وجهه، ولأنني كنت أخاف أن أرفع يدي، ولأنني كنت مومسا، فقد كنت أخفي خوفي بطبقة من المساحيق، ولأنني كنت ناجحة، فقد كانت مساحيقي ثمينة جيدة النوع، كمساحيق النساء الشريفات من الطبقة العليا، وشعري مصفف عند حلاق متخصص في شعور نساء العائلات، وشفتاي صبغتا بلون طبيعي شريف، لا يكشف عن الخلاعة ولا يخفيها في الوقت نفسه، وعيناي رسمتا بخطوط متقنة فيها نداء وفيها رفض، كزوجة أي موظف كبير في الطبقة العليا، لم أكن أنتمي للطبقة العليا إلا بمساحيقي وشعري وحذائي الثمين، وأنتمي إلى الطبقة المتوسطة بشهادتي الثانوية ورغباتي المكبوتة، وأنتمي إلى الطبقة السفلى بمولدي من أب فقير فلاح، لم يقرأ ولم يكتب، ولم يعرف من الحياة إلا أن يزرع الأرض، ويبيع الجاموسة المسمومة قبل أن تموت، ويبيع ابنته العذراء قبل أن تبور، ويسرق زراعة جاره قبل أن يسرقه جاره، وينحني على يد العمدة دون أن يقبلها، ويضرب زوجته كل ليلة حتى تعض الأرض، وصباح كل جمعة يرتدي جلبابا نظيفا ويذهب ليصلي الجمعة في الجامع، وأراه بعد الصلاة يمشي بين أمثاله من الرجال يتحدثون عن خطبة الجمعة، وكيف أن إمام الجامع كان عظيم البيان والبلاغة، وإعجازه ما بعده إعجاز؛ فالسرقة حرام، والظلم حرام، والضرب حرام، والطاعة واجبة، وحب الوطن واجب، وحب الحاكم من حب الله، حفظ الله الملك أو الرئيس، وأدامه ذخرا للوطن والعروبة والإنسانية جمعاء.
أراهم يسيرون في الحواري، ويهزون رءوسهم بالإعجاب والإيجاب على كل ما قاله فضيلة الشيخ الإمام، يهزون رءوسهم ويمسحون أيديهم، اليد باليد أو اليد بالجبهة، يبسملون ويحوقلون ويتمتمون ويبسبسون.
كنت أحمل فوق رأسي «الزلعة» الثقيلة المملوءة، عنقي تحت الثقل يلتوي إلى الخلف أو إلى ناحية اليمين أو اليسار، أحاول أن أحفظ توازن الزلعة فوق رأسي فلا تقع، وأحرك ساقي وأنا أسير لأحفظ توازن عنقي بطريقة معينة دربتني عليها أمي، كنت لا أزال صغيرة لم يظهر ثدياي بعد، ولم أعرف عن الرجال شيئا بعد، لكني كنت أسمعهم يبسملون ويحوقلون، وأراهم يهزون رءوسهم ويفركون أيديهم، ويسعلون ويتمخطون بصوت عال غليظ، ويهرشون دائما تحت إبطهم أو ما بين فخذيهم، وينظرون فيما حولهم بعيون حذرة متلصصة متشككة متربصة عدوانية في شبه ذلة.
أحيانا لم أكن أتعرف على أبي من بينهم، كان يشبههم تماما إلى حد أنني لم أعرف أنه أبي، وسألت أمي عن أبي، وكيف ولدتني بغير أب، فضربتني، وأتت بامرأة معها مطواة أو شفرة موس، وقطعوا قطعة من اللحم بين فخذي.
بكيت طوال الليل، وفي الصباح لم ترسلني أمي إلى الحقل ككل يوم، كانت تحمل السباخ فوق رأسي، وأذهب إلى الحقل، وكنت أفضل الحقل على الدار؛ ألعب مع الماعز، وأركب الساقية، وأعوم في الترعة مع الأولاد. ولد صغير اسمه «محمدين» كان يقرصني تحت الماء، ويتبعني داخل الخص، وتحت القش، يجعلني أرقد وأرفع جلبابي، ونلعب معا لعبة عريس وعروسة، وأشعر بلذة شديدة تنبعث من مكان في لا أعرفه بالتحديد، وأغمض عيني، وأحاول أن أبحث عن هذا المكان حتى أجده، وأدرك أنني كنت أعرفه من قبل، ونلعب مرة أخرى حتى تغيب الشمس، ونسمع صوت أبيه ينادي عليه من الحقل المجاور، فأمسك به لكنه يجري ويقول إنه سيأتي غدا.
لم تعد أمي ترسلني إلى الحقل، وقبل طلوع الشمس تلكزني في كتفي لأصحو وآخذ الزلعة لأملأها، ثم أعود لأكنس تحت البهائم وأعجن الجلة وأرصها في الشمس، وفي أيام الخبيز أعجن وأخبز.
أجلس القرفصاء وبين ساقي ماجور العجين، ألت وأعجن، ووهج الفرن في وجهي يحرق أطراف شعري، فلا أعرف أن جلبابي قد انحسر عن فخدي إلا حينما أرى يد عمي تتحرك ببطء من وراء الكتاب الذي يقرؤه وتلمس ساقي، ثم لا تلبث أن تصعد حذرة مرتعشة متلصصة، تبتعد كلما دبت في مدخل الدار قدم، وتلتصق بشدة وبعنف إذا أطبق السكون والصمت، اللهم إلا صوت عود من الحطب أكسره وألقي به في الفرن، أو صوت أنفاسه المنتظمة من وراء الكتاب، لا أرى وجهه، ولا أعرف إذا ما كان نائما يشخر أو يقظا يلهث.
كان يفعل ما فعله محمدين وأكثر، لكني لم أكن أشعر بتلك اللذة الشديدة تنبعث من ذلك المكان المجهول والمعلوم من كياني، وأغمض عيني أحاول أن أبحث عن اللذة دون جدوى، كأنما ضاع المكان أو كأنما جزء من كياني اختفى مني إلى الأبد.
ولم يكن عمي صغيرا، كان أكبر مني بسنين كثيرة، يسافر وحده إلى مصر، ويذهب إلى الأزهر ويتعلم، ولم أكن إلا طفلة لم تفك الخط بعد، يضع عمي بين أصابعي قلم الرصاص، ويجعلني أكتب فوق لوح الأردواز: أ، ب، ج، د ... وأحيانا يجعلني أردد وراءه: الألف لا شيء عليها، والباء نقطة تحتها، والجيم نقطة وسطها، والدال لا شيء عليها، ويهز رأسه وهو يتلو ألفية ابن مالك كما يتلو القرآن، وأهز رأسي أنا الأخرى وراءه، وأردد بالحرف الواحد ما يقول.
Неизвестная страница