Вера, знание и философия
الإيمان والمعرفة والفلسفة
Жанры
هذه مسائل واعتراضات يحار الذهن أمامها، إذا هو لم يستعن على حلها بمعلومات خارجة عن المنطق المجرد. وأهم هذه المعلومات معرفة قانون التطور وكيفية عمله وتفاعله مع قانون بقاء الأصلح. فإن الجمعية الإنسانية لم تكن من ألف ألف سنة ما كانته من ألف قرن، ولا ما هي عليه اليوم، بل هي تتطور وتدخل فيها عناصر وتنحل عناصر أخرى، وتنتقل بذلك من جيل إلى جيل محملة بماضيها مستعدة لانقلابات جديدة حاملة في جوفها بذور ثورات وأنظمة، واختراعات لا حد لها ولا نهاية. ولكن حصول هذه الانقلابات ليس معناه فناء ما سبقها، وقيام نظام جديد لا علاقة له بالماضي. فإن الطفرة مستحيلة استحالة تامة، ولكن الانقلابات معناها انهيار بناء متداع نخر السوس في أصله، وظهور أبنية جديدة كانت أسسها موجودة يشعر الناس بها، ولكنها لم تكن قد ارتفعت بعد وأعلنت عن نفسها. وحتى الأبنية القديمة التي تنهار لا تفنى فناء مطلقا، ومهما يكن من شدة حنق الإنسانية حين قامت فدكتها، فإن ذلك لم يمنع هذه الإنسانية نفسها حين تراجعها سكينتها من أن تبني لذكرى ذلك الماضي أضرحة جميلة من الرخام النقي، وأن تقيم حولها الأزهار وتخلدها بأشعار رائعة؛ ذلك لأن في الماضي مهما نخر أصوله السوس ذكرى آبائنا وأجدادنا وأعزة علينا، فيه ذكرى عظماء الإنسانية الخالدين. فيه ذكرى فرعون وموسى والمسيح ومحمد وشكسبير ونابليون، والماضي هو فوق ذلك فترة من عمر الإنسانية ذات أثر خالد في حاضرها ومستقبلها. ومن ذلك يظهر أن التطور ليس استحالة تامة، ولكنه فروع جديدة تنمو على الجذع الأصيل مكان فروع أخرى، ذبلت وسقطت وتركت في ذلك الجذع القديم الخالد الذي يعز كل جيل من أجياله آثارا مندملة لا يمكن أن تزول.
وحدوث هذا التطور راجع إلى ما يلقيه جماعة الذين ينظرون إلى الحوادث الاجتماعية نظرا سطحيا للتضارب بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة. فهذه الحركة العظيمة التي يسعى إليها كل واحد من بني آدم للوصول إلى مركز عال، أو ثروة ضخمة أو متاع بالحياة كبير مضحيا في سبيل ذلك ببعض الاعتبارات الخلقية، واصلا أحيانا في هذه التضحية إلى ارتكاب ما تحرمه سنن الاجتماع الأدبية، بل قواعده القانونية - هي السلم الذي تتدرج عليه الجمعية من حالتها البربرية الأولى إلى مدنيات مختلفة، وصلت إلى ما نراه اليوم من عظمة السلام وعظمة الحرب. وهي السلم الذي ينتظر أن تصل عليه إلى أرقى مما نرى بكثير. لهذا فمهما تجاهد الجمعية بقوانينها ووحداتها الإيمانية، وإكراهها المادي والمعنوي تريد أن تخضع الأفراد لسلطانها، فسيبقى دائما في قرارة النفس الفردية شيء كأنه يثور على هاته القوانين والقواعد والوحدات، وعلى الرغم من هذا الإكراه؛ لأن هذا الشيء الكمين في النفس والإحساس الداخلي الذي يدفع الفرد مهما خضع لأوامر الجمعية التي هو منها؛ ليثور عليها أو ليفعل ما قد يضرها والموجود في كل الأفراد بكميات مختلفة هو أساس تلك الظاهرة الاجتماعية، التي يقوم عليها التطور الإنساني. هو نزعة الجنس إلى الكمال والتطلع الكمين في نفس الإنسانية. مأخوذة كوحدة قائمة بذاتها وسط وحدات الكون وعوالمه الأخرى، يريد بها أن تصل لتحتل مكان القلب والعقل والروح في نفس الوجود كله. على أن هذا الإحساس الدقيق العظيم تخمد جذوته في معظم النفوس، وتتحول في طريق لا يمكن أن يصل إلى الغاية المرجوة في نفوس أخرى في حين هو يوفق كل التوفيق، ويصل إلى أحسن النتائج في نفوس ثالثة، والخمود والتقهقر والنبوغ إنما تكون بمقدار استعداد تيارات الجسم للتلقي والإصدار، وللتفاعل مع الحوادث سلبا وإيجابا.
5
إن التطور الاجتماعي العظيم على سلم النزعات الفردية الذي وضعناه في الجزء السابق يرى مجسما في تاريخ الإنسانية، فالآلهة وأنصاف الآلهة القدماء والأنبياء من بعدهم والملوك والشعراء، والفلاسفة هم الذين كانوا المحور الذي دارت عليه المدنيات المتعاقبة. ولم يأخذ واحد من هؤلاء اسما في التاريخ كعامل من عوامل الرقي، أو التدهور الإنساني إلا بمقدار نزعاته الخاصة الخارجة على النظام الاجتماعي السائد في وجوده، بل إن تراجمهم لتدل على أنهم جميعا كانوا منظور إليهم بعين الاستغراب من الرأي السائد؛ لتفوقهم في القيام في وجه الوحدات الإيمانية الموطدة الأركان في النفوس. ولكن الذي لوحظ إلى جانب ذلك أن نزعات الأفراد الذين كانوا عوامل في رقي الإنسانية كانت نزعات تتفق مع قوانين حياة الاجتماع الطبيعية من حيث هي، وبكلمة أخرى إن هؤلاء الأفراد كانوا صيحة الجنس البشري نحو الكمال. وإن هذه النزعات على ما فيها من مصادمة الرأي السائد لم تكن إلا خطوات ضيقة جدا، وكانت جمعيتهم مهيئة لها، وإنما يقف في وجهها الماضي الذي قدس وحداته الإيمانية حتى صارت في نظر المجموع عقيدة لا يمكن أن تتحول. أما الأفراد الذين عملوا على تدرك الإنسانية، فكانت نزعاتهم ضد الاجتماع بل ضد الحياة - كانوا نذر الموت وأعلام الدمار. كانوا أفرادا ساعدتهم ظروف خاصة على الرجوع بالإنسانية إلى الوراء. ولكن الاجتماع أظهر القوة في كل الظروف التي حلت به فيها مثل هذه الكوارث، فلم يكن ينساق في تدركه؛ لهذا نرى استبداد ملوك الرومانيين لم يوقف سير المدنية إلا قليلا. بل لقد كانت شرور ذلك العصر سببا في إفاقات اقتضاها انفجار القوى المضغوطة برغم ما توصي به طبيعة الحياة.
والتاريخ لدينا حافل يشهد بما تقدم. ولنأخذ مارتين لوثر مثلا. ومارتين لوثر من الرجال الذين هزوا الإنسانية، وقسموا المسيحية إلى قسميها الكاثوليكية والبروتستانية. قام هذا البطل وسط العقائد والوحدات الإيمانية السائدة في القرن الخامس عشر لميلاد المسيح. وكانت سيادة هذه العقائد من القوة بحيث لم يكن لمن يقاومها إلا ملاقاة حتفه. فكم من أرواح أزهقت لا لشيء إلا أنها سمحت لأبسط الانتقاد أن يوجه صادرا منها إلى بعض شعب غير رئيسية مما تفرع عن هذه العقائد. ومثال هس وجيروم باق ينطق بما كان يلقاه المعارضون من أنواع التعذيب الذي كان ينتهي بموتهم حرقا. ولكن عصر لوثر لم يكن عصر هس وجيروم. فقد كانت النفوس في عصره مهيئة لقبول تعاليم جديدة، شعرت بها لازمة لحياة الجماعة؛ لهذا ما كاد ينشر تعاليمه حتى رحب به الأنصار والأشياع. فلما استدعى إلى مجمع ورمس ليناقش الحساب بعد ثلاث سنين من قيامه بنشر دعوته علت حوله الصيحات من كل جانب: «كن عند رأيك فأنا معك»، وكذلك كان، فجعل يدافع ساعتين عن آرائه في خطبة ألقاها كانت ما سميناه نحن صيحة الجنس نحو الكمال. ولقيت خطبة من أهل ذلك العصر استعدادا، فأقرها الناس وكانت فاتحة عصر جديد. ولكنها في الواقع لم تكن إلا خطوة ضيقة أعد الماضي لها الناس، فلما خطوها في عصر لوثر جاءت على أثرها خطوات، تأسست عليها مدنية أوروبا في العصر الحاضر.
ومارتن لوثر ليس إلا المثل المكرر من أمثلة المصلحين الذين قاموا في الإنسانية من يوم نشأتها إلى العصر الحاضر. ولكن الأكثرين من هؤلاء الأبطال المصلحين إن لم نقل: كلهم أقرب إلى الشعراء منهم إلى المفكرين؛ لأن من شأن المفكر أن تخمد القوة العملية فيه بمقدار ذكاء قوته الفكرية. فالفكرة التي تتكون في نفسه بدل أن تدفعه للعمل لإظهارها تنحل إلى فكرة أخرى، وإلى فكرة ثالثة وهلم جرا. وعلى ذلك تنقضي حياة المفكر في ملاحظات واستنتاجات، وتشكيك في الملاحظات والاستنتاجات، وردود على هذا التشكيك ومؤازرة للفكرة بأفكار أخرى. ولكن الأبطال المصلحين يقفون عند أفكار معينة تسمو على افكار الشعب الذي يقيمون بينه سموا محدودا في اتجاهه، وفي مقداره لاضطرار المصلح أن يلائم الوسط الذي يظهر فيه ملاءمة تسمح لسواد هذا الوسط أن يتبعه على طريق القياس ببعض ما عنده من الوحدات الإيمانية، التي أفلتت من القيود القديمة وسمحت لها مقتضيات الاجتماع أو أكرهتها ظروفه على التقدم بعض الشيء. ولكن المفكر لا يقف عند فكرة معينة، بل هو يتطلب دائما نتائج هذه الفكرة وآثارها، وارتباط النتائج والآثار بحياة الوجود العام وغير ذلك مما لا ينتهي، ومما هو مثار الشكوك الدائمة. كذلك تنقضي حياة المفكر في وسط خيالي لا يفهمه الناس ويتذوقه هو. ومحال أن يكون غير ذلك ما دام الفكر الإنساني محدودا والعالم غير محدود.
وضع المفكر العظيم أوجست كومت فلسفته الوضعية قضى في ترتيبها زهرة حياته. ولما اكتهل صادفته مدام دفو، فوصل من الإعجاب بها إلى حد تقديسها. وهنالك داخلت نفسه نزعة شعرية فانتقل من فلسفته إلى سياسته التقريرية آخذا النتائج التي وصل إليها من طريق الملاحظة والاستقراء ملبسا إياها نفسه، ثم نافثا لها في صيغة شعرية أشبه الأشياء بالصيغة التي تأخذها كتب العقائد. هنالك حكم عليه أنصاره أنفسهم بأنه قضى كمفكر؛ لأن النتائج العظيمة التي وصل إليها في فلسفته ليست خاتمة ما يمكن أن يصل إليه الملاحظ والمستقرئ؛ ولذلك وقفوا في مناصرته عند الذي وصل إليه من فلسفته، واستمروا في الطريق الذي كان هو سائرا فيه. استمروا يفكرون.
2
وهذا النوع من الحياة وأقصد إذكاء الفكرة، وجعلها تدفع إلى فكرة أخرى لا إلى عمل من أعمال الحياة يفقد هذه الأعمال قيمتها في النفس. وذلك هو السبب في ضعف إحساس المفكر بالمسئولية. فهو يترك الحياة المادية تسير كما يحلو لها أن تسير منقطعا إلى حياته العليا، فتصبح الأعمال عنده موضع ملاحظة، ونظر كأنها شيء آخر مستقل عنه، فلا تستدعي منه أسفا ولا غبطة. ولكن الذي يستوقفه ويستدعي إعجابه أو انقباضه هو الفكرة الجميلة أو الفكرة المجرمة.
يتضح مما تقدم أن أصحاب الشذوذ الفكري والمجانين العظماء والمفكرين هم شواذ في الجمعية، ولكنهم أثر من آثارها هم الملتقى الذي تصل عنده وحداتها الإيمانية المتضاربة في أغلب الأحيان، تضاربا إن اتفق مع الحياة فهو لا يتفق مع التقدم. والتقدم والارتقاء هما آثار التطور الذي هو أحد القوانين الرئيسية لنظام الجمعية وخلودها. وعلى اعتبار هؤلاء الأشخاص شواذ لازمين قطعا لوجود الجمعية الإنسانية، من حيث هي الجمعية الإنسانية في صورتها غير المحدودة بالمكان والزمان والقائمة بين الأزل والأبد - على هذا الاعتبار، سمح لهم الرأي السائد في كل العصور أن ينتهكوا حرمته، ويحولوا تياره؛ لأن الرأي السائد يحتوي جرثومة التطور والتقدم. هذا هو ما جعل فكرة المسئولية تنطبع في نفوس هؤلاء الأفراد على نحو مبهم، أقرب لأن يكون طابع المستقبل منه لأن يكون طابع الجمعية الحاضرة.
Неизвестная страница